لم تمت الثورة ما دام في الشوارع من يكافح عنها، ولكن
النداء عليها بصيغة الميت "واثورتاه" من معاني الحماسة التي اشتهرت في
تاريخنا كقول المرأة "وامعتصماه" وقول قطز "وا إسلاماه"، غير
أن الحال صعب وفي ضيق وكرب، والأمل في الله لا ينقطع ثم في الشباب الذين يجددون
الثورة ويخوضون الآن أحرج معاركها.
لكن الفارق بين الثورة إذ هي شباب هادرة، وبينها بعد أن
تآمر عليها العسكر ومن خلفهم عروش ملوك وامبراطوريات فارق كبير.
(1)
الحاكم يريد إحياء النظام..
ليس من تعبير أقوى عن الفارق بين الثورة والانقلاب مثل
الفارق بين "الشعب يريد" و"الحاكم يريد"، في الأولى الحاكم
يستجيب للشعب وإن رغما عنه، وفي الثانية على الشعب أن ينزل لتفويض الحاكم ليفعل ما
يشاء!
بعد الثورات يكون الشعب سيد نفسه ومالك أمره، وإذا ما
تجاوزنا المطبات والمناورات التي عبرت بها ثورة يناير فإن صلب الحركة الثورية
والمسار السياسي كان بيد الشعب، فالشعب هو الذي وافق على تعديلات دستورية، ثم هو
الذي انتخب ممثليه لمجلس الشعب، وممثليه في مجلس الشورى، وهم بدورهم انتخبوا لجنة
لكتابة الدستور، وهو من وقف المرشحون أمام الشاشات يستعرضون مهاراتهم وبرامجهم
ويتعرضون لامتحانات قاسية ليحاولوا إقناع الشعب بالتصويت لهم، ثم وقف الشعب في
الطوابير واختار من شاء في ظل حرية إعلامية ظاهرة، ثم نزل الشعب ليقرر رأيه في
الدستور الذي كتبته لجنة منتخبة.. وهكذا كان المسار بعنوان "الشعب
يريد".
بعد الانقلاب يختفي الشعب من المعادلة تماما، ويأتي
الحاكم ومعه أجهزة الدولة والإعلام والأموال ليفعل ما يريد، فكل من ساهم في كتابة
خريطة الطريق شخصيات غير منتخبة ولا تمثل إلا نفسها، فالعسكر هم مجرد موظفين لم
يبلغوا أماكنهم باختيار الشعب بل إن الشعب لا يعرف حتى أسماءهم فضلا عن أن يكون
اختارهم، والبرادعي مجرد رئيس حزب لم يحصل على أي شعبية في أي استحقاق انتخابي،
وكذلك شيخ الأزهر الذي هو مجرد موظف اختاره حسني مبارك، وبابا الكنيسة جاء بالقرعة
على يد طفل صغير بعد اختيار كنسي ضيق، فضلا عما سميت حركة تمرد التي بلغت من
الفجور حدا غير مسبوق، إذ زعمت أنها جمعت ملايين التوقيعات دون أن تقدم على هذا أي
دليل!
في ظل غياب أي إسهام شعبي، عُيِّن موظف بالمحكمة
الدستورية شاءت له الأقدار أن يكون الأكبر سنا في تلك اللحظة (!) كرئيس للجمهورية،
لكن الأقدار لم تُعطِه إلا الختم ليوقع به على القرارات الانقلابية مثل: حل مجلس
الشورى المنتخب، تعيين لجنة لكتابة الدستور من الأصدقاء والمرضيّ عنهم، ثم لم
يُسمح لأي مهرج بالمساس بالانقلابيين في أي وسيلة إعلامية، ولم يعد أحد يستطيع أن
يفكر في خيار "لا" على الدستور، وفي سابقة "ديمقراطية" كان
يقال: من يقول لا فهو خائن، وكانت الشرطة تقبض على من يقول لا أو يفكر في توزيع
منشورات تدعو للتصويت بلا.
وهكذا، ما على الشعب إلا أن يستمع لوسائل إعلامنا، ثم
ينزل إذا احتجنا أن نرتكب جريمة ليعطينا "التفويض"، والذي ستتولى
الكاميرات والإعلام ترجمة مطالبه وتفسير إرادته كما نرغب.. فهكذا صار المسار
بعنوان "الحاكم يريد".
فهذا فارق ما بين الثورة والانقلاب.
(2)
كلكم خالد سعيد..
بلغ من عتو النظام أنه لم يضحِّ حتى بأمناء الشرطة الذين
قتلوا الشاب خالد سعيد –أيقونة الثورة، كما يحب البعض أن يسميه- فسارت محاكمتهم
الهزلية برعاية القضاء الشامخ حتى تمت براءتهم، والآن تواجه أسرته تهمة البلاغ
الكاذب ويطالب الجناة بتعويضات مادية ومعنوية!! مشهد يلخص انتكاسة الثورة.
قميص الشهداء رُفِع في وجه مرسي، وكان حقا أريد به باطل،
ثم اختفى القميص في ظروف غامضة من بعد الانقلاب العسكري.
كانت "القوى السياسية والثورية" –وما هي بقوى،
إن هي إلا ميكروفونات- تؤلف وتزيف وتخترع أرقاما للشهداء، وكان آخر ما بلغه خيالهم
أن يقولوا "في عهد مرسي سقط مائة شهيد مصري"، وهذا دجل مفضوح، ولا
يستطيع أحدهم إثبات أكثر من عشر حالات أغلبهم من مؤيدي مرسي!! لكنه مشهد الإنسان
حين يتجرد من الشرف ويتجرد معه من الحياء!
وقد اكتمل المشهد بسقوط الآلاف في الأيام الأولى
للانقلاب، ففي أول مذبحة (الحرس الجمهوري) سقط 112 شهيدا على الأقل، وفي ثانيها
(المنصة) سقط 211 شهيدا، وهذا بخلاف المحارق الكبرى في رابعة والنهضة ورمسيس
والمهندسين والدقي، وبخلاف العمليات العسكرية في كرداسة ودلجا، وبخلاف المحرقة
المنصوبة يوميا ولا نعرف عدد شهدائها في سيناء.
وهم لم ينزلوا قميص الشهداء حتى رفعوا مكانه لواء
الإفناء والسحق والاستئصال، وكتبت مقالات جادة تحرض على إفناء الإخوان باعتبارهم
حشرات ضارة وأمراض معدية يجب "تعقيم" البلد و"تطهير" الوطن
منهم!!
وفي حين تسعى الثورات للاقتصاص لكل خالد سعيد، تسعى
الانقلابات لجعل الناس كلهم عبرة ومثلا كخالد سعيد.
(3)
إني هنا القانون..
رسم شاب ظريف كاريكاتيرا بهذا المعنى: قررت الدستورية حل
مجلس الشعب، يسأل المواطن: وإرادة الناس؟ فيقال له: القانون فوق إرادة الناس. فلما
تم الانقلاب العسكري سأل المواطن: أين القانون فقيل له: إرادة الناس فوق القانون!!
في الانقلابات العسكرية لا مجال لقانون، كان خطاب السيسي
يمثل ساعة صفر لحملة إغلاق القنوات الفضائية واعتقال القيادات، وبعد ساعات عزل
النائب العام ومدير المخابرات ورئيس الرقابة الإدارية وعدد من المناصب التي يشغلها
معارضي الانقلاب، وبعد ساعات أخرى صدر قرار حل مجلس الشعب، وبعد ساعات صدر قرار
بتعيين لجنة الدستور، واختفى الرئيس المنتخب فلا يُعرف مكانه لشهور تالية، وتمت
كافة الإجراءات بلا أي غطاء قانوني.. ويجب ألا ننسى أن الانقلاب أصلا جريمة
قانونية.
لكن، هكذا تكون الانقلابات..
لا كتلك الخديعة التي شربها الناس يوم 11 فبراير حين
عُزِل مبارك فاستقر في قصره في شرم الشيخ وظل رجاله أحرارا لشهور، بل بدا لمبارك
أن يسرب تسجيلا صوتيا أذاعته قناة العربية يتوعد فيه بمقاضاة كل من اتهمه في ذمته
المالية! لو كان مبارك يشك لحظة واحدة أنه قد يُمَسّ لما بقي في مصر، وهذا يدلك
على مستوى الأمن والرفاهية التي كانت له ولرجاله حتى أتموا أمورهم في تحويل
الأموال وفرم الأوراق وتدبير أمورهم في التجارات والأملاك.
وكانت الحركة الثورية من السذاجة والغباء بحيث ابتلعت –أو
حتى طالبت- بأن يأخذ القانون الطبيعي مجراه، وألا تكون المحاكمات ثورية أو
استثنائية، وبعد استقرار هذه الخديعة، حدثت أمور مدهشة، إذ كان القضاء مستمرا في
صدم الناس بتبرئة القتلة، فيشتم الناس القضاء، فيحاول مرسي إصلاح الوضع فتهب عليه
الأعاصير التي ترفع لواء "دولة القانون، القضاء الشامخ، قدسية الأحكام
القضائية... إلخ.
ونحن هنا لا نناقش خطأ مرسي الذي كان ينبغي له كرئيس بعد
ثورة أن يضرب بهذه الشعارات وأصحابها عرض الحائط ويلقيهم وإياها في أقرب مزبلة أو
أقرب زنزانة –أيهما أنسب- بل نناقش قميص القانون الذي اختفى هو الآخر في ظروف
غامضة!
وقد صدق نيتشه في قوله "القانون ما هو إلا تعبير عن
رغبات الأقوياء"، ومن بعد ما كان رئيس نادي القضاة يملك من الحرية ما يسمح
لسفاهته أن تبلغ حد الاستغاثة بأوباما ودن أن يمسه أذى لتحصنه بثوب القضاء، فالآن
تجري مذبحة قضائية للأقلية الضئيلة التي تتمتع بنزاهة قضائية.
في عهد مرسي قُتِل الشاب محمد الجندي في ظرف غامض،
تقارير طبية قالت بأنه حادث سيارة وتقارير أخرى قالت بأنه تعذيب في معسكر أمن
مركزي، وعقدت ثلاث لجان على الأقل للفصل في الحالة. في عهد الانقلاب لم تتحرك دعوى
قضائية ضد آلاف المقتولين.
صارت القوة هي القانون، ولم يعد للقانون من قوة..
تماما كما قال القرضاوي في نونيته على لسان حمزة
البسيوني، مدير السجن الحربي أيام عبد الناصر:
أين الأُلى اصطنعوا البطولة وادعوا .. أني
أعذبهم هنا بسجوني
أظننتمُ هذا يخفف عنكمُ .. كلا فأمركم
انتهى، وسلوني
إني هنا القانون أعلى سلطة .. من ذا يحاسب
سلطة القانون
إن شئت سامحتكم فبرحمتي .. وإن أبيتُ فذاك
طوع يميني
ومن ابتغى موتا فها عندي له .. موتا بلا غسل
ولا تكفين
(4)
أرض الزنازين..
بعد الثورات يهدمون المعتقلات، وبعد الانقلابات يبنون
المزيد. هذا ما يحدث في مصر الآن.
كانت الخلافات في أيام مرسي مهتمة بالتفاصيل، هل التابلت
المصري مصري 100% أم فقط تغلب عليه المكونات المصرية؟ ما هي المزايا التي ستستطيع
السيارة المصرية أن تنافس بها الشركات الكبرى؟ هل استطاع مرسي تحقيق المستهدف
المعلن من إنتاج القمح أم حقق منه نسبة 75% فقط؟ هل تحسنت السياحة بنسبة ما قبل
الثورة أم ما زالت النسبة تعاني ضعفا؟
بينما الخلافات بعد الانقلاب منصبة على أعداد القتلى، هل
هم 7000 كما يقول مؤيدي الشرعية أم أربعة آلاف فقط كما يقول خصومهم، وكذلك عدد
المصابين والمعتقلين، أين وكم سجنا جديدا أصدرت الحكومة تراخيص إنشائها؟ هل
الزنازين الانفرادية يتوفر بها تهوية وإضاءة أم تخلو من كل هذا؟ ما الذي يُسمح
بأخذه في زيارات المعتقلين، وما مدى الإهانات في إجراءات التفتيش لأهاليهم؟ هل
معتقلي أبو زعبل قُتِلوا وهم يحاولون الهرب أم قُتِلوا لخطأ غير مقصود من الضابط
الذي أطلق عليهم قنبلة غاز مسيل للدموع داخل قفص سيارة الترحيلات؟!
توقفت كل المشاريع التي بدأت في عهد مرسي، السيارة
والتابلت وخطة الاكتفاء الذاتي من القمح، وصرح وزير التموين الجديد منذ الأيام
الأولى بأن خطته هي استيراد القمح، وعادت مصر المستورد الأول للقمح في العالم،
وفازت روسيا بمركز المصدر الأول للقمح، وكل الانهيارات في كل المجالات أقسى وأخطر
وأفدح مما قبل الانقلاب.
إن مرسي مهما اختلفنا حوله كان يمثل الأمل القادم، بينما
السيسي يمثل تجديدا لجحيم العسكر الذي عاشت فيه بلادنا ستين سنة سوداء مظلمة، لم
تر فيها لا نصرا خارجيا ولا نهضة داخلية ولا حتى كرامة للإنسان.
مرسي يمثل الثورة، والسيسي يمثل الانقلاب.. وشتان بينهما
كما هو شتان بين الثورة والانقلاب.