حين
نتتبع المسار التاريخي لانحراف الأمة عن الحكم الرشيد الذي مثله العصر النبوي والخلافة
الراشدة سنضع أيدينا حتما على هذه المحطات:
1- ظهور
المذهب الشيعي الذي يرى بأن الخلافة «حق» لعلي وآل البيت من بعده، وليست اختيارا حرا
ترضاه الأمة فهي التي تنصب الخليفة وهي التي تعزله إن رأت منه اعوجاجا.
2- ظهور
أول خليفة يحكم بالتغلب، وهو عبد الملك بن مروان، حيث بايعته الأمة بعد أن استطاع أن
يوحد البلاد بالغلبة ويهزم عبد الله بن الزبير في مكة.
3- اعتقاد
الأمويين أنهم أهل لهذه الخلافة بقدر الله وبما أثبتوا واقعيا أنهم الفئة الأقوى والأشد
شوكة فيها، والأقدر على حكمها وإعادة مجدها.
4- قيام
الدولة العباسية على الفكرة الشيعية التي تقول بأن الخلافة حق موروث، فتسمى صاحب الدعوة
ثم الخليفة بلفظ «الإمام» بما له من مدلولات دينية، ثم السجال العباسي العلوي حول الأحقية
«الدينية» بالخلافة، مما جعل منصب الخلافة وإن كان يُحَصَّل بالشورى نظريا إلا أنه
محكوم أيضا باختيار من داخل البيت العباسي (من وجهة نظر العباسيين) أو من داخل البيت
العلوي (من وجهة نظر العلويين).
5- وبالتداخل
مع عوامل أخرى -من بينها الاحتكاك الحضاري بالأعاجم، وسيأتي الحديث عنه بعد قليل- ظهر
الخليفة الضعيف الذي يحظى بهالة التعظيم والاحترام لكونه من البيت النبوي، لكنه ليس
أهلا للخلافة، وتوافق هذا مع وجود طبقة عسكرية من الترك، وهم بالنسبة إلى العجم كالأعراب
بالنسبة إلى العرب؛ قوم محاربون بلا حضارة، ففتح ضعف الخلافة الباب أمامهم لتأسيس أول
حكم عسكري في تاريخ المسلمين.
ونحن
إذ نتحدث الآن بعد أكثر من اثني عشر قرنا من تلك اللحظة التاريخية، فإنما يعني هذا
أن التجربة الإنسانية من الحكم العسكري قد صارت في حكم الحقيقة التاريخية، ذلك أن اجتماع
القوة والسلطة في يد طرف من الأطراف هو باب الاستبداد والفساد والإفساد.
ولذلك
يكون الحكم العسكري بداية انهيار الأمة حضاريا ثم عسكريا، ومؤسسا لاستبداد عنيف يعاني
منه الجميع، ثم تكون النهاية في العموم هو الاحتلال الأجنبي لهذه الأمة؛ احتلال يستغل
ضعفها العسكري أولا ثم ضعفها الحضاري وضعف مقاومتها للاستبداد، وعند هذه النقطة تذوق
الأمة ويلات الاحتلال التي أفرزتها ويلات الاستبداد حتى يخرج منها جيل جديد يستلهم
أصوله ويبني حركة المقاومة والجهاد التي تكون بداية النصر وإعادة التأسيس من جديد بعد
تضحيات عظيمة وهائلة.
والترك
كانوا أحد هذه الأمثلة..
لقد
بدأوا كجنود محترفين في ظل الدولة فأنقذوها من الانهيار العسكري بعد تسرب الضعف إلى
العنصر العربي والفارسي منذ عهد المأمون، واستطاعوا بالفعل إعطاء دفعة جديدة وهائلة
لحركة الجهاد، سواء جهاد الروم في الشمال الغربي أو الأرمن في الشمال أو الهنود والصينيين
والأتراك فيما وراء النهر، وسطروا في هذه الصفحات تراثا بطوليا رائعا!
لكنهم
ما إن خرجوا من حيز الجندية المحترفة وصاروا من رجال السلطة حتى تراجعت قوة الدولة
كلها، فضعفت الخلافة وازدادت الاستقلالات في الأطراف وابتدأ الاضطراب في مواقع السلطة
بعزل الخلفاء وقتلهم، وما كان الإصلاح يسيرا فإن الأتراك –وهم الذين لم يحتمل أهل بغداد
وجودهم لما فيهم من طبع البداوة- كانوا أبعد الناس بحكم تنشئتهم العسكرية عن التفكير
في سبيل غير القوة لحل المشكلات.
وطوال
عصر سيطرة العسكر لم تعتدل أحوال الخلافة إلا حين ظهر القائد العربي القوي الذي له
من الشرعية –وهي في ذلك الوقت: النسب العباسي- ما يجعل أحدا من العسكر الترك لا يجرؤ
على منازعته ولا منافسته، وله من القوة العسكرية والبطولة في الحرب والقتال ما يجعله
مهابا قويا في عيونهم ونفوسهم فخضع له العسكر الأتراك، فذلك هو الموفق بالله، وكذلك
كان الحال في عصر ولده المعتضد، ثم عصر حفيده المكتفي!
فإذا
خفتت هذه البطولة العسكرية في عهد المقتدر، عاد الصراع مرة أخرى بين الجناح المدني
المتمثل في الخليفة والوزراء وبين الجناح العسكري المتمثل في العسكر الأتراك وقائدهم
مؤنس وبعض القادة الآخرين، وصحيح أن مؤنسا كان يفهم ضرورة الشرعية وأنه انزعج لمقتل
المقتدر إلا أنه كان وحيدا في إدراك هذا المعنى.. وهكذا، عاد الضعف إلى الخلافة والجناح
المدني فعاد انهيار الدولة من جديد وواصلت الأيام سيرتها حتى أسلمها الحكم العسكري
التركي إلى الاحتلال العسكري البويهي.
إن إصلاح
الدولة العسكرية هو واحد من أصعب الأمور وأكثرها كلفة بالنسبة للشعوب، ونادرا ما استطاع
شعب أن يتخلص من حكم عسكري قبل أن يصل إلى مرحلة الاحتلال الأجنبي، وهو إن استطاع هذا
فبتضحيات عظيمة!
وحتى
لحظة كتابة هذه السطور ما تزال دراسات العلاقات المدنية العسكرية تؤكد ضرورة خضوع القوة
العسكرية للسلطة المدنية ذات الشرعية.
إن طابع
الإسلام المدني في الحكم والسياسة ظاهر بوضوح، ومن المؤسف أن يكون هذا جليا لمستشرق
مثل جوستاف جرونيباوم –لدينا على إنتاجه ملاحظات وتحفظات- في الوقت الذي لا يكون ظاهرا
لبعض أبناء الأمة الإسلامية، وقد رأينا أن ننقل من كلامه هذه الفقرة؛ قال بعد حديث
عن الجهاد والشهادة في نظر المسلمين:
«ومع
ذلك فإن الحضارة الإسلامية حضارة مدنية، فإن أَضْرُبًا مدنية من صور التطور الإنساني
كالعالِم والولي والأديب قد اجتذبت إليها معظم طاقة الإسلام الخلاقة، والمدني يعلو
على الجندي في ترتيب الطبقات الاجتماعي، والمفروض أن للوزير –وهو موظف مدني- حق الأسبقية
على القائد، يدلك على ذلك أن ما عُقِد من الأبحاث على نظرية الحكم يبحث منصب الوزارة
قبل إمارة الحرب، وكثيرا ما تولى الجند –بوصفهم طائفة- حكم الدولة الإسلامية، ولكن
هذه السيادة الواقعية (غير الشرعية) لم تغير بأي حال «الإجماع» المنعقد على أن رئاسة
الدولة وظيفة مدنية... ومهما يُكْثر الخلفاء من تولي الإمرة على جنده بشخصه، ومهما
يكثر الشعراء من التغني بشجاعته، فإنه لم يكن إلا موظفا مدنيا أولا، وجنديا حين تلم
المُلِمَّات. وصور الإنسانية المثالية التي هي من خواص الحضارة الإسلامية إنما تتمثل
شخصية غير عسكرية وإن واصل القوم استحسان الفضائل العسكرية»
جزء من المجلد الثاني "العباسيون الضعفاء" من كتابي "رحلة الخلافة العباسية"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق