يعرف المسلمون أن ثمة أرضا كان اسمها الأندلس ضاعت منهم، ولكن البلاد التي ضاعت –غير الأندلس- كثير، ومن المؤسف أن أغلبها ما زال مجهولا لعامة المسلمين، ومن هذه البلاد جزيرة صقلية (الإيطالية الآن) والتي ظلت تحت الحكم الإسلامي لنحو قرنين من الزمان، صعدت فيهما على خارطة التاريخ، فلما أن سقط عنها الحكم الإسلامي، عادت مرة أخرى جزيرة غير ذي قيمة، وما زالت حتى هذه اللحظة من المناطق التي لا تبلغ ما وصلته النهضة الأوروبية في مناطق الشمال الإيطالية.
وقد ألمحنا في مقالين سابقين إلى فكرة بسيطة عن صقلية الإسلامية، حضارتها الإنسانية والمادية، وها نحن نختم بهذا المقال عن سقوط الحكم الإسلامي في صقلية.
***
ظهور النورمان
كانت إيطاليا في ذلك الوقت منقسمة على نفسها بين القوى الحاكمة، كانت تعيش ما يمكن أن نسميه "عصر ملوك الطوائف"، فكانت بوليا وقلوريا تابعتان للامبراطورية البيزنطية، بينما كانت بينيفيتو وكابوا وساليرنو إمارات لمباردية، فيما كانت جايتا ونابولي وأمالفى جمهوريات صغيرة مستقلة.
وتعد ظروف الانقسام والحروب الداخلية هدفا مغريا للمغامرين الطموحين، لا سيما إن كانوا مجموعة من العصابات المرتزقة التي تقطن شمال فرنسا، فهم يوفرون عدة للأمير الذي يريد شن الحرب ما دام يملك الأموال، وبتوالي الأحداث ظهر مغامرون أكثر جرأة طمحوا في أن يستولوا على هذه البلاد لحسابهم هم بعد أن ضاقت بهم فرنسا الفقيرة.
أتت عصابات النورمان من الشمال الفرنسي لتساعد أمراء الحرب في إيطاليا، وكان مستقرهم الأول في مدينة ساليرنو على الساحل الغربي لإيطاليا، وحيثما أرادوا التوسع فقد اتجهوا نحو الأملاك البيزنطية، جنوبا وغربا، ونحو الجمهوريات الصغيرة المستقلة شمالا وفي الشمال الشرقي.
توسع النورمان في إيطاليا، واستطاعوا تحقيق انتصارات كبرى على الإمارات البيزنطية في عهد قائدهم وليام (ت 1048 م) الملقب بـ "صاحب الذراع الحديدي" (William of the iron Arm)، وأخيه دروجو (Drogo) (ت 1051م)، فتولى أخوه روبرت جيسكارد زعامة النورمان وبدأ التوسع في منطقة قلوريا في الجنوب الغربي لإيطاليا، وهو الجزء المتاخم لصقلية، ثم اقتسم المهام مع أخيه روجر، فتولى جيسكارد التوسع النورماني في الشمال والشرق مع البيزنطيين، فيما تولى روجر التوسع في الجنوب تحت قيادة أخيه.
كان النورمان عصابات مرتزقة، تكتسح بلا تردد وتقتل بلا رحمة وتحرق الكبار مع الصغار، ولا تفرق بين الرجال والنساء والعجائز والأطفال، وبلغوا من الوحشية حدا فظيعا جعل البابا ليو التاسع في روما يتحالف مع الامبراطور البيزنطي رغم كل الخلافات السياسية والدينية العميقة، لإيقاف هذا الطوفان الوحشي، ولكن يد النورمان كانت الأعلى، بل استطاعوا هزيمة البابا وأسره (1053 م).
بعد ست سنوات من هذه المعركة لم يكن أمام البابا نيكولاس الثاني إلا أن يعطي الشرعية لجيسكارد، ويوليه على المناطق الجنوبية الإيطالية (قلوريا، أبوليا، صقلية)، وهي المناطق التي يسيطر عليها فعليا أخوه روجر!
استمر التوسع النورماني إلى أن استولوا (1060 م) على مدينة ريو (ريجو) التي تعتبر المدخل إلى صقلية، وهنا سنركز على المشهد في الجنوب مع روجر، تاركين مشهد الشمال وتوسعات جيسكارد.
***
أحوال المسلمين
أما المسلمون، فقد جرت عليهم سنة الله في خلقه، وقد هدموا أنفسهم قبل أن يهدمهم عدوهم، وفقدوا الجزيرة عبر ثلاثين سنة (453 – 484 هـ /1061 - 1092).
كانت صقلية باعتبارها من خطوط الاحتكاك دائما في قلب المعارك بين المسلمين والدولة البيزنطية، وحين قامت الدولة الفاطمية (العبيدية) في المغرب، ظهر نزاع بين المسلمين لم تكن الجزيرة بعيدة عنه، فكثيرا ما تناوشت السيطرة على الجزيرة الدولة العبيدية، والأغلبية، ثم العبيدية والصنهاجية، وأحيانا العبيدية والدولة الأموية في الأندلس.
إلا أن كل هذا لم يكن مؤثرا على مستوى الوجود الإسلامي في الجزيرة، ولكن الأزمة الفعلية على مستوى الوجود بدأت حين انقسمت صقلية نفسها في أربعينيات القرن الحادي عشر الميلادي إلى "عصر الطوائف"، بدأت بحرب أهلية عام (431 هـ / 1040م )، بين ممثلي الدولة العبيدية والصنهاجية: الوالي صمصام الدولة العبيدي، والأمير عبد الله بن المعز الصنهاجي، هُزِم فيها عبد الله بن المعز، ولكن ولاية الصمصام أيضا لم تدم، واستمرت الاضطرابات 12 عاما (431 هـ- 443 هـ/ 1040-1052 م ).
وأسفرت هذه الاضطرابات عن تفتت الجزيرة إلى مناطق نفوذ متعادية يحكمها أمراء من العسكر على النحو الآتي:
استولى القائد العسكري عبد الله بن منكود على الأجزاء الغربية
كما استولى القائد العسكري ابن المكلاتي على قطانية (في الشرق)
واستولى القائد العسكري ابن الحواس على قصريانة وجرجنت (في الوسط)
وأصبحت باليرمو (العاصمة) -بعد خلع الصمصام منها- يحكمها جماعة من الأعيان
ثم ظهر قائد -سيتكرر اسمه معنا- وهو ابن الثمنة الذي استولى على سرقوسة (في الجنوب الشرقي)
وبين هؤلاء الأمراء انتشرت العداوة والبغضاء والتحاسد، والاقتتال، وكانت كثرة الأعراق في الجزيرة عاملا يزيد من العصبيات والانقسامات، وفي جولة من هذه التقاتلات، هزم ابنُ الحواس ابنَ الثمنة، فقام ابن الثمنة بالخيانة المشهورة عبر التاريخ .. ذهب إلى النورمان وأغراهم بدخول الجزيرة!!
***
السقوط
كان لابد لقوم همج مرتزقة مثل النورمان أن يجذبهم الخصب والغنى الموجود في صقلية، وحاول روجر مهاجمة مدينة مسينا على الساحل الشمالي الشرقي لصقلية، ولكنه فشل مرتين (1060م، فبراير 1061م).
لكن الفرصة جاءت له على طبق من ذهب حين راسله ابن الثمنة ليتحالف معه مقابل أن يعطيهم جزءا من الجزيرة، ولمزيد من ضمان الولاء فقد وضع أحد ابنائه رهينة عند روبرت جيسكارد، فلما استوثقوا من ولائه لهم هاجموا مسينة بمعونته، واستولوا عليها (453 / 1061م) واتخذوها قاعدة لأعمالهم الحربية التي سيطروا منها على أكثر من مدينة . ولكن اضطر روجر أن يعود إلى إيطاليا لمساعدة أخاه جيسكارد، فواصل ابن الثمنة الحملة ولكنه توفي في العام التالي (1062م)، ثم حدث خلاف بين الأخوين روبرت جيسكار وروجر فلم يحدث تقدم نورماني في هذه الفترات، ثم جاء نزاع آخر بين الأخوين أدى إلى تقهقر النورمان إلى صقلية، وفي هذه الأثناء ثار ضدهم السكان النصارى لطبيعة الأسلوب المتوحش للنورمان حيث ينهبون ويسلبون ويستبيحون النساء.
ذهب المسلمون بستصرخون المعز بن باديس (الأمير الثاني في الدولة الصنهاجية بإفريقية) فبعث بأسطول كبير غرق أكثره بفعل عاصفة بحرية. ولم يستطع مد يدن العون مرة أخرى لانهزاماته المتوالية أمام القبائل العربية من بين هلال وبني سليم الذين كانوا ذراع الدولة العبيدية، واجتاحوا بلاده حتى أنه نقل عاصمته إلى المهدية.
ولما تولى تميم بن المعز الحكم، أرسل أسطولا إلى الجزيرة عام (454 هـ/ 1062م)، بقيادة ابنيه علي وأيوب. أما أيوب فنزل في بلرم، وأما علي فتوجه إلى جرجنت، ثم أنضم إليه أيوب، وبدا لوقت من الزمن أن الوضع هدأ إذ لم تدر معركة بين المسلمين والنورمان حتى عام 1067م، أي لمدة خمس سنوات، ويبدو أن عمل القائدين اقتصر على تحصين المدن الإسلامية، ولا تشير المصادر إلى محاولات من جانب المسلمين لاستعادة مسينة أو المدن الأخرى التي حازها النورمان.
بدأت الأزمات عندما نشب صراع بين علي -قائد الحملة- وابن الحواس، تشير بعض المصادر إلى حب أهل جرجنت لعلي وخشية ابن الحواس على مكانه، وتطور هذا الصراع إلى قتال قتل فيه ابن الحواس، ومالبثت أن نشبت صراعات أخرى بين الصقليين والحملة الإفريقية، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الجو المنقسم أن استطاع روجر إنزال هزيمة حاسمة بعلي وأيوب (1068 م) ليعود القائدان بعدها إلى إفريقية وقد اعترت أحوال المسلمين اضطرابات كبيرة بالجزيرة.
وكالعادة في عهود الضعف، تضيع لحظات ذهبية كان من الممكن أن تغير التاريخ، فكما فرط المسلمون في المدن تباعا، رغم انشغال النورمان بصراعاتهم مع البيزنطيين، ومع البابا في روما، ومع الأزمات التي نشبت بين روجر وجسكارد، وثورة النصارى ضد النورمان، إلا أن كل هذا لم يدفع باتجاه إعادة تحرير مسينة.
وتكررت الفرصة مرة أخرى، إذ اضطر روجر ثانية أن يعود إلى إيطاليا للمساعدة في الصراع ضد بيزنطة والبابا، وما إن انتهت الحرب في الشمال حتى كان روجر مدعوما بقوات من أخيه جيسكارد يتجه لمحاصرة العاصمة الصقلية باليرمو، ولموقعها الحصين ووقوعها على البحر، تم الحصار بالبر والبحر، واستمر عدة شهور سقط فيه كثير من الطرفين، وانتهى باستسلام المدينة (ربيع الثاني 464 هـ/ يناير 1072م).
أدى سقوط العاصمة إلى انهيار مدن أخرى في الشمال والغرب، وتركز المسلمون في الشرق والجنوب، وظل الانقسام قائما في معسكر المسلمين، فتوزعت المدن الإسلامية الأخرى في ولائها إما لأمير سرقوسة (الجنوب) أو لأمير قصريانة (في الوسط).
بعد سقوط باليرمو ظهر الفارس ابن عباد الذي قاد المقاومة ضد النورمان لعشر سنوات من مدينة سرقوسة الجنوبية، وظل يبدي بطولة ويحقق انتصارات هي أقصى ما يستطيعه فارس في ظروفه، خصوصا مع ما يبدو من خذلان ابن حمود أمير قصريانة ( في الوسط) له. حتى قتل ابن عباد وسقطت سرقوسة عام (1082م).
بعد ذلك بشهور سقطت جرجنت، فلم يبق بيد المسلمين من المناطق الهامة إلا قصريانة، التي مالبث أميرها ابن حمود إلا أن استسلم وتنصر وصار من رجال النورمان وأنعموا عليه بإقطاع خارج صقلية في إقليم قلوريا الإيطالي.
ومنذ تلك اللحظة نستطيع أن نقول إن الجزيرة كانت في حكم النورمان، الذين مهما استدعت ظروفهم الصعود إلى إيطاليا فلم تكن هناك حركات مقاومة من المدن الإسلامية الباقية، التي ظلت موجودة حتى عشر سنوات أخرى إلى أن سقطت تماما عام (484 هـ / 1091م).
***
بشائع النورمان
لم تتوقف أساليب النورمان الحربية وبشائعهم عند المسلمين بل شملت كل شئ، أملاك المسيحيين، بل أملاك البابا، والأديرة، بل البابا نفسه، وهذا ما كتبه الأوروبيون أنفسهم، ويمكننا أن ننقل طرفا من هذا عن جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب):
"كان همهم مصروفا إلى النهب على حسب عادة ذلك الزمن أكثر مما هو مصروف إلى الدفاع عن دينهم، والذين تساوى الأغارقة والإيطاليون والعرب في نظرهم فصاروا يسلبون هؤلاء جميعا بنشاط ... ولم ينشأ عن أعمال حماة الدين النورمان سوى تخريب تلك البلاد بسرعة، ولم يلبث أهلوها أن اعترفوا بأن صداقة فرسان النورمان أشد وِقرا من عداوة العرب، فاستغاثوا بالبابا لينقذهم النورمان، ولم يجد إنذار البابا للنورمان نفعا، فأرسل إلى قيصر القسطنطينية كتابا يدلنا على سوء معاملة جيش نصراني في ذلك الزمان لبلاد صديقة استُوْلِيَ عليها.
يقول البابا:
"يكاد قلبي يتفطر من الأخبار المحزنة التي أنبأني بها رسل ابني أرجيروس، فعزمت على تطهير إيطاليا من ظلم هؤلاء الأجانب النورمان المردة الأشرار الزنادقة الذين لا يحترمون شيئا عند اندفاعهم، والذين يذبحون النصارى ويسومونهم أشد العذاب غير راحمين ولا مفرقين بين الجنسين والأعمار، والذين ينهبون الكنائس ويحرقونها ويهدمونها، والذين يعدون كل شئ فريسة يباح سلبها، والذين أكثرت من لومهم على فسادهم وإنذارهم بسوء أحكامي وخوفتهم من سخط الرب، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا ... ولهذا عزمت على شن الحرب الدينية المشروعة على هؤلاء الغرباء الثقلاء الذين أمعنوا في الظلم وصار أمرهم لا يطاق، وهذا دفاعا عن الشعوب والكنائس".
يواصل لوبون "وداوم النورمان على اقتراف جرائم النهب عمدا في صقلية وإيطاليا، وتعوده الأهالي وصاروا يألفون ما يقع كل يوم من حوادث السلب والقتل التي قص المؤرخون خبر كثير منها كما لو كان ذلك من الوقائع اليومية التي لا أهمية لها، ومن ذلك أن فرسان النورمان كانوا يفاجئون الأديار السيئة التحصين ويسلبون كل ما فيها ويبقرون بطون رهبانها على بكرة أبيهم خشية الفضيحة، وأن الرهبان من ناحيتهم كانوا يتغفلون بعض أولئك الفرسان بين حين وآخر فينتقمون منهم أشد الانتقام" .. واستمر لوبون يسرد بعض القصص.
ولم تتوقف هذه السياسة المتبعة في النهب والسلب إلا لما تم استيلاء النورمان على صقلية بالكامل، فبدأ فيها على يد روجر عهد جديد فيه كثير من التعايش، وتنظيم الدولة باسترشاد واستلهام مباشر لنظم وطرق الحكم الإسلامية في الجزيرة وبالاستعانة بعلماء المسلمين الموجودين بصقلية.
وعلى رغم ما أعطاه المسلمون من الحضارة للعهد النورماني إلا أن إبادتهم التامة وجلاءهم الكامل كان في عهد فريدريك الثاني، صديق الملك الكامل الأيوبي، وأبرز ملوك أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي.. ولكن فريدريك هذا له حديث آخر إن شاء الله تعالى.