الجمعة، مارس 24، 2017

بعض ما لا يُقال عن ثورة 1919

يبدو شهر مارس مكنوزا بالمناسبات الثورية، ففيه توفي ثائر الشرق الكبير جمال الدين الأفغاني، وفيه توفي الشيخ الثائر المجاهد صاحب الإنتاج الواسع عند "جند الله" تخطيطا وتنظيما وأخلاقا وثقافة وتربية، ويُقال إن له كتابا لم يطبع وهو "جند الله تنفيذا"، ذلك هو الشيخ سعيد حوى، وفيه توفي الشيخ الثائر الأديب وإن كان في غير زمن ثورة، أعني: الشيخ محمد الغزالي.. ومناسبات أخرى!

لكننا سنختار منها في سطورنا هذه ثورة 1919 التي اشتعلت في شهر مارس من ذلك العام، وكانت واحدة من أقوى ثورات الشعب المصري ضد الاحتلال الإنجليزي، ولكنها للأسف الشديد لم تكتمل، إذ احتواها الإنجليز بالإصلاحيين القانونيين السلميين (وهذا إن أحسنَّا بهم الظن)، حيث منحوهم منصب الحكومة منزوعة الصلاحيات، وأدخلوهم في متاهات التفاوض، حتى بردت الثورة وأمكن السيطرة عليها بتفويت اللحظة الفارقة.

لا يتسع المقام لتأريخ للثورة، وإنما نشير هنا إشارات سريعة إلى أمور لا تُحكى عادة عن هذه الثورة، بغية المساهمة في توضيح الصورة التي أريد تغييبها عن عقل الشعب المصري.

(1) حيوية الإسلام

عشية الثورة كان الاحتلال الإنجليزي قد أكمل في مصر سبعة وثلاثين عاما، أي أن مسار العلمنة والتغريب قد استكمل مساره وآتى ثماره، فلقد نجح الاحتلال الإنجليزي في تصفية دور الأزهر الذي لم يستطع إخراج زعامات تقود الثورة وتحرك الجماهير، لكن المفاجأة التي كانت بانتظاره أن المقاومة اشتعلت وقادها أناس من طبقة "الأفندية" التي تعلمت في المدارس والجامعات الغربية أو التي أنشئت على النمط الغربي، أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وفي مرحلة لاحقة حسن البنا. لقد أخرجت ذات المؤسسات التي أريد لها علمنة الجماهير قيادات المعارضة والثورة
يقول المؤرخ الأمريكي تيموثي ميتشل: "لكن عملية الاستعمار هذه لم تنجح تماما أبدا. فدائما ما كانت تبقى مناطق مقاومة وأصوات رفض. وأكثر من ذلك فإن المدارس والجامعات والصحافة، مثل الثكنات العسكرية، كانت عرضة دائما لأن تصبح مراكز لنوع من أنواع التمرد، مُحَوِّلة مناهج المستعمرين في التدريب والانضباط إلى وسائل للمعارضة المنظمة. ومن هنا ظهور حركات سياسية انضباطية معارضة للاحتلال الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، مثل الإخوان المسلمين في مصر، التي كان زعماؤها كلهم تقريبا من معلمي المدارس"[1].

(2) المقاومة السرية للحزب الوطني

لا ينبغي البدء في النظر إلى ثورة 1919 من لحظة تأسيس الوفد، إن هذه النظرة تحذف نضالا طويلا بدأه الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ثم محمد فريد. كان مصطفى كامل قد تشرب المبادئ الثورية من عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية المهزومة في نهاية القرن التاسع عشر.

ترسم مناهج التعليم المصرية صورة لمصطفى كامل ومحمد فريد باعتبارهما زعيميْن سياسييْن يعتمدان الطرق السلمية "المشروعة" ويثيران المقاومة الإعلامية والخطابية، بينما تضرب صفحا عن الكفاح السري المسلح والتنظيمات والجمعيات التي نشطت حتى بلغت ذروة منحناها في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، حيث نفذت اغتيال الوزير الخائن بطرس غالي (1910) وجرت ثلاث محاولات لاغتيال السلطان حسين كامل، وأكثر من محاولة لاغتيال الخديوي عباس حلمي الثاني، فضلا عن استهداف الإنجليز، وقد كشفت التحقيقات التي قامت بها أجهزة الأمن عند اغتيال بطرس غالي عن 85 تنظيما سريا.

ومن يطالع عبارات وموضوعات صحيفة "اللواء" الناطقة بلسان الحزب الوطني يجدها تصل أحيانا إلى نشر طريقة صنع المتفجرات، وشرح التجارب الثورية ضد الاحتلال في البلدان الأخرى، وتكشف بعض الدراسات[2] عن أن مصطفى كامل كان يتخذ اسما حركيا هو "أبو الفدا" ضمن إجراءات كثيرة لضم وتوحيد التنظيمات العاملة ضد الاحتلال[3].

(3) فكرة تأليف الوفد

لم تكن فكرة تأليف الوفد من بنات أفكار سعد زغلول، باعتراف سعد زغلول نفسه في مذكراته، وإنما كانت من أفكار الأمير عمر طوسون، إلا أن عددا من العوامل جعلها تتدحرج لتقع في حجر سعد زغلول.

كان الأمير عمر طوسون معروفا بعدائه للإنجليز وعلاقته القوية بالدولة العثمانية، بينما كان سعد زغلول من رجال الإنجليز حيث تولى وزارتين لهم وكانت علاقته ممتازة باللورد كرومر حيث أقام له حفل وداع حين اضطر إلى مغادرة مصر عقب الحملة الهائلة التي شنها مصطفى كامل بُعيْد حادثة دنشواي، وكان سعد يضع صورة كرومر خلفه وله في الثناء عليه عبارات كثيرة لا تزال منشورة في مذكراته. ولما جرى التفكير في تشكيل وفد يعرض المسألة المصرية بمؤتمر الصلح عقب الحرب العالمية الأولى كان أساس ذلك هو الوعد الذي أعلنه الرئيس الأمريكي ويلسون بمنح الشعوب حريتها، ومن ثَمَّ اتجه التفكير إلى زيارة القنصل الأمريكي في مصر لتسهيل حضور مؤتمر الصلح إلا أن القنصل فاجأهم بأنه من غير الممكن أن يطرخ المصريون قضيتهم بنفسهم، فإما أن يتفاهموا مع الإنجليز أو يجعلوا قضيتهم بيد الدولة العثمانية على اعتبار أن مصر، من الوجهة القانونية وقبل إعلان الحماية البريطانية، إنما كانت تابعة لها.

وهكذا استبعد سعد زغلول ومن معه الأميرَ عمر طوسون من الوفد لما بينه وبين الإنجليز من العداوة، وذهبوا باتجاه التفاهم مع الإنجليز، ثم إن الميول الإسلامية العثمانية للأمير تتناقض مع الميول العلمانية لسعد وصحبه. وبذلك صعد سعد على فكرة لم يكن صاحبها[4].

(3) فشل الليبراليين

انتهت الثورة التي كانت تهتف "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" إلى نتائج هزيلة بفعل الوفد الذي مثَّل قيادة لم تكن أبدا على مستوى اللحظة (كما يرى من يحبون أن يحسنوا بهم الظن) أو كانت وسيلة احتواء (كما يذهب آخرون، وهو ما نرجحه)، إذ لم يتحصل المصريون إلا على استقلال شكلي ودستور يعطي الملك صلاحيات واسعة على حساب الحكومة، ثم استعمل سعد زغلول ما اجتمع له من الطاقات والتنظيم في السيطرة على العمال والطلاب عبر سكرتير الوفد وأمين التنظيم عبد الرحمن فهمي، واستمرت المفاوضات ثلاثين سنة أخرى دون أن تفضي إلى الاستقلال.

هذه الثلاثون عاما تعرف بأنها الحقبة الليبرالية في مصر، وخلاصتها هي ما أوجزه المؤرخ الأمريكي إيرا م. لابيدوس بهذه الفقرة:

"ولجت مصر باب حقبة استقلالها الزائف أو الناقص مع كل العدة اللازمة لأي دولة قومية. كانت متمتعة بكتلة سكانية موحدة، وبتاريخ حكومة ممركزة، وطبقة مثقفين متغربنة ملتزمة بالنظام الدستوري الليبرالي. تمثلت المشكلات الرئيسة المنتصبة في وجه البلاد بنيْل الاستقلال الكامل، وبالتصدي للمستوى المتدني للمعيشة وضرورة التنمية الاقتصادية، وباجتراح هوية ثقافية وعقدية (أيديولوجية) حديثة. من أكثرية النواحي، أخفق النظام الليبرالي؛ أخفق في الفوز بالاستقلال الناجز وفي تحقيق تنمية اقتصادية مناسبة وعادلة أو في توفير هوية ثقافية راسخة"[5].

أما فصول الثورة وكيف جرى احتواؤها وتفريغها من عنفوانها الشديد، فلعله يكون في مقال قادم بإذن الله تعالى.






[1] تيموثي ميتشيل، استعمار مصر، ترجمة: بشير السباعي وأحمد حسان، ط1 (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2013)، ص273.
[2] أفرد د. عصام ضياء الدين السيد هذا الموضوع بدراسة تحت عنوان "الحزب الوطني والنضال السري 1907 – 1915"، وصدرت عام 1987 عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب".
[3] انظر: د. محمد مورو، تاريخ مصر الحديث: من الحملة الفرنسية إلى ثورة 1952، ص442 وما بعدها.
[4] انظر: د. عبد العظيم رمضان، تطور الحركة الوطنية في مصر 1918 – 1936: الجزء الأول، ط3 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، ص82 وما بعدها.
[5] إيرا م. لابيدوس، تاريخ المجتمعات الإسلامية، ترجمة: فاضل جكتر، ط2 (بيروت: دار الكتاب العربي، 2011)، 2/852.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق