قبل
سنوات رصدت أني أقع في مأزق واحد أكثر من مرة، وانتهى الأمر بعد التفتيش إلى نتيجة
أن هذه المآزق هي التجارب التي لم أقيمها سابقا، أو قيمتها ولكني لم أنفذ توصيات هذا
التقييم، فعاد ذات المأزق، ولُدِغت من ذات الجحر، ووقعت في الحفرة الواحدة مرتين أو
أكثر.. وياله من عار!
هكذا
يجري الأمر مع أي فشل: والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، وهناك نوع ثالث
وهو من ينجيه الله من مأزق فلا يتعظ حتى بنفسه ويكرر المأساة حتى تأتيه القاصمة.
هل تدري
أن مسار ثورة يناير كان سائرا في مسار انقلاب يوليو تماما، وأن الإخوان كانوا سائرين
إلى المذبحة كما ساروا إليها تماما قبل نصف قرن (وبعض من لُدِغوا من يوليو ما زالوا
أحياء يرزقون وفي مواقع صناعة القرار)، لولا أن كُسِر هذا المسار بعدد من العوامل أهمها:
الشباب الثوري، الشباب الإسلامي المتحرر من قيود الجماعات والقارئ للتجربة التاريخية،
وتجمع هؤلاء تحت رجل يقظ أستاذ كالشيخ حازم أبو إسماعيل، وبعض عوامل خارجية ودولية أخرى.
عبر
التفتيش في أسباب هذه المسيرة الإخوانية وصلت إلى نتيجة أن الإخوان أنفسهم لم يقرأوا
تاريخهم، وأن ما كتبوه من تاريخ كان مناقبيا فضائليا مهتما بإبراز الحسنات ودس السيئات
وطمس التجارب، وأفضل ما كتب في تاريخ الإخوان تفصيلا للتجربة وتركيزا على دروسها كان
من أناس لم يعودوا من الإخوان.
(أوصي
بقراءة: التصويب الأمين لمحمود الصباغ، والنقط فوق الحروف لأحمد عادل كمال على وجه
الخصوص)
تلك
هي فائدة التاريخ المسطورة في العبارة المشهورة "من وعى التاريخ في صدره أضاف
أعمارا إلى عمره"
ومن
المؤسف أن القراءة التاريخية الإسلامية ما زالت في طور الولادة، وجنينها حتى الآن مهيض
ضعيف وأحب أن أقول إنه مشوه أيضا، ولا بد من علاجات جراحية قاسية ليستعيد الأمل في
الحياة.
ثمة
"دعاة" يستخدمون التاريخ في نصرة أفكارهم لا في استخلاص الدروس منه لتصحيح
أفكارهم، وهو يشبه قول القائل "يعتقد ثم يستدل"، ومع أن "الدعاة بالتاريخ
من الإخوان" أنتجوا مولودا شائها إلا أن "الدعاة بالتاريخ من السلفيين"
أنتجوا سقطا ميتا ويظنونه تاريخا.
وهنا،
ولغرض التوضيح فقط، مع الاحتفاظ لكل هؤلاء بالإجلال والتقدير في شخوصهم، وحفظ السابقة
في علمهم وجهادهم، أراني مضطرا لضرب بعض الأمثلة بالأسماء:
د. علي
الصلابي، د. راغب السرجاني: يبحثان في كل تجربة نهضة عن فترة التربية والتكوين (وكثيرا
ما يتكلفونها تكلفا شديدا، ويقعون لأجل هذا في أخطاء تضرب نزاهة البحث العلمي) لأن
الفكرة المستقرة في وجدانهم هو: ضرورة التربية وضرورة وجود فترة التكوين قبل كل تجربة
نصر، وهذا ليس صحيحا، والمقام لا يتسع لضرب أمثلة تفصيلية.. لكن يمكن النظر إلى قمة
هذا المنهج في كتاب مثل "هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا تحررت القدس" للدكتور
ماجد عرسان الكيلاني الذي سخر كل فترة ما قبل تحرير القدس ليقول -وبغير الحد الأدنى
من التماسك العلمي- بأنها فترة التربية والتكوين لجيل النصر والتمكين.
وفي
السلفيين نذكر مثالين أيضا: الشيخ سيد حسين العفاني وكتابه "أعلام وأقزام في ميزان
الإسلام"، والشيخ سليمان صالح الخراشي في عدد من كتبه، وأضف إليها ما كتبه السلفيون
عن جمال الدين الأفغاني وعن الدولة العثمانية، ففي هذه المصادر يُروى التاريخ على قاعدة
"الولاء والبراء"، والولاء هنا ليس لأمة الإسلام، بل هو للمذهب الضيق، مذهب
أهل الحديث في العقيدة، والاختيارات الفقهية السلفية، وبهذا الميزان يطيش كل خير قام
به آخرون، ولأن هذا الميزان كثيرا ما يكون شخصيا، ويكون للكاتب اختيار داخل المذهب،
فهو يوالي ويعادي تبعا لهذا القول..
لذا
فإنك تجد كتاب "أعلام وأقزام" للشيخ حسين العفاني بلا أعلام بل كلهم أقزام
رغم أن الفهرس مليئ بأسماء أعلام المسلمين (أنصف الشيخ بعضهم أحيانا نادرة بألفاظ عابرة)..
كما تجد سلسلة "في الميزان" لسليمان الخراشي بلا إنصاف بل هو تتبع للزلات
والسقطات، وأحيانا لا تكون زلات إلا على ميزانه هو.
وبحسب
الأخلاق الشخصية للكاتب تكون درجة أمانته، وإن مما يُمدح به الإخوان بشكل عام هو ارتفاع
أخلاقهم، وهم أبعد أبناء التيار الإسلامي عن التزوير والتدليس، وهو أمر ينبغي أن تهتم
له الحركة الدعوية السلفية فإن ظلم المخالف ورمي نيته مما يشيع في بعض شبابهم (وهنا
ألفت النظر لكتاب اسمه: دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، إذ يعد هذا الكتاب
نموذجا للتزوير العلمي مع الانهيار الأخلاقي، ولولا الميول المذهبية لمن أشرف عليه
وناقشه لما استحق الإجازة في أي جامعة أو معهد علمي يحترم نفسه)
انتهى
ضرب الأمثلة، مع إعادة التأكيد على أن الغرض ليس طعنا في أشخاص ولا رميهم بما يشين..
والغرض الآن هو توضيح الآتي:
أن انتفاء
القراءة التاريخية المعمقة للتجارب يوكل الحركة الإسلامية لعقول قادتها، عقولهم الفارغة
من التجارب التاريخية أيضا، فتكون النتيجة هي سهولة التلاعب بهم من قبل عدو لا يتحرك
إلا بعد توصيات مراكز بحثية تستخلص التجارب السابقة وتوصيات مراكز نفسية تستخلص طرائق
التعامل مع أمثالهم.. فتسير الحركة الإسلامية بكل الإخلاص والحرقة إلى الهاوية وهي
تظن أنها سائرة إلى المجد
(هنا
أوصي بقراءة كتاب: مختصر شهادتي على التجربة الجهادية في الجزائر، لأبي مصعب السوري..
إذ كتب كيف تمكنت أجهزة الاستخبارات من اختراق الجماعة الإسلامية المسلحة، فاستطاعت
إدارة المعركة بدعم كامل من الإسلاميين المُسْتَغفَلين، حتى وصلوا إلى الهاوية بأنفسهم،
بكامل سرعتهم وإخلاصهم)
وأسوأ
من اختفاء التجربة التاريخية الرصينة من عقول قادة الحركات الإسلامية هو أن يمتلئ هذا
الفراغ من خلال الإعلام -وغالبه خصوم وأعداء- أو من خلال "المفكرين والفلاسفة"
ممن تنقصهم المرجعية الشرعية وتملؤهم الألفاظ الفلسفية الفخمة
(جلست
مرة مع "خبير" منهم وكان غاضبا من فشل مرسي ويقترح أن يستعمل أعداءه، فيعين
البرادعي مبعوثا دوليا، وحمدين وزير شؤون اجتماعية، وعمرو موسى دبلوماسيا كبيرا.. وصعقني
الرجل، أين هو من آية "لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"، وكيف
بلغ التسطيح أن يرى المشكلة في المناصب لا في التوجهات الكبرى)
إن خلاصات
العقول بدون تجربة تاريخية تشبه إعادة اختراع العجلة، حيث يتم تجريب كل شيء للمرة الأولى
مع ذات الاعتقاد بأنها ستنجح!!!
ومن
أمثلة هذا:
1. اعتقاد
الرئيس مرسي أن الحاكم يمكن أن ينجح بلا هيبة في القلوب، وأن تركه لعرضه مستباحا هو
نوع من السماحة واللين واللطف والرحمة..
- ورغم
أننا لا نعرف مستباحا استطاع أن يحكم وأن يُنجِز وأن يؤسس فصلا جديدا في مسيرة الدول..
- ورغم
أننا نقرأ في التاريخ كلاما عن ضرورة الهيبة للحاكم لا سيما إن كان في بداية فصل جديد
ويريد تأسيس دولة جديدة..
رغم
هذا فإن الرئيس مرسي لا يستوعب هذا الكلام ويصر على أنه سينجح بلا هيبة!
2. اعتقاد
الرئيس مرسي، ومن ورائه الإخوان، أن النجاح الاقتصادي سيكفي وحده لصد عاديات المؤامرات
الفلولية والحملات الإعلامية في تقريبه من الناس..
- ورغم
أن أحدا من الناس لم يكن يحمي الإخوان أو غيرهم من الإسلاميين أيام مبارك رغم خدماتهم
الاجتماعية الوافرة، وغاية ما يقدمونه هو مصمصة الشفاه والتعاطف وشتم النظام في السر..
- ورغم
أن الناس تعاطفوا مع من أذلهم ثلاثين سنة -بحملة إعلامية وخطاب عاطفي- في لحظة فارقة..
بل خرجوا يهتفون بحياة وعودة عبد الناصر بعد واحدة من أسرع وأبشع هزائم التاريخ الحديث
- ورغم
أن الوفرة الاقتصادية لم تنفع كثيرا من الحكام في تثبيت عروشهم "أربكان مثالا"
مع افتقاده السلطة الحقيقية..
- ورغم
أن حملة إعلامية أو حكما قضائيا يستطيع ببساطة تشويه أي إنجاز أو تعويقه..
رغم
هذا فإن الرئيس مرسي لا يستوعب شيئا من هذا ويصر على أنه سينجح في التصدي لكل هؤلاء
بمزيد من السعي في الاقتصاد.
3. اعتقاد
حزب النور بأن من النزاهة والتجرد معارضة الإخوان في الخطأ والوصول بهذه المعارضة إلى
النهاية، وأن الخلاف مع الإخوان يساوي الخلاف مع الفصائل العلمانية أو حتى مع غير المسلمين،
بل قد يقال بأن الإخوان أخطر من غيرهم لأنهم يفسدون على الناس دينهم بينما غيرهم يفسد
على الناس دنياهم، ولقد قال الشيخ أحمد فريد -غفر الله لنا وله- قولا عظيما بأنه لو
عاد الزمن فسينتخب شفيقًا للرئاسة بدلا من مرسي!!
- ورغم
أن العلمانيين لو فازوا لن يتركوا لأحد دينا ولا دنيا..
- ورغم
أننا في مصر لم نر أبشع ما في العلمانيين للطف الله بنا، فإن علمانية بورقيبة وبن علي
منعت على الناس شعائر دينية من صميم أحوالهم الشخصية..
- ورغم
أن الفرصة المتاحة الآن ليس فيها أفضل من الإخوان ولو من قبيل حرية الدعوة والتقاء
الناس في المساجد وغيرها..
رغم
كل هذا إلا أن حزب النور سائر في طريقه، تفسح له الفضائيات شاشاتها، والصحافة صفحاتها،
فإذا انتهى الدور المرسوم عاد الجميع دجاجا في قفص الجزار.
لقد
استعمل عسكر الجزائر: الإخوان والسلفيين والسروريين ضد الجهاديين، فلما أن قضوا عليهم
لم يفز أحد من هؤلاء بل ظلت العسكرية العلمانية تسيطر على كل هؤلاء الإسلاميين، فمن
شاءت استعملته تحت عينها وجناحها ومن لم تشأ ألحقته بمن قضت عليهم بأيديهم..
ولكن
كم في قيادات حزب النور من قرأ تجربة الجزائر؟!!!!