الخميس، يونيو 18، 2015

مراحل بناء المسلم (2) استقلال الشخصية


لا يسمح الإسلام للمسلم أن يكون تابعًا، وكم نعى القرآن الكريم على المشركين أنهم يتمسكون بما وجدوا عليه آباءهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]، فالتقليد والانقياد سمة الهالكين الخاسرين {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، وكم هو مؤلم للنفس أن ترى مصير أبي طالب عم النبي r الذي نصره وحماه من أذى قريش حين يهلكه هذا الاتباع للآباء والأجداد، ولم يستطع التحرر من التقاليد، وخشي من كلام المشركين، لقد وقف رسول الله r إلى جواره وهو على مشارف الموت يرجوه: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله". فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله r يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله r "أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْ عنك". فأنزل الله تعالى فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]([1])، وقد زادت بعض الروايات الصحيحة قوله: "لولا أن تُعَيِّرَني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت لك بها عينك"([2]).. وخسر أبو طالب الآخرة لئلاَّ يقال: جزع أو مات على غير ملة عبد المطلب!

ومثلما يتألم المسلم لحال عبد المطلب فهو يتأسى بالسابقين الأولين إلى الإسلام، الذين أثنى الله عليهم فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، فأولئك السابقين كانوا أكثر الناس استقلالاً وتحررًا من ضغط الواقع الذي هم فيه:

فلقد تحرَّر عثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص من رواسب الخلاف بين بني عبد شمس وبني هاشم
، فأسلم مبكرًا وهو الخلاف الذي أهلك عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وأَخَّر إسلام أبي سفيان بن حرب وزوجته هند بنت عتبة

ولقد تحرَّر الأرقم بن أبي الأرقم وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميان من آثار التنافس بين بني مخزوم وبني عبد مناف
، وهو الذي أهلك أبا جهل إذ قال: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه".

وتحرر سعد بن أبي وقاص من ضغط أمه عليه

وتحرر مصعب بن عمير من متطلبات الترف والنعيم

وتحرر أبو بكر من حسابات التجار
؛ فصار ينفق المال ليشتري به العبيد المسلمين ويعتقهم

وتحرر بلال بن رباح من نفسية العبد
؛ فلم ينظر إلى رسالة النبي كغيره من العبيد على أنها نزاع بين الأحرار، أو تنافس على السلطة بين القرشيين؛ بل كان ذا نفس حرة أبصرت في رسالة الإسلام دعوة لكل البشر، الأحرار والعبيد العرب والأحباش!

إن الإسلام يغرس في أتباعه أن حساب يوم القيامة سيكون فرديًّا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95]، وعندما يأتي يوم القيامة تنسف الروابط بين الناس؛ إلا ما كان للحق: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وساعتها لن يغني أحد عن أحد شيئًا أمام الله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167] حتى {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 11 - 14]، وحين يدخل أهل النار يتنازعون فيها: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ: 31 - 33].

وخلاصة الأمر أن أحدًا لن يحمل عن أحد ذنبًا مهما كانت الصلة بينهما
: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]، ويصف النبي حال العبد وهو واقف وحيدًا أمام الله تعالى فيقول: "ما منكم أحدٌ إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا  ما قدَّم، وينظر بين  يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة"([3]).
إن القلب الذي يستوعب هذه الآيات والأحاديث ينعكس تلقائيًّا نحو النجاة بنفسه، والتحرر من تأثيرات الباطل فيما حوله؛ سواء أكانت أعرافًا أم عادات وتقاليد أم هوى متبعًا، فالأمر كما يجمله قول عبد الله بن مسعود t: "لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا"([4]).

وإن هذا الاستقلال والتحرر من ضغط الواقع مستمرٌّ
، ولو في زمان الفتن؛ أي عند ذورة البلاء، ساعتها نرى الآيات والأحاديث تزيد من وتيرة تثبيت المسلم ودعمه في تلك الظروف القاهرة على نحو قوله r: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء"([5]). وقوله r: "العبادة في الْهَرْجِ([6]) كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ"([7]). وقوله r: "إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله"([8]).

بهذا تتشكل نفس المسلم عبر القرآن والسنة
؛ فتُصاغ نفسًا حرةً ذات ميزان ورؤية أصلها الشرع، لا الواقع والظروف والتقاليد، تحاكم الواقع إلى الشرع لا العكس، وبهذا تتمكَّن من إصلاحه ومقاومة فساده.

نشر في ساسة بوست 



([1]) البخاري (1294)، ومسلم (24).
([2]) مسلم (25).
([3]) البخاري (7074)، ومسلم (1016).
([4]) روي عن النبي عند الترمذي (2007) وغيره، من طرق ضعيفة، وقال الألباني: يصح وقفه على ابن مسعود (مشكاة المصابيح 5129)
([5]) مسلم (145).
([6]) الهرج: الفتنة واختلاط أمور الناس.
([7]) مسلم (2948).
([8]) جزء صحيح من حديث رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، هكذا قال الألباني (صحيح الترغيب والترهيب 3172)، وانظر تفصيل التخريج في (السلسلة الضعيفة 1025).

هناك تعليق واحد: