حين اجتاح إبراهيم باشا الشام وانتزعها من سلطان الخليفة
العثماني وضمها لسلطان أبيه محمد علي باشا الكبير، جاءه شيخ الجامع الكبير في دمشق
يسأله سؤالا بديهيا: لمن يدعو في الخطبة؟
كانت خطبة الجمعة طوال عهد الخلافة الإسلامية تشتمل على
الدعاء للخليفة، وهذا الدعاء هو عنوان تبعية هذا البلد للسلطان أو الخليفة، وكان
قطع الخطبة للخليفة أو السلطان يعني انتزاع البلد منه والتمرد عليه.
ماذا
فعل إبراهيم باشا؟
وضع
هذا الشيخ في الفلقة وضربه أمام الناس عقابا له. لأن مجرد طرحه هذا السؤال هو
تشكيك في تبعية وإخلاص إبراهيم باشا للسلطان العثماني، وهي تهمة غير مقبولة ولا
يُسمح لأحد أن يفكر فيها أصلا!
هذا
وإبراهيم باشا هو الذي انتزع الشام فعليا من سلطان العثمانيين، وقاتل جيوشهم في
معارك عديدة في الشام والأناضول حتى شارف على القسطنطينة لولا تدخل التحالف
الأوروبي لمنعه حفاظا على توازن القوى في الشرق ولإبقاء السلطنة العثمانية في حال
الرجل المريض.
وبرغم
كل حروب محمد علي مع الجيوش العثمانية فإنه لم يسع أبدا إلى إعلان التمرد أو نزع
الطاعة من السلطان العثماني، وإنما غاية ما أراد أن ينتزع منه الحق في أن تكون
ولاية مصر له ولأولاده من بعده، أي أنه دفع الدماء والأموال ولم يجن عمليا إلا
"شرعية" بقاء الحكم في أولاده من بعده، بأمر يصدر عن الخليفة
"الشرعي".
وهنا
يأتي السؤال الذي ما كان ينبغي أن يُطرح ولا أن يُجتهد في الإجابة عليه لولا ما
نحن فيه من بيئة سياسية مريضة للأسف الشديد، السؤال: لماذا يحتاج الطغاة إلى
"شرعية"؟!
لماذا
يحتاج السيسي، برغم كل ما يتلقاه من دعم إقليمي ودولي ماديا وسياسيا، أن يؤكد
ويكرر أنه "أنقذ مصر" ممن شعارهم "يا نحكمكم يا نقتلكم"؟
ولماذا لا يزال شبح كونه منقلبا يلوح في خطاباته وخطابات أبواقه الإعلامية؟ لماذا
يضطر السيسي –مثلا- أن يخلع زيه العسكري ويدبر انتخابات ساخرة لكي يصير رئيسا؟!
لماذا يضطر أن يصنع لجنة لكتابة الدستور ثم استفتاء عليه؟! لماذا يضطر أن يدبر
انتخابات برلمانية هزلية؟!
لا
يفعل الطغاة كل هذا إلا ليكتسبوا اسم "الشرعية"، ويغطون شهوتهم العارمة
في الحكم بغطاء من "الشرعية".. وما ذلك إلا لأن الشرعية قوة.
الشرعية
قوة، وهي دائما موضع نزاع، وعليها تدور معركة طاحنة.. ولذلك فدائما ما يبادر العدو
إلى انتزاعها، فما إن تشتعل أزمة في أي من بلادنا ثم يميل الميزان لصالح الشعوب أو
لصالح ممثلي الأمة، إلا وينزل إلينا كائن بغيض يسمى "مبعوث الأمم المتحدة"..
هذا المبعوث سواء أكان اسمه الأخضر الإبراهيمي أو جمال بن عمر أو برناردينو ليون يبدأ
مباحثاته بين الأطراف ببند يقول: "الحوار بلا أي شروط ودون أي أسس مسبقة"..،
وتدور اقتراحاته حول: مجلس وطني موسع، حكومة تضم كل الأطراف، رئيس توافقي، حكومة
وفاق وطني ... إلى آخر هذه الاقتراحات.
وهذه
الاقتراحات التي تبدو ناعمة كالأفعى تحمل داخلها السمَّ الناقع، إذ هي تعني على
الحقيقة ثلاثة أمور:
1.
رفع الصغير وتمثيله
بذات قدر الكبير
2.
إدخال شروط العملاء
والانفصاليين والمجرمين لتبحث باعتبارها "مطالب شركاء وطنيين"
3. نسف وإهمال أي ثوابت قديمة أو شرعيات قائمة
لتكون البداية من الصفر وبلا أي مرجعيات
مع
كل ما ينبعث من هذه الثلاثة من نتائج كارثية على أي قضية، لأنها تتيح تفتيت ثوابت ووضع
ثوابت جديدة، وهدم شرعيات قائمة وإقامة شرعيات جديدة. واستبعاد أو تهميش أطراف قائمة
ورعاية أطراف جديدة!
من أجل هذا كانت العادة في الانقلابات العسكرية أن يُقتل
الرئيس السابق لينتهي النزاع حول الشرعية، إلا أن الانقلاب في مصر كان من السهولة
والبساطة بحيث يندرج في طائفة الانقلابات التي وضعت الرئيس السابق في السجن ومهدت
لمحاكمته لأنه لا يُخشى من أنصاره شيئا، فيكون قتله بسكين القانون بعد محاكمة
مزخرفة ألطف منظرا من قتله بسكين العسكر بجريمة دموية.
لهذا فلا ريب في أن الشرعية –وهي قوة معنوية- تحتاج قوة
مادية تحميها، وهو النموذج الذي لم يحدث في واقعنا المعاصر إلا مرتين: غزة 2007،
تركيا 2016م. بينما القوة المادية الخالية من أي شرعية أقدر على صناعة أو حتى شراء
شرعية لها، وهذا السيسي يشتري السلاح الذي لن يستخدمه بمليارات الدولارات ويعقد
صفقات إنشاء محطات نووية بديون غير مسبوقة، ويبيع الأراضي ويبيع الجنسية ويزيد من
طحن الناس، وبإمكاننا أن نتوقع المزيد إذ لا تنفد أساليب الطغاة الشياطين، حتى إن
بعض الرؤساء الأفارقة أجَّر أرض بلده لدفن النفايات النووية!!
لذلك لا بد للشرعية –القوة المعنوية- أن تساندها قوة
مادية، وهنا تظهر الشرعية كقوة حاسمة في المعركة، ومن يقرأ التاريخ يعرف أن التنازل عن "الشرعية" لا يفعله عاقل، ويمكن
أن نضرب على هذا الكثير من الأمثلة المنثورة في كتاب التاريخ:
(1) لقد عجز الخليفة القوي هشام بن
عبد الملك الأموي عن خلع ولي العهد الوليد بن يزيد لما له من بيعة شرعية بولاية
العهد، وهو ما وقفت معه القبائل اليمانية التي كانت عماد الدولة الأموية في ذلك
الوقت، وتولى يزيد الحكم، ولما جرى انقلاب عليه انقسم البيت الأموي على نفسه حتى
بلغ الانهيار.
(2) ولقد هَزَم أبو جعفر
المنصور أبا مسلم الخراساني وقتله في ظرفٍ كل موازين القوى فيه لصالح أبي مسلم ولا
يملك أبو جعفر إلا شرعية كونه من بيت الخلافة من آل البيت النبوي، وهذا وحده ما أجبر
أبا مسلم على أن يذهب لأبي جعفر رغم توجسه الشديد حتى كان في ذلك نهايته.
(3) ولقد استطاع عبد الرحمن
الداخل الذي لا يملك إلا نسبه الأموي (وهذه هي شرعية ذلك الوقت) أن يؤسس حكما في الأندلس
حتى لقد قال زعيم القيسية كلمة مدهشة مفادها أن نزاعه مع اليمانية نزاع أنداد بينما
"لو نزل هذا الفتى جزيرتنا فبال غرقنا في بولته".. وكان عمر الفتى 23 عاما
فقط، وبشرعيته هذه انصاعت له القبائل حتى أسس الدولة الأموية في الأندلس وانتظمت
له الأمور التي عجز سائر من قبله على الانتظام لها لأن أحدا لم يكن يمتلك شرعية
البيت الأموي.
(4) ولقد عجز كل من سيطروا
على الخلفاء العباسيين من تُرك وبويهيين وسلاجقة عن خلعهم من منصب الخلافة رغم انهيار
ميزان القوة ضد الخلفاء، بل لم يكن للخلفاء قوة إلا شرعية المنصب.. وهو ما أتاح ظهور
خلفاء أقوياء بعد عصور الضعف ولو طالت.
(5) ولقد عجز المنصور بن أبي عامر وهو من أقوى ملوك الإسلام عن عزل الخليفة الصبي هشام
بن المستنصر، وظل يُنادى بالحاجب المنصور أو الملك.. بينما عطاؤه للأمة لا يقارن بهشام،
وما ذلك إلا لأن هشاما أموي من سلالة الخلفاء، وتلك الشرعية في ذلك الزمن!
(6) وحين وقع الاضطراب في
الأندلس ودخلت في عصر ملوك الطوائف، قوَّى بنو عباد ملوك إشبيلة موقفهم السياسي
حين وجدوا رجلا شبيها بالخليفة الأموي هشام بن الحكم المستنصر، فصاروا به الأعلى
يدا على سائر الممالك الأندلسية، بل وأعلنت بعضها الخضوع للخليفة، وما كان ذلك
ليمكن لولا تلك الشخصية التي تمثل قوة الشرعية.
(7) بل إن السلطان المملوكي
محمد بن قلاوون تولى السلطنة طفلا لأنه الوحيد الذي يملك "شرعية" -بمفهوم
الشرعية آنذاك- في ظل تضارب قوى العساكر الأقوياء من حوله، وكان كلما خُلِع كلما أعيد
إلى السلطنة مرة أخرى.. حتى اشتد عوده وحكم بنفسه ثلث قرن فكان من أقوى السلاطين المماليك
عبر تاريخهم كله.
(8) ولقد اكتسب المماليك
شرعية حكمهم من كونهم حماة الخلفاء العباسيين، ولم يفكر المماليك –ولو في عنفوان قوتهم- في عزل العباسيين من الخلافة على ضعفهم
سائر تلك المدة، وظل الخليفة ضعيفا لكن وجوده يحمي شرعية الحكم، وبرأيي أنه لولا أن
كانت دولتهم عسكرية في جغرافية سهلة كمصر، لاستطاع العباسيون أن يجددوا ملكهم لو ظهر
فيهم قوي وحاول. ولم تزل الشرعية عن دولة المماليك إلا بقضاء العثمانيين على
الخليفة العباسي وأخذه من القاهرة إلى اسطنبول.
(9) وكانت شرعية السلطنة
العثمانية هي الراية التي يرفعها سائر المجاهدين للاحتلال الأجنبي في العالم
الإسلامي، ولم تكن الوطنية تعني استقلالا عن الخلافة العثمانية، وتراث المقاومة في
مصر منذ عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد ورشيد رضا يشهد بتعلق هؤلاء بالراية
العثمانية وشرعية الخلافة العثماني ضد الاحتلال.
(10) وسائر الاحتلالات
الأجنبية التي حاولت أن تترسخ في بلادنا إنما ادعت أن دخولها إلى هذه البلاد كان
بإذن من السلطان العثماني أو هو حماية للسلطان العثماني كما فعلت الحملة الفرنسية
ثم الاحتلال الإنجليزي، وكان السلطان العثماني وهو في أضعف حالاته إذا أراد أن
يكشر عن أنيابه في مفاوضات مع الأجانب هددهم بأنه يملك "إعلان الجهاد"
ويملك أن يستثير كل المسلمين بما له من شرعية.
ونستطيع أن نأتي من
الواقع المعاصر بتجارب أخرى كفشل الانقلاب على بوريس يلتسين في روسيا مطلع
التسعينات، وفشل الانقلاب على تشافيز في فنزويلا، وغيرهما..
ونحن إذا نظرنا في حالتنا
المصرية فلن نجد بأيدينا ورقة قوة سوى ورقة "الشرعية" هذه، والفضل فيها
أولا للشيخ حازم أبو إسماعيل الذي شق طريق ترشح الإسلاميين للرئاسة وأثبت أن الشعب
يريدهم، ثم للصمود الباسل للرئيس محمد مرسي الذي كان يستطيع بكلمة أن يتنحى فيسبغ
شرعية على الانقلاب العسكري ثم يعيش آمنا، لكنه اختار أن يبقى الحق حقا والباطل
باطلا ولو كان الثمن هو سجنه أو دمه.
فليس، والحال هذه، أبأس
من سياسي لا يعرف حلا لهذه الأزمة إلا أن ينظر ويفلسف ويخطط لاصطفاف ليس فيه إلا
بند واحد يُتفق عليه: التخلي عن ورقة الشرعية هذه. ثم لا يتفقون بعدها على شيء
أبدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق