تُوُفِّيَ
النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد أسس الدولة الإسلامية، فصارت دولة قوية محفوظة
الحدود، قد اكتمل لها التشريع الإلهي الذي يمثِّل الدستور الخالد لها، وصار لها رجال
تتمنَّى أي دولة أن كان لها واحد منهم .. فاجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة لينتخبوا
من بينهم أفضلهم وأقواهم وخيرهم وسيدهم .. ذلك هو: أبو بكر الصديق
لقد
تولَّى أبو بكر الخلافة في ظرف بالغ الدقَّة والخطورة؛ إذ نزلت وفاة النبي - صلى الله
عليه وسلم - على المسلمين كأشد صاعقة اهتزُّوا لها؛ حتى فقد بعضهم عقله لبعض الوقت،
فكان - رضي الله عنه - أثبت الجميع وأسرعهم إفاقة حين صدح بقولته الشهيرة: «مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ
اللهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ». ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي
اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] (1). فعندئذٍ أفاق مَنْ لم يكن يُصَدِّق، أو
بالأحرى مَنْ لم يكن يُريد أن يُصَدِّق، وعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد
استكمل أيامه في هذه الدنيا، وأنه قد فارقها إلى لقاء ربِّه جلَّ وعلا، بعد أن قام
بالمهمَّة خير قيام: أدَّى الرسالة، وبلَّغ الأمانة، ونصح للأُمَّة، وجاهد في الله
حقَّ جهاده.
اختار
المسلمون أبا بكر الصديق ليكون خليفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منصب رئيس
الدولة، وكان هذا الاختيار هو الأساس الشرعي في الفكر الإسلامي لشرعية الحكم؛ حيث لا
حقَّ لأحد في تنصيب نفسه أو غيره على المسلمين بغير رضىً منهم وتشاور، وأعلن أبو بكر
في أولى خطبه عددًا من المبادئ التي تُنَظِّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام؛
منها: أنه مُختار منهم وهم الذين نصبوه في هذا المقام، لا أنه نصب نفسه، أو نصبه أحد
من الناس، أو أنه يستحقُّ هذا المنصب لأفضلية له على غيره. ومنها: أن للأُمَّة دستورًا
وقانونًا متمثلًا في الشريعة، وأن الحاكم ملتزم به، وأن انحراف الحاكم عن القانون هو
مدعاة لعصيانه وعدم القبول به وضرورة مقاومة انحرافه. ومنها: المساواة التامَّة بين
الرعية؛ فكلهم أمام القانون سواء، كلهم يُؤخذ له حقُّه ويُؤخذ منه حقُّ غيره.
بدأ
أبو بكر الصديق في منصب الخلافة وأمامه ثلاث مشكلات خطيرة: أولاها: ارتداد قبائل العرب
التي أسلمت مؤخَّرًا وإعلانها الانفصال إمَّا عن الدين كله، وإمَّا عن تأدية الزكاة
والأموال، وبعضهم وصل به الحال إلى أنه كان يجهِّز لحرب المسلمين في عاصمتهم في المدينة
المنورة! والثانية: ذلك الجيش الذي أشرف النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه على إعداده
وتجهيزه للخروج إلى حرب الروم بقيادة الفتى القائد أسامة بن زيد -رضي الله عنه-؛
إذ اقترح بعض الصحابة إلَّا يخرج هذا الجيش مع تغيُّر الوضع الأمني بارتداد قبائل العرب،
وضرورة أن تبقى القوَّة المقاتلة إلى جوار العاصمة تحسُّبًا لأي طارئ؛ وهو ما كان أبو
بكر يرفضه بإصرار؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى بإنفاذ هذا الجيش، فكان هذا
نصًّا صريحًّا من النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحتمل أن يُوضع على محكِّ البحث
والنقاش. والثالثة: هي التعامل مع إمبراطوريتي فارس والروم؛ وقد ظهرت عداوتهما، وصاروا
في مجال التنفيذ للقضاء على الدولة الإسلامية كلها.
وقد
ترتَّب على هذه المشكلات مشكلات أخرى فرعية؛ مثل: الحدِّ بين المسلم والكافر، وهل يُقاتل
مَنْ لا يُؤدي الزكاة مع اعترافه بباقي أركان الإسلام؟ وماذا عن تسيير الدولة وقد انقطع
الوحي ومات النبي المعصوم، وصار يحكم المسلمين واحدٌ منهم؛ ليس لكلمته قداسة ولا عصمة
ولا يأتيه وحي؟ وما الشورى؟ ومَنْ أهلها؟ وما حدودها؟ وضرورة أن يُجمع القرآن في كتاب
واحد مكتوبًا محفوظًا؛ لكيلا يضيع لوفاة الحافظين.
وقد
قام الخليفة أبو بكر بمهمته خير قيام، فاضطلع بمهمَّة إنفاذ جيش أسامة بن زيد إلى الروم
مع وضع خطَّة لحماية المدينة؛ التي تشهد تداعيات الوضع الأمني الخطير المترتِّب على
خلوِّها من المقاتلين، وهو ما كان له أثر بعيد حول ردع القبائل جميعًا التي رأت جيشًا
يخرج في هذه الظروف إلى حرب مَنْ لا يتصوَّرون مواجهتهم، ثم أخرج الرسائل والجيوش تباعًا
ضمن خطَّة موضوعة سلفًا لإنهاء حركة المرتدين سلمًا ثم حربًا في أنحاء الجزيرة العربية،
واستطاعت الجيوش تحقيق انتصارات حاسمة على المرتدِّين وزعماء حركاتهم؛ مما أعاد الهيبة
إلى الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية، وانتهت حركة الردَّة سريعًا، وإن كلَّفت
المسلمين عددًا من خيرة الرجال والأبطال.
وكان
مما ترتب على حروب الردَّة ظهور الضرورة إلى جمع القرآن الكريم من الصدور والسطور والصحائف
في كتاب واحد؛ من بعد ما فقد المسلمون كثيرًا من حفظة القرآن في حروب المرتدين، فتمَّ
في عهد الصديق أهمُّ وأدقُّ وأعظم عمل توثيقي في التاريخ الإنساني كله، وجُمِع القرآن
في كتاب واحد بطريقة علمية توثيقية، كانت الترجمة الواقعية لوعد الله الخالد: {إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وفي
خلال هذه الفترة أسس الصديق للتنظيم الإداري للدولة؛ فكان الولاة خاضعين تابعين للسلطة
في المدينة المنورة التي هي العاصمة؛ فمنها تصدر الأوامر إلى كل الأنحاء، وتأتي إليها
الأموال المقرَّرة في الشريعة.
ثم بدأت
مرحلة الفتوح بعدئذٍ؛ حيث استطاعت الدولة الإسلامية الوليدة والخارجة من حرب داخلية
طاحنة أن تدخل المواجهة مع القوتين العالميتين في ذلك الوقت؛ وهما: إمبراطورية فارس،
وإمبراطورية الروم، ومن العجيب المدهش أنها خاضت هذه المواجهات في وقت واحد، وهذا يُعَدُّ
من عجائب التاريخ ووقائعه المدهشة.
وبرزت
في تلك الفتوحات أسماء فرسان الإسلام ورجال الإيمان الخالدين، وعلى رأسهم سيف الله
المسلول خالد بن الوليد - رضي الله عنه -؛ الذي لم يُهزم في معركة قط، وقد بدأت مسيرته
المظفَّرة بقيادته فتوح العراق، وأخذت تتساقط أمامه المدن الفارسية الواحدة تلو الأخرى؛
حتى تحقَّق رسوخ مطمئن للفتوحات في فارس، ثم وجَّهه أبو بكر الصديق عونًا ومساعدة للجيوش
التي تُجابه الروم؛ فقد كان الوضع أقلَّ نجاحًا منه في فارس، فانطلق خالد بن الوليد
ليُغَيِّر خريطة الأوضاع في الشام، وتبدأ به مرحلة اكتساح الإمبراطورية الرومية وفتح
مدن الشام.
في جبهة
العراق تسلَّم الفارس الكبير المثنى بن حارثة الشيباني القيادة العامة من خالد بن الوليد،
وواصل تقدُّمه في المدن الفارسية، وفي جبهة الشام كانت أربعة جيوش إسلامية تتقدَّم
في المدن الرومية، ثم جاءها جيش خالد بن الوليد الخامس، فنشبت معركتان فاصلتان في تاريخ
العلاقات الإسلامية البيزنطية: معركة أجنادين ومعركة اليرموك.
ورأى
العالم وللمرَّة الأولى فتوحًا حربية ليست كغيرها من الفتوح، سرعة فروسية وقوَّة
ورحمة وعدلًا وإحسانًا، وهي الفتوح التي أثارت وستظلُّ تُثير كل أنواع الاندهاش والإعجاب
من المؤرِّخين عبر العصور، وهي التي يُسَمِّيها المؤرِّخ وعالم الاجتماع الإنجليزي
هـ. ج. ويلز: «أعجب قصص الفتوح التي مرَّت على مسرح تاريخ الجنس البشري»(2). ولم تكن
الفتوح عجيبة من حيث قوتها وسرعتها بل بأخلاق الفاتحين أيضًا، وهو ما تُعَبِّر عنه
العبارة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي المعروف جوستاف لوبون: «وكان يمكن أن تُعمي فتوح
العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويُسِيئُوا
معاملة المغلوبين، ويُكْرِهُوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم
... فالحقُّ أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا مثل دينهم»(3).
هذه
الفتوح السريعة القوية صنعت موجة هادرة من الهيبة للمسلمين في العالم القديم، الذي
استيقظ فجأة على قوم خرجوا من الصحراء المجهولة المهملة؛ فانطلقوا حتى لم يَعُدْ يقف
أمامهم شيء، كما أن المعاملة الإسلامية بالعدل والرحمة بين الناس صنعت موجة هادرة أخرى
من انتشار الإسلام بسرعة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا؛ بعد أن تعرَّفُوا على دين
يحمله رجال لم يسمعوا عنهم إلَّا في الأساطير وحكايات الخيال، نبلًا ومروءة وعدلًا
ورحمة!
وصحيح
أن حركة الفتوح تمَّت تحت مظلَّة الإيمان القوي الهادر؛ إلَّا أنها لم تنجح بمجرَّد
هذا، بل كانت الخطط الحربية التي وضعها القادة الميدانيون والقيادة العامة ثم القيادة
العليا في العاصمة دليلًا على أن القوم كانوا من المحترفين الخبراء، ويمكن العودة في
هذه التفاصيل إلى الكتب المتخصِّصة (4).
وتبلغ
الدهشة منتهاها حين نعلم أن كل هذا قد تمَّ في عامين فحسب؛ هما فترة ولاية الصديق
- رضي الله عنه -، فأي رجل هذا الذي تسلَّم زمام الحكم والعاصمة مهدَّدة بالاجتياح
والنهاية، ثم ترك الحكم بعد عامين فقط وقد وضع دولته بين القوى العالمية العظمى؟!
لقد
أنجز الصديق في عامين فحسب ما عجز عنه أبطال التاريخ وشخصياته الكبرى في أعمارهم؛ وذلك
من إقرار الوضع الداخلي، ثم تثبيت أقدام المسلمين على الساحة العالمية، ثم هو بعد كل
هذا رجل كغيره من الناس يتفقَّد الأيتام، ويقوم بحاجة الأرامل والفقراء والمحتاجين
بنفسه، ويضرب المثل في الزهد والورع والخوف من الله .. إنها حقًّا شخصية لا تُحيط بها
الكلمات!
جاء
الأَجَلُ أبا بكر الصديق فترك هذه الدنيا غير آسف عليها، ولا حريص على أن يرى نفسه
إمبراطور الدنيا، بل اشتاق إلى لقاء ربِّه، ولم يترك خلفه شيئًا ذا بال، إلَّا اقتراحًا
على الأُمَّة أن يكون خليفتها من بعده رجلًا عظيمًا فريدًا من نوعه؛ ذلك هو: عمر بن
الخطاب
نشر في ساسة بوست
__________
(1)
البخاري (1185).
(2)
هـ. ج. ويلز: موجز تاريخ العالم ص204.
(3)
جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص605.
(4)
أفضل ما كُتب في التفاصيل الحربية للفتوحات الإسلامية فيما نعلم هي مؤلفات الأستاذ
أحمد عادل كمال في سلسلته «استراتيجية الفتوحات الإسلامية»، وتشمل: «الطريق إلى المدائن،
سقوط المدائن ونهاية الدولة الساسانية، الطريق إلى دمشق، القادسية، الفتح الإسلامي
لمصر»، ثم كتابه «أطلس الفتوحات الإسلامية» .. ثم يأتي بعدها مؤلفات اللواء محمود شيت
خطاب، والركن بسام العسلي وغيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق