هل
بقي ثمة من يؤمن بالديمقراطية أو يريدها في العالم العربي؟
كيف
وقد بدا أنها كصنم لا ينفع ولا يضر، من جاء بالديمقراطية تزيحه الدبابات، ومن جاء
بالدبابات لم يؤثر فيه التوسل بالديمقراطية؟
مهما
كان جمال الصنم المنحوت، ومهما كانت متانة الكهنة الذين كتبوا صحفه وتفسيراته، فإن
الواقع البائس يعطينا صورة بائسة للمتمسك بالديمقراطية حين يرى صنمه ينهار تحت
نعال الانقلابات العسكرية والمواقف الدولية.
(1) فلاسفة الديمقراطية يشرحون: كيف تصنع انقلابا ناجحا؟!
حتى فرنسا نسيت حادثة نيس التي تبناها "تنظيم
الدولة الإسلامية" ودخلت على خط مطالبة أردوغان باحترام القانون والقضاء
وتوفير حقوق الانقلابيين! فانضمت بهذا إلى المعزوفة الحقوقية التي أطلقتها العواصم
الغربية: ألمانيا وانجلترا وأمريكا، وما صدر عن الاتحاد الأوروبي والناتو والأمم
المتحدة.
تلك التصريحات تثبت أن انتصار أردوغان في تركيا لم يكن
انتصارا على حفنة من العسكريين، بل هو انتصار على العواصم الغربية التي تعاملت
تماما وكأنها مهزومة تفتش في وسائل تحجيم المنتصر والتضييق عليه وإهدار مكاسبه!
كانت التعليقات الغربية الأولى على الانقلاب العسكري
تؤيده من طرف خفيّ، عبرت رسالة للسفارة الأمريكية بأنه "انتفاضة"،
الخارجية الأمريكية استعملت مصطلح أزمة، ثم أوباما كشف عن أنه "يراقب
الوضع"، ثم ما إن بدا فشل الانقلابيين حتى صدرت الإدانات الصريحة رسميا،
بينما كانت وسائل الإعلام الغربية تسأل خبراءها الأمنيين والعسكريين سؤالا واحد:
لماذا فشل الانقلاب في تركيا؟!
الخبراء من جهتهم لم يقصروا في الإجابة، وكشفوا عن أمور
"كان من المفترض" أن يقوم بها الانقلابيون كي ينجح انقلابهم!
قد تبخرت الديمقراطية، وحلَّ محلها "كيف تصنع
انقلابا ناجحا على الديمقراطية"!!
هل ينبغي أن نلوم الغرب؟
تلك العاهرة التي لا تدعي الشرف فحسب! بل تدعي أنها التي تحافظ على الشرف في كل
العالم!
الحق أنه ينبغي أن نلوم
أنفسنا، ينبغي أن ننبذ كل من يعتمد في تحليلاته السياسية أو توصياته الميدانية على
رأي "المجتمع الدولي، القانون الدولي، الرأي العام العالمي... إلخ"،
فيخيل إلينا أننا نعيش في عالم تُحْتَرَم فيه المبادئ أو حقوق الإنسان أو إرادة
الشعوب.. يجب أن نتعامل مع الغرب على حقيقته، وحقيقته أنه عدو مبين، لم يتردد أبدا
في ارتكاب أي جريمة.
ومن عجيب الاتفاق أن ذات
أيام الانقلاب التركي الفاشل شهدت تصريح رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، فقد
سُئلت في مجلس العموم: هل توافقين على قرار توجيه ضربة نووية تقتل مائة ألف إنسان
بما فيهم النساء والأطفال؟ فقالت دون تردد ولا تلعثم: نعم. إن فكرة الردع النووي
قائمة على أساس أننا سوف نستخدم السلاح النووي.
(2) متى دخلت الديمقراطية
بلادنا؟
لم يحاول الغرب إدخال
الديمقراطية في بلادنا إلا لأنها وسيلته للسيطرة عليها وتفجير التوترات فيها،
ولذلك يمكن أن نرصد مشهدين متناقضين في مصر وتركيا.
أما في مصر حيث الشعب
متجانس فلم تسع الدول الغربية إلى أي ديمقراطية بل سعت دائما لجعل الأجانب أقوى
وأوسع نفوذا من المصريين، وذلك بإجراءات كثيرة أبرزها المحاكم القنصلية ثم
المختلطة التي كانت تحاكم الخديوي نفسه وتفرض الحراسة على أملاكه. وتعاملت بكل
الازدراء والإهمال مع أي منتج للديمقراطية من برلمان أو حكومة أو قرارات تصدر عنه
تراقب الأوضاع المالية، بل كان من أسباب اشتعال الثورة العرابية أن الوزراء
الأجانب لا يريدون المساءلة أمام البرلمان المصري المنتخب المعبر عن الأمة. ثم ما
إن دخل الاحتلال الإنجليزي وسيطر على البلاد حتى حلَّ البرلمان وأوقف عمله لأربعين
سنة.
بينما في ذات هذا الوقت
كانت حمى الديمقراطية تفور بالنسبة للسلطان عبد الحميد، وكان الغرض منها إعطاء
الأقليات الدينية والعرقية نفوذا أوسع وحضورا في البرلمان (مجلس المبعوثان) وفي
الدستور الجديد، بما يزيد من إضعاف السلطنة العثمانية ومن طموحات حركات الانفصال
عنها، وقد حاول عبد الحميد مناورة هذه الضغوط ولم يفلح، فاضطر إلى أن يحل البرلمان
ويلغي العمل بالدستور فجاءه انقلاب عسكري خلعه وأعاد العمل بالدستور، لتبدأ تركيا
مرحلة انهيارها الشامل من 1909 والتي وصلت إلى اختفائها من مشهد القوى العالمية
وإلغاء الخلافة.
ولم تزل هذه سنة الغرب
معنا.. فالغرب هو الذي يدعم ويرعى بقاء الأنظمة المستبدة، ثم يُحاسبنا على أننا
دول مستبدة ومتخلفة ولا ينضج فيها النظام الديمقراطي، ويأتي فلاسفته –وعملاؤه في
الداخل- ليعطونا دروسا في الديمقراطية والنظم الحديثة، رغم أنهم نتاج هذه السلطات
المستبدة التي فتحت لهم الصحف والجامعات ومراكز الأبحاث وقنوات التلفاز، وهم
أنفسهم لم يدعموا أبدا أي حراك ديمقراطي ولم يُضبطوا متلبسين بالهجوم على
المستبدين، وهم أنفسهم عند أي لحظة فارقة يصطفون إلى جوار الاستبداد ضد رغبة
الشعوب.
(3) هل تحتاج بلادنا إلى
التحرر أم الديمقراطية؟
إن أنظمة الاستبداد تثير
في الناس أشواق الحرية والديمقراطية، ولكن هل يستطيع الحصول على الديمقراطية
ضعيف؟!
إن بعض الأنظمة تبخل على
شعوبها بمجرد برلمان منتخب حتى هذه اللحظة، والأنظمة التي "تفضلت" على
شعوبها ببرلمان إما أعطتهم برلمانا منزوع الصلاحيات أو برلمانا تصنعه هي بالتزوير،
أي أن النظام في النهاية يزين نفسه ولا يفكر أبدا في أن يكون خادما للناس ومعبرا
عنهم!
ولقد حاولت الحركات
السياسية سلوك ما هو متاح فوجدت الطرق أمامها مغلقة، البرلمان مزور أو منزوع
الصلاحيات أو يحل في العام مرتين حتى يرضى عنه الأمير أو الملك، الصحافة حكر على
المنافقين، القضاء يعمل في خدمة السلطة، وحتى الثورات الشعبية التي تنفجر تقابل
بحميم النيران كما هو في سوريا وليبيا أو بالانقلابات العسكرية كما هو في مصر.
فإذا تسلل رئيس في ظروف استثنائية كمصدق في إيران ومرسي في مصر ومندريس وأربكان وأردوغان
في تركيا حوصروا بالضغوط من كل جهة ثم دبرت عمليات الإطاحة بهم من السفارات
الأجنبية.
فكيف تأتي الديمقراطية؟
ومن ذا الذي يأتينا بها؟!
لم يفلت من كل هذا سوى
نموذجان: حماس في غزة وأردوغان في تركيا، ولولا أن لكليهما قوة مسلحة داخلية تدين
بالولاء لهما ما أغنت عنهما الديمقراطية ولا أصوات الناس شيئا، ولكانا قد كررا
مصائر مصدق ومندريس ومرسي.
الواقع أننا نحتاج للتحرر
لكي نستطيع –إن أردنا- حماية الديمقراطية، ديمقراطيتنا التي تعبر عنا ولا تخالف
ديننا ولا قيمنا، أو إن أردنا صنعنا نموذجا آخر، فنحن أحرار ولنا حضارة زاهرة
ونستطيع أن نبتكر من النماذج ما هو خير وأحسن لنا وللعالمين.
ولا يكون ذلك إلا إن
تحررنا حقا وامتلكنا قرارنا.. ودون ذلك حروب ودماء وأهوال، وتلك هي سنة الدول عبر
التاريخ، بما فيها تلك الدول التي تقهرنا الآن: لم تصل منها دولة إلى هذا المكان
إلا بعدما حاربت وكافحت وتحررت.
(4) على الكتائب يُبْنَى
الملك
هكذا قال شوقي:
فَقُلْ لِبانٍ بقولٍ ركن
مملكة .. على الكتائب يُبْنى الملك لا الكتب
ومن عجيب الاتفاق أنه
قالها في مدح أتاتورك يوم أن ظنه بطلا إسلاميا يعيد تجديد الدولة العثمانية، فمدحه
بقصيدته الشهيرة التي ألفها على الوزن والقافية لقصيدة أبي تمام في فتح عمورية
(السيف أصدق إنباء من الكتب)، وكان مطلع قصيدة شوقي:
الله أكبر كم في الفتح من
عجب .. يا خالد الترك جدد خالد العرب
إن خلاصة التاريخ في
التاريخ السياسي، وخلاصة التاريخ السياسي في تاريخ الحروب، وبالحروب وحدها تتغير
موازين القوى في العالم، ومن الحروب وحدها تنشأ دول وتنهار دول، الحروب هي نهاية
السطر في كل مملكة زائلة، وهي بداية السطر في كل دولة ناشئة.
وإن قوما يعيشون عصر
الانقلابات العسكرية لهم أغنى الناس عن ضرب الأمثلة التاريخية، إذ التاريخ يُكتب
على أجسادهم ومن دمائهم، وها قد انهار النموذج الوحيد الذي كان يتمسك به من لا
يحبون مواجهة هذه الحقيقة: حقيقة بناء الدول بالسيف، ها قد انهار النموذج التركي،
ورأى الناس كيف أن الجيش لا يحترم الشرعية ولا الديمقراطية، وكيف أن العالم من
ورائه يأكل أصنامه التي عاش حياته يزينها ويروجها ويبيعها للزبائن المغفلين. ها قد
صحح الانقلاب التركي وهما أريد له أن يروج، ويرى أصحاب التجارب كيف أن أردوغان لم
ينقذه سوى قواته الخاصة التي تصدت للانقلاب واعتقلت الانقلابيين والتي تنفذ الآن
حملة تطهير شاملة، وبهذا وحده يكون أردوغان قد تمكن.
ليس الأمر سهلا بأية حال،
فخلف الانقلابيين نظام دولي يدافع عنهم الآن، وهو النظام الذي لا يسمح بالاستقلال
الحقيقي لتركيا، وسنرى في الأيام القادمة أحد شيئين: إما استسلام أردوغان (وهو ما
نرجو الله ألا يكون) أو دخول المواجهة مرحلة جديدة، مرحلة لها ثلاث خطوات أساسية:
اغتيال أردوغان، العقوبات الاقتصادية على تركيا، الحرب والمواجهة.. مع محاولات
مستمرة لإحداث اضطرابات أمنية وسياسية وعسكرية!
تلك الحرب التي إن انتصر
فيها أردوغان كُتب السطر الأول من استقلال تركيا في التاريخ الحديث، وإن هُزِم
فيها كُتب السطر الأخير من تجربة لم تنجح!