افتتحنا في المقال الماضي الحديث عن اليهود بين أمة الإسلام والأمم
الأخرى، وذكرنا أننا سنقتصر في الاستدلال على ما نقول بأقوال المستشرقين من اليهود
والمؤرخين الغربيين فحسب، وقدمنا في المقال الماضي المنهج العام الذي نسير عليه في
الدراسة، وبدأنا أولى الحلقات بالتقييم العام المجمل لأوضاع اليهود في ظل الأمة
الإسلامية مع أوضاعهم في ظل الأمم الأخرى.
نواصل اليوم فنرصد سريعا ماذا قيل عن أوضاع
اليهود في مجمل التاريخ الإسلامي، ثم نبدأ بفترة الخلافة الراشدة. فالله المستعان
اليهود عبر التاريخ
الإسلامي
يقول الفيلسوف الروسي الشهير تولستوي: "من فضائل
الدين الإسلامي أنه أوصى خيرًا بالمسيحيين واليهود، ولا سيما قساوسة الأولين؛ فقد أمر
بحسن معاملتهم ومؤازرتهم، حتى أباح هذا الدين لأتباعه التزوُّج من المسيحيات واليهوديات،
مع الترخيص لهن بالبقاء على دينهن، ولا يخفى على أصحاب البصائر النيِّرة ما في هذا
من التساهل العظيم"[1].
وهذا هو الأصل السائر في التاريخ الإسلامي،
وأبرز دليل على هذا بلوغ اليهود المناصب العليا في الدولة الإسلامية في مختلف
الأحقاب، وإلى هذا يشير صموئيل أتينجر بقوله: "يلاحظ دارسو التاريخ اليهودي
في العصور الوسطى أن السلطات حرصت على جباية الجزية من اليهود، وتطبيق القوانين
الإسلامية، ولكنها أتاحت لليهود في نفس الوقت تقلد العديد من المناصب المهمة، فكان
حسداي بن شبروط في بلاط الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث (عبد الرحمن الناصر)
وشموئيل هناجيد (إسماعيل بن النغرالة) في غرناطة إبان القرنين العاشر والحادي عشر،
على سبيل المثال، من أبرز الشخصيات اليهودية التي عملت في إطار الخلافتين الأموية
والأندلسية. وكذلك خدم الإخوة إبراهيم وحيد بني سهل التوستاري لدى الخلفاء
الفاطميين في النصف الأول من القرن الحادي عشر. وفي إطار الخلافة الفاطمية بمصر
تقلد اليهود العديد من المناصب المهمة... ومن الملاحظ أن اليهود اندمجوا طيلة
الفترة العثمانية في كافة الأجهزة الحكومية"[2].
ولئن رُصِدت فترات اضطهاد أحيانا فذلك إنما كان
لفترات قصيرة استثنائية ثم إنها ف عمومها كانت ضمن سياق استبدادي عام ولم تكن
مختصة باليهود كأتباع ديانة مخالفة، هذا ما يقرره المستشرق الفرنسي مارسيل بوازار
حين يقول:
"الإسلام يتراءى أكثر تسامحًا كلما قَوِيَ واشتدَّ
على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتنص الآية القرآنية التي تمنع الإكراه على اعتناق
الدين عن تأكيد لا يتزعزع، وقوة الأُمَّة تُوَفِّر للمؤمن ألا (يُخِيفَ) اليهودي ولا
المسيحي، وأن يحترم -بالتالي- شخصهما ودينهما ومؤسساتهما... وينبغي من جهة أخرى
الإشارة إلى أن الشعوب الإسلامية بمختلف نزعاتها، الدينية أو الفلسفية، قد قاست ما
قاساه المعاهدون حين بلغ جو التعصب ذروته [في السلطة]، إن لم تكن قاست أكثر مما
قاسوا. وتنقل الكتب مثلا أن أحد المسلمين لم ينج من القتل على أيدي زمرة تخالفه
الرأي إلا بعد أن ادعى أنه ذمي"[3].
ويزيد المعنى وضوحا المستشرقُ الإيطاليُّ الشهير
فرانشسكو جابرييلي عندما يقارن بين الإسلام والمسيحية بقوله:
"إننا يجب أن نذكر دائمًا أن الإسلام أضفى على
(عقائد أهل الكتاب) -أي المسيحية واليهودية- مكانة خاصة يحميها الشرع، وإن تكن ذات
مرتبة أدنى في الدولة، ولم يَدُمِ التزمت والاضطهاد فترات طويلة إلا في أوقات الشدَّة،
وعدم الشعور بالأمان، أما قانون المسيحية فليس فيه أي مكان لأي دين آخر؛ لذا فقد انتقل
بسرعة وبتطور منطقي، عندما انتصر على الإسلام إلى التعصب والاضطهاد"[4].
بدأت الفتوحات في عصر الخلافة الراشدة، تلك الفتوحات التي كانت إنقاذا
لليهود في البلدان المفتوحة من الاضطهاد المنهجي المتكرر، يقول مؤرخ الحضارة ول
ديورانت: "كان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم
حكامهم السابقين، إلا أنهم في عهدهم قد فُرضت عليهم عدة قيود ولاقوا شيئاً من الاضطهاد
من حين إلى حين، غير أنهم مع هذا كانوا يُعاملون على قدم المساواة مع المسيحيين، وأصبحوا
مرة أخرى يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وفي ممارسة شعائر دينهم في بيت المقدس، وأثروا
كثيراً في ظل الإسلام وفي آسية، ومصر، وأسبانيا، كما لم يثروا من قبل تحت حكم المسيحيين"[5].
وهم لم يرحبوا فقط بل ساعدوا في الفتوح كما يقرر المستشرق البريطاني
الخبير توماس أرنولد: "وكان من أثر هذه الاضطهادات أن رَحَّب اليهود بالعرب الغزاة
وعَدُّوهم مُخَلِّصِين لهم مما حلَّ بهم من المظالم، فساعدوهم على فتح أبواب المدن،
كما استعان بهم الفاتحون في حماية المدن التي وقعت بأيديهم"[6].
بل لقد منح الفتح
الإسلامي لليهود أملا جديدا في الحياة كما تقول الباحثة البريطانية في مقارنة
الأديان كارين أرمسترونج؛ "فقد كان الأباطرة البيزنطيون قد جرَّموا الديانة
اليهودية، كما أوشك هرقل على إجبار اليهود على أن يُعَمَّدوا مسيحيين، لذا كان
اليهود على استعداد لمؤازة المسلمين كما سبق لهم أن آزروا الفرس، خاصة وأن عقيدة المسلمين
التوحيدية كانت أكثر قربا لليهودية منها للمسيحية... كما أن المسلمين لم يحرروهم
فقط من ظلم بيزنطة، لكنهم أيضا منحوهم حق الإقامة الدائمة في المدينة المقدسة. ولا
يثير الدهشة إذن أن يتسبب هذا التغيير في إلهام اليهود ببعض الأحلام الرؤياوية،
خاصة وأن المسلمين حاولوا تطهير المعبد. وأصبح هناك تساؤل عما إذا كان ذلك يعني
التمهيد لتشييد المعبد النهائي الذي سيقيمه المسيح المنتظر. وهكذا ظهرت قصيدة
عبرية قرب نهاية القرن السابع ترحب بالعرب المبشرين بالمسيح المنتظر وتترقب آملة
أن يجتمع شمل يهود الشتات وأن يُعاد بناء المعبد، وحينما لم يصل المسيح المنتظر،
استمرت نظرة اليهود الراضية عن الحكم الإسلامي في أورشليم. ففي خطاب كتبه حاخامات
أورشليم في القرن الحادي عشر، تذكر هؤلاء الرحمة التي أظهرها الإله لشعبه حين سمح
"لمملكة إسماعيل" أن تفتح فلسطين وعبروا عن غبطتهم لوصول المسلمين إلى
أورشليم"[7].
وهكذا لم يكن
الأمر مجرد التقاء أغراض سياسية ثم ينقلب الفاتح إلى باطش، بل على العكس كما تقرر
زيجريد هونكه، "فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي
[بالجبر]، وإنما بسط سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظلَّ نصرانيًّا، ولليهودي
أن يظلَّ يهوديًّا كما كانوا من قبل، ولم يمنعهم أحدٌ أن يُؤَدُّوا شعائر دينهم، ولم
يكن أحد لِيُنزِل أذًى أو ضررًا بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم، وبِيَعِهم وصوامعهم
وكنائسهم"[8].
في المقال القادم
إن شاء الله تعالى نستعرض أحوال اليهود في ظل الأحقاب الإسلامية: عصر الدولة الأموية
ثم عصر الدولة العباسية.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية
[1] تولستوي، حِكَم
النبي محمد، دراسة وتقديم: د. محمود النجيري، ط1 (الجيزة: مكتبة النافذة، 2008م)،
ص43، 44.
[4] فرانشسكو
جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام"،
بإشراف: جوزيف شاخت، وكليفورد بوزوروث، ترجمة: د. محمد زهير السمهوري وآخرون،
سلسلة عالم المعرفة 11 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987م)، ص114.
[6] توماس
أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخران، (القاهرة: مكتبة
النهضة المصرية، 1980)، ص155.
[7] كارين
أرمسترونج، القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني،
(القاهرة: سطور، 1998م)، ص394.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق