لماذا لم تستطع شعوبنا إخراج خبراء في
الحضارة الغربية عبر جامعاتها أو مراكزها البحثية؟
ثمة العديد من الصعوبات التي تحول دون هذا،
ولكن جماعها -فيما نرى- أربعة:
§
الضعف
الإسلامي بشقيه السياسي والعلمي
§
السيولة
واختفاء المقدس في الفكر الغربي
§
غزارة الإنتاج
الغربي وانتشاره في كثير من اللغات
§
سمة السرعة
التي تميز العصر والتي تؤثر على العلوم بما يجعلها أسرع إلى التفرع والانقسام.
وفي هذه السطور نتناول السبب الأول، ونرجئ الباقي إلى المقالات القادمة
بإذن الله.
1. الضعف الإسلامي
وهو في الواقع ضعف متعدد الوجوه، لكن أولها وأهمها
وجماعها هو الضعف السياسي، وترتب عليه الضعف العلمي[1]؛
إذ "العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله، وفي الأمثال
الحكمية: الناس على دين ملوكهم"[2].
والعلوم لا تنشأ لمجرد الرغبة التي تتحرك في أذهان
العلماء أو الفلاسفة، بل لا بد لها من رغبة دافعة، وهذه الرغبة غالبا ما تكون من
جهة الدولة والسلطة، لأنها بما تملك من إمكانيات ونفوذ تستطيع تحويل الرغبات إلى
إجراءات وواقع، والاستشراق نفسه نشأ على أيدي البابوات أول الأمر وهم في ذلك الوقت
كانوا الملوك والسلاطين على الحقيقة في أوروبا، واستمر بعد ضعف الكنيسة بدعم من
الملوك والحكومات لما له من فائدة في مشاريع التوسع والاستعمار، يقول رودي بارت:
"الاستشراق في ألمانيا حاليا وفي العالم الأوروبي الحديث كله مادة علمية معترف
بها من الجميع... نعترف شاكرين بأن المجتمع ممثلا في الحكومات والمجالس النيابية يضع
تحت تصرفنا الإمكانات اللازمة لإجراء بحوث الاستشراق للحفاظ على نشاطنا التعليمي في
هذا المضمار... وما تطلبه الدولة والمجتمع منا -معشر المستشرقين- هو بصفة عامة العمل
كمدرسين وباحثين متخصصين... أما التصرف في أمر الموضوعات الخاصة التي ينصب عليها الدرس
والبحث فمتروك لنا"[3].
إن مجرد وجود الحاجة إلى العلوم فهذا ليس كافيا لنشوئه،
خصوصا وقد صارت العلوم –منذ عقود أو حتى قرون- من السعة بحيث لا يمكن تنفيذها
بالمجهودات الفردية أو حتى عبر مؤسسات صغيرة، ومنذ ظهور الدولة المركزية المسيطرة
على كل نشاط مجتمعي فقد صار كل شيء رهنا بإرادة السلطة، فكيف إذا كانت هذه السلطة
هي في التحليل الأخير وكيلا لعدو الأمة؟!
لقد ضيع الاستبداد اللحظة الأولى في التعرف على الغرب
والإفادة منه قبل أن يأتي زمن الاستعمار، فمنذ البداية "لم يرغب محمد علي في
أن يتعرف طلابه إلى الحياة في فرنسا أكثر مما ينبغي"[4]،
كما لم يرغب باي تونس ولا السلطان عبد الحميد في تقليص سلطتيهما فقُبِرت مجهودات
خير الدين التونسي، ثم آل مجهود الطهطاوي ورفاقه في عهد أولاد محمد علي إلى البوار[5]،
يقول الشيخ محمد عبده في مقال هو أجمع ما كتب عن محمد علي: "أرسل جماعة من طلاب
العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها. فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟
كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع. وُجد بعض الأطباء
الممتازين وهم قليل، ووجد بعض المهندسين الماهرين وليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد
علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين ولم يكن أحد من
الأعوان مسلطا على المهندس عند رسم ما يلزم من الأعمال ولا على الطبيب عند تركيب
أجزاء العلاج فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من
النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين. هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون
الحربية؟ أين هي؟ وأين الذين نبغوا من طلابها؟ فإن وُجد أحد نابغ، فهل هو من المصريين؟
عدوا إن شئتم أحياءً أو أمواتا. وجد كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى من التاريخ
والفلسفة والأدب ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طبعت وغلقت عليها الأبواب
إلى أواخر عهد إسماعيل باشا فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها، وتخفيف ثقلها
عنها، فنثرتها بين الناس فتناول منها من تناول، وهذا يدلنا على أنها ترجمت برغبة بعض
الرؤساء من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد لكنهم لم ينجحوا؛ لأن حكومة
محمد علي لم توجد في البلاد قراء ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون"[6].
فهذا أثر الاستبداد وهو قوي مستقل، فكيف إذا اجتمع
الاستبداد مع الضعف؟! وكيف إذا اجتمع الاستبداد مع الضعف مع الهيمنة الأجنبية[7]؟!!
ثم كيف إذا كانت هذه الهيمنة الأجنبية شاملة: سياسية
وعسكرية واقتصادية وعلمية، تحارب بالمال والسلاح والإعلام لئلا ينهض العالم
الإسلامي؟!!
لقد أثمر هذا -ضمن ثماره المرة الكثيرة- ضعفا علميا
ظاهرا على كافة المستويات: مستوى المتابعة ومستوى الإنتاج، مع ضعف ظاهر في
المؤسسات البحثية والجامعات، ومستوى الطلاب والأساتذة والباحثين[8].
وفي حين يُنفق بسخاء وبذخ على الاستهلاك والترفيه، بل
على الحرام الصريح، تشكو مؤسسات البحث العلمي من قلة التمويل!
ومهما تحدثنا عن دور أصحاب الأموال فالواقع أن دور
الدولة يبقى جوهريا في دعم البحث، ومن الثابت أن مرحلة بناء الدولة أو الأمة –كما
في حالة معظم بلادنا الإسلامية- يكون دور السلطة فيها هو الأهم والأقوى[9].
نشر في ساسة بوست
[1] يقول تقرير التنمية الإنسانية العربية – 2003: "من السمات المميزة
لعدد من الجامعات في الوطن العربي قلة استقلالها ووقوعها تحت السيطر المباشرة
للنظم الحاكمة... ومن آثار حالة التبعية للنظم الحاكمة أن أصبح بعض الجامعات يدار
وفقا لمقتضيات المنطق السياسي الحاكم وليس وفقا لخطة أو سياسة تعليمية
حكيمة". ص56.
[5] تعجب تقرير التنمية الإنسانية العربية (2003م) من أن "محاولات التحديث
العلمي في القرن التاسع عشر بل وفي منتصف القرن العشرين –محمد علي، عبد الناصر- لم
يبذل أصحابها جهدا كبيرا للاستفادة من هذا الإرث (العلمي للحضارة الإسلامية)
والبناء عليه بالاستفادة من عبره، خاصة فيما يتصل بأسباب النهضة العلمية العربية،
بل سعوا رأسا إلى نقل ما كان في الغرب". ص44.
[7] من واقع دراستي الهندسة الإلكترونية في واحدة من أبرز كليات الهندسة
العربية، أستطيع أن أؤكد بأن التخلف الذي يصيب التعليم في بلادنا هو قرار مقصود لا
مجرد أثر من آثار الفساد أو سوء الرقابة.
[8] أثبتت
دراسة أجريت على 9 دول عربية في مجال التحصيل العلمي لطلاب التعليم الأساسي أن
متوسط أداء الطلاب العرب أقل بـ 15% من المتوسط العالمي، كما أثبتت دراسة أخرى
أجريت على 17 جامعة عربية أن اثنين منها فقط حصلت برامج التدريس فيها على تقدير
"جيد"، وواحدة فقط كانت آليات ضمان جودة التعليم فيها "جيدة"،
وواحدة فقط كانت "الموارد والتسهيلات المتوافرة للتعلم" جيدة، ولا تصل
كفاية التدريس في أي جامعة إلى مستوى "جيد"، مع ضعف غالب في المؤشرات
ذات الطبيعة الأكاديمية (تقرير التنمية الإنسانية العربية – 2004، ص35، 36).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق