الاثنين، أغسطس 27، 2012

سيف الدولة الحمداني والروم

كانت الدولة الحمدانية على شطرين، شطر يحكمه ناصر الدولة الحمداني ثم ابنه أبو تغلب الحمداني في العراق ومركزهم في الموصل، وشطر آخر يحكمه الأمير الشهير سيف الدولة الحمداني في الشام ومركزه في حلب، وهذا الجزء الأخير تولى مواجهة الروم في منتصف القرن الرابع الهجري، والذي نحاول إيجازه في هذه السطور القادمة

***

نستطيع أن نقسم الحرب بين سيف الدولة الحمداني وبين الروم البيزنطيين إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى هي أقرب إلى التعادل أو توازن القوى حيث كانت الحرب سجالا بينهما غير أن قلة عدد وعدة سيف الدولة الحمداني بالمقارنة مع الامبراطورية البيزنطية يجعلها بطولات كبيرة لسيف الدولة على المستوى المعنوي أو التقديري، أما على المستوى العسكري والحربي فلا يمكن اعتبارها نصرا أو تفوقا على الروم، والمرحلة الثانية هي تفوق واضح للروم البيزنطيين وهزائم قاسية مريرة لسيف الدولة، ذلك أن الروم كانوا قد أعطوا لسيف الدولة قدره من الاهتمام بعدما بدا لأول وهلة واليا على إمارة غير مستحق لكثير اهتمام فقاتلوه قتال الأنداد، كذلك فإن الروم في ذلك الوقت تمتعوا بقادة عسكريين تاريخيين بلغوا شأنا عظيما في القوة والكفاءة.

1. مرحلة توازن القوى (335 – 345 هـ)

تبادل الروم والمسلمون الأسرى (335 هـ) وقام بعملية التبادل نصر الثملي –أمير الثغور التابع لسيف الدولة الحمداني، وكان أسرى المسلمين نحو ألفين وخمسمائة أسير، وهم يفوقون أسرى الروم بمائتين وثلاثين فدفع سيف الدولة فداءهم.

وانطلق سيف الدولة في غزوة إلى بلاد الروم (337 هـ) ما يدل على استعداده وثقته بالنصر، لكنه هُزِم أمام الجبش الرومي الكثيف بل وخسر بلدة مرعش الحدودية -والتي تمثل واحدة من أهم الحصون الإسلامية على الحدود- ثم اقتحموا ثغر طرسوس فأوقعوا بأهله بأسا شديدا، فكانت حملة فاشلة وهزيمة قاسية.

غير أنه عاود المحاولة مرة أخرى (339 هـ) فتوغل في بلاد الروم فاتحا ومنتصرا وسقطت أمامه حصون كثيرة وحاز الغنائم الهائلة وأسر عددا كبيرا، ثم واصل توغله في أرض الروم حتى ابتعد عن الحكمة وغَرَّه النصر المتتابع، لهذا ما إن انتهى من التوغل وعاد إلى بلاده حتى كان الروم قد أعدوا له كمينا قاتلا على طريق عودته، فاستطاعوا هزيمته أبشع هزيمة، واستخلصوا أسراهم وغنائمهم، وفوق هذا قتلوا غالب جيشه حتى إن سيف الدولة نجا بصعوبة بالغة في عدد قليل من جنوده، وذلك لأنه كان في مؤخرة الركب.

ثم أخذ الروم زمام المبادرة فهاجموا مدينة سروج (341 هـ) فقتلوا وأسروا وغنموا الأموال والنفائس وخربوا المساجد، وردَّ عليهم سيف الدولة في العام التالي (342 هـ) بتوغل كبير في أرض الروم "فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر آخرين، وغنم أموالا جزيلة، ورجع سالما غانما"[1].

ثم حقق سيف الدولة نصرا عظيما (ربيع الأول 343 هـ) إذ دخل وتوغل في أرض الروم وخاض معارك قوية مع جيوش محلية فهزمهم وقتل منهم وأسر وغنم، وكان من بين من قتلهم قسطنطين بن الدمستق[2]، مما كان له أثر عظيم في الروم فجمع الدمستق جيشا كبيرا واستعان به بفرق المرتزقة من الروس والبلغار وانطلق إلى أملاك سيف الدولة الذي تصدى له ودار بينهما قتال عظيم عند الحَدَث[3] (شعبان 343 هـ) أسفر بعد الصبر والبسالة عن انتصار كبير للمسلمين، وقُتِل كثير من جيش الروم وأُسِر عدد من قادتهم مثل صهر الدمستق وحفيده الشاب وكثير من البطارقة[4].

ثم كان الهجوم الرومي التالي مختلفا، إذ دخلت القوات البحرية على خط المواجهة، فهاجم الأسطول البيزنطي مدينة طرسوس (جمادى الآخر 345 هـ) وهي خط المواجهة وعاصمة الجهاد البحري وقت استقرار الدولة العباسية في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، فاقتحموها وقتلوا من أهلها نحو ألف وثمانمائة رجل، وأحرقوا القرى التي حولها، وعندئذ رَدَّ سيف الدولة بتوغل كبير في أرض الروم (رجب 345 هـ) حتى بلدتي خرشنة وصارخة[5] واقتحم عدة حصون ثم بقي مستقرا في أذنة[6] واستقبل هناك رئيس طرسوس وكافأه كي يؤكد سيادته على المنطقة، ثم عاد إلى حلب. على أن الروم الذين لم يواجهوه توجهوا بجيوشهم إلى ميافارقين فأحرقوا ونهبوا وخربوا وأسروا.

2. مرحلة تفوق الروم (347 - 363 هـ)

اقتحم الروم (347 هـ) بلدة آمد ثم ميافارقين وقتلوا ألفا وخمسمائة إنسان، ثم استولوا على مدينة سميساط وأخربوها، ثم أعادوا اقتحام طرسوس واقتحموا الرها (348 هـ) فقتلوا وأسروا وغنموا وعادوا دون مقاومة.

وحتى حين عاد سيف الدولة لغزو الروم وحقق توغلا كبيرا في أرضهم (349 هـ) وصل به إلى خرشنة وسقطت أمامه كثير من الحصون وحقق كثيرا من الغنائم، كرر الروم كمينهم السابق الذي نفذوه قبل عشر سنوات، حيث أوقعوا به في طريق العودة إلى حلب، فاستردوا غنائمهم وأسراهم ثم هزموه هزيمة شنيعة وقتلوا أكثر جيشه ولم ينجُ إلا في فرقة قليلة من جنوده بصعوبة بالغة، ودفع بهذا ثمن استبداده بالرأي وإصراره على العودة من طريق حلب رغم النصائح التي بذلها له أهل طرسوس أن لا يعود من طريق حلب الذي استولى عليه الروم وأن يعود معهم من طريق طرسوس، وكان ثمنا فادحا وغاليا، إذ انتهى به عصر التوغل في أرض الروم وبدأ عصر الهزائم القاسية، حتى لقد كان يطلب الهدنة والتفاوض ولم يكن يُجَب إلى ما طلب!

في العام التالي (350 هـ) جرت محاولات حربية أخرى من والي أنطاكية لكنه وقع في كمين للروم فانهزم أكثر جيشه ونجا هو بصعوبة، والمحاولة الأخرى للقائد العسكري نجا وهو من قواد سيف الدولة الحمداني إذ استطاع التوغل في أرض الروم على حين غرة منهم (رمضان 350 هـ) فغنم أموالا كثيرة وأسر من الروم وعاد سالما دون مواجهة.

ثم شهدت الحرب بين الروم والحمدانيين تطورا كبيرا لصالح الروم، فمنذ هذه اللحظة سيكون الروم الأعلى كعبا والأقوى يدا وبطشا، لأكثر من سبب، منها:

1. أن بيزنطة ألقث بثقلها في حرب سيف الدولة الحمداني فسيظهر منذ الآن نقفور امبراطور الروم الذي سيقود الحرب بنفسه متسلحا بالآلة العسكرية الرهيبة للامبراطورية البيزنطية.

2. ضعف سيف الدولة الحمداني عسكريا بعد الهزائم التي نزلت به، وضعف جيشه معنويا.

3. الاضطرابات الداخلية في إمارة سيف الدولة نفسه، إذ تمرد عليه بعض قادته الولاة على المدن واستقلوا عنه كابن الزيات والي طرسوس (351 هـ) وكالقائد نجا الذي هو من قواد سيف الدولة (352 هـ)، كما انشغل أكثر من مرة بحروب وغارات الأعراب في بادية الشام، وهم –كعادة اللصوص وقطاع الطرق- أبعد الناس عن تقدير الموقف العام وأكثرهم انشغالا بمطامعه الخاصة، وكم تدفع الدولة ثمنا فادحا من الأرواح والدماء بسببهم.

4. عدم وجود الظهير سواء من الحمدانيين في الموصل أو البويهيين في بغداد، والخليفة العباسي مغلوب على أمره لا يملك لنفسه سلطانا فضلا عن أن يعين سيف الدولة، ثم إن القرامطة يقاتلون العبيديين (الفاطميين) في جنوب الشام وما من أحد يفكر في إعانته.

5. استبداد سيف الدولة وسوء سياسته على أكثر من مستوى، حتى إن ظلمه لفرع من عائلته الحمدانيين دفع بهم إلى الانحياز للروم والقتال معهم، وليس هذا مبررا بالطبع، فكانوا أقسى على المسلمين من الروم بما لهم من خبرة سابقة بأحوال المسلمين وأراضيهم وبلادهم، كذلك استبداد بعض ولاته ببعض البلاد كما في حران (352 هـ) وأنطاكية (354 هـ) مما جعل تلك المناطق تستغل حالة الضعف التي يمر بها سيف الدولة أمام الروم فتتمرد عليه فيزيد الوضع سوءا وتزيد الأزمة تعقدا ويزيد جانب المسلمين ضعفا أمام الروم.

وبعد هذه الأسباب أو قبلها تأتي شخصية العدو نقفور، قائد الجيوش، وملك الروم الذي سيكون رجل هذه المرحلة، وعلامة في تاريخ هذه الفترة، وهي الشخصية التي تستدعي أن نتوقف عندها لبعض الوقت:

كثيرا جدا ما أخبر التاريخ بأقوام دخلوا في الإسلام ثم ظهر منهم أبطال كبار دخلوا تاريخ الدنيا، وقليلا جدا ما كان يحدث العكس، أن ينتصر مسلم ثم يصير من قادة الحرب على المسلمين، من هؤلاء كان نقفور هذا.

كان أبوه ابن الفقاس رجلا من المسلمين من أهل طرسوس، ثغر الجهاد ضد الروم، فتنصر أبوه ثم نشأ هذا الفتى نصرانيا، ونبغ في الحرب وتدرج به الحال حتى صار الدمستق الوالي على آسيا الصغرى في الإمبراطورية البيزنطية، وفي عودته من إحدى حروبه مع المسلمين كان الامبراطور الروماني أرمانوس قد توفي وترك ولديه الصغيرين، فرأت القيادات العسكرية أن يكون هو الوصي عليهما حتى يكبران فيدير شؤون الإمبراطورية، فكان هذا، وتزوج من أرملة الامبراطور، واستقر له الأمر، يقول ابن الأثير: "جعل همته قصد بلاد الإسلام والإستيلاء عليها وتم له ما أراد باشتغال ملوك الإسلام بعضهم ببعض فدوخ البلاد وكان قد بنى أمره على أن يقصد سواد البلاد فينهبه ويخربه فيضعف البلاد فيملكها وغلب على الثغور الجزرية والشامية وسبا وأسر ما يخرج عن الحصر وهابه المسلمون هيبة عظيمة ولم يشكوا في أنه يملك جميع الشام ومصر والجزيرة وديار بكر"[7]، ويصفه ابن كثير بأنه كان "من أغلظ الملوك قلبا، وأشدهم كفرا، وأقواهم بأسا، وأحدهم شوكة، وأكثرهم قتلا وقتالا للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرا، واستمرت في يده قهرا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا... وبالغ في الاجتهاد في قتال الاسلام وأهله، وجد في التشمير، فالحكم لله العلي الكبير. وقد كان لعنه الله لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال، وسبى النساء والاطفال، وجعل جامعها اصطبلا لخيوله، وكسر منبرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله"[8].

وكان هذا الدمستق قد استكتب أحد من تنصروا من العرب قصيدة طويلة في سب الإسلام والنبي والتوعد بالقضاء على الدين كله والعزم على غزو مكة، وهي القصيدة التي تولى الرد عليها فيما بعد الإمام ابن حزم رحمه الله بقصيدته المشهورة.

***

لكل ما سبق كانت الأيام التالية عصيبة على المسلمين، ولهذا حديث قادم بإذن الله تعالى

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] ابن كثير: البداية والنهاية 11/257.

[2] الدمستق: القائد العام للجزء الشرقي من الامبراطورية البيزنطية.

[3] الحدث: حصن حدودي يبعد عن أنطاكية نحو 70 ميلا.

[4] البطريق: هو القائد على عشرة آلاف جندي.

[5] مدينتان بالقرب من ملطية، وهي الآن (Malatya) التركية.

[6] هي الآن مدينة أدنة (Adana) التركية، إلى الشمال الشرقي من مدينة طرسوس.

[7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/320.

[8] ابن كثير: البداية والنهاية 11/277.

هناك تعليقان (2):

  1. شكرآ😇⁦✌️⁩⁦❤️⁩

    ردحذف
  2. تابع كل ما هو جديد في عالم التقنية و موبايلات ماركات الموبايلات علي موقع موبايلينو و معرفة اسعار الموبايلات في مصر و الوطن العربي و التسعيرات العالمية للموبايلات علي موقع موبايلينو

    ردحذف