فاضت روح الصديق إلى بارئها بعد سنتين في الخلافة كانتا معجزة تاريخية حقيقية، وأقر المسلمون ترشيحه واختاروا عمر
بن الخطاب خليفة من بعده.
لقد كان عمر بن الخطاب عنوانًا على عزَّة الإسلام والمسلمين،
وكان رجل المواقف الصعبة، شديدًا في الحق، بصيرًا ألمعيًّا، نزل القرآن يُوافق رأيه
في أكثر من حادثة، ولم يكن المسلمون يعدلون به أحدًا بعد أبي بكر - رضي الله عنه
-.
لقد كان اقتراح أبي بكر على الأُمَّة بخلافة عمر مجرَّد اقتراح
لا أكثر؛ فالأُمَّة هي صاحبة القرار والاختيار في النهاية، ولقد أقرَّت الأُمَّة اقتراح
أبي بكر ورضيت باختيار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خليفة عليهم، وفي أولى خطبه
- رضي الله عنه - أعاد التركيز والتأسيس للعلاقة بين الحاكم والأُمَّة، وأن الحاكم
إنما هو وكيل عن الأُمَّة؛ وليس وصيًّا عليها، أو بديلًا عنها، وأن طاعته مشروطة بالتزامه
شريعتها وقوانينها، وأن للأُمَّة حقًّا أصيلًا في مقاومة انحراف الحاكم وتقويمه، وأن
العدل هو القيمة العظمى التي ينبغي على الخليفة أن يُقيمها، وأنه لا أحد من الناس يتميَّز
في أخذ الحقِّ له أو أخذ الحقِّ منه.
وشهد عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قفزتين كبيرتين:
الأولى على مستوى التنظيم الإداري الداخلي للدولة الإسلامية، والثانية على مستوى الفتوحات
العظيمة التي انفجرت شرقًا وغربًا؛ حتى زالت في عهده الدولة الساسانية الفارسية، وترنَّحت
الدولة الرومانية البيزنطية، وأصبح عالم الإسلام يمتدُّ على رقعة فسيحة من أواسط آسيا
وحتى السواحل الغربية لإفريقيا.
اهتمَّ عمر بن الخطاب بجوانب النشاط الاجتماعي كالحسبة، والنشاط
الاقتصادي كالتجارة وأحوال الأسواق، والنشاط العلمي التعليمي؛ حتى صارت المدينة في
عهده منبع العلوم، وصار يبعث إلى الأمصار بالعلماء النابهين ينشرون دين الله، ويعلمونه
للناس في الآفاق جميعًا، وقد وفَّرت هذه الموجة العلمية إسنادًا لموجة الفتوح؛ فبالعلم
كثر المسلمون وكثر المجاهدون، واستقرَّ الإسلام في النفوس وفي البلاد المفتوحة, وحتى
الجانب الأدبي إذ كان عمر -رضي الله عنه- حافظًا للشعر محبًّا له، مشهورًا بالاستشهاد
به.
وشهدت الدولة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب خطوات متقدِّمة
في البناء والتعمير وإنشاء المدن؛ كمعسكرات في بادئ الأمر، ثم كعواصم حضارية؛ مثل:
البصرة، والكوفة، والفسطاط وسرت، كما شهدت اجتهادات جديدة مثَّلت تشريعات أصيلة للأُمَّة
فيما بعدُ؛ مثل: حالات المجاعات، والنوازل العامة، كما حدث في عام الرمادة، وانتشار
الطاعون، وأثَّر ذلك على دفع الزكاة، وتنفيذ الحدود، وابتكار الحجر الصحي، وتقسيم المواريث.
وفي عهد عمر نضجت وتطوَّرت مؤسَّسات الدولة المالية والقضائية،
وأُنشئت الدواوين (الوزارات)، فضُبِطت أحوال الدولة ومواردها ونفقاتها، وحُصِر المواطنون
في سجلات، وكانت لهم رواتب سنوية، وابتدأ التأريخ الإسلامي، وصدرت النقود الإسلامية،
وتعامل عمر - رضي الله عنه - مع ولاة الدولة على المدن والأنحاء بالرقابة التامَّة
في الأموال والإدارة وإقامة العدل، وكانت رغبات أهل المدن في تغيير ولاتهم نافذة ومستجابة؛
مهما كانت تَقْوَى هذا الوالي وعدله.
هذا الازدهار الداخلي لم يكن وحده الإنجاز الكبير الذي قام
به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ بل لا يمرُّ قارئ على سيرة عمر بن الخطاب إلَّا
ويرى موجة الفتوحات الهائلة التي توسَّعت فيها الدولة الإسلامية أضعاف مساحتها؛ ففي
عهد عمر اكتمل فتح الشام ومصر والشمال الإفريقي، وسقطت الدولة الساسانية الفارسية،
وواصلت الجيوش الإسلامية مسيرتها في فتح البلاد بروائع الخطط الحربية، وبسالات الشجاعة،
ونوادر الإقدام، وفي فتح القلوب بما أقاموه من العدل وما نشروه من الرحمة.
ولا نعرف في كل التاريخ رجلا توسعت دولته في عهده هذا
التوسع ثم شُهِد له بالعدل والرحمة إلا عمر بن الخطاب، فإن كل توسع نعرفه حمل من
المآسي والمظالم والمذابح ما يصيب بالاشمئزاز، حتى إن جمهور المؤرخين من كثرة ما
اعتادوا على هذا الطبع تعاملوا مع هذه المآسي ببساطة وكأنها ضريبة حتمية للتوسع،
فلم تكن المذابح تخدش البطولات، فمذابح شارلمان لا تؤثر في كونه بطلا في المزاج
الأوروبي، ولا مذابح فيليب، ولا مذابح نابليون، ولا ما فعله بسمارك، ولو قُدِّر
لهتلر النصر ما أقيمت له المشانق بعد موته!
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد شهد له من غلبهم
بالعدل والفضل، فقد جاء في رسالة يشوع ياف الثالث (III Isho Yaph) إلى المطران سمعان ( Simeon) مطران فارس
في عهد عمر بن الخطاب إبان فتوحات فارس قوله: "إن العرب الذين منحهم الله
سلطان الدنيا، يشاهدون ما أنتم عليه وهم بينكم كما تعلمون ذلك حق العلم، ومع ذلك فهم
لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس يعطفون على ديننا ويكرمون قسسنا وقديسي
الرب، ويجودون بالفضل على الكنائس والأديار"[1].
وكان دخوله القدس ومعاملته للنصارى مما يتغنى به المؤرخون بعد ألف سنة من وفاته
وإن كانوا ملحدين، فهذا جوستاف لوبون يشهد أنه لما دخل عمر بن الخطاب "القدس أبدى
من التسامح العظيم نحو أهلها ما أمنوا به على دينهم وأموالهم وعاداتهم، ولم يفرض سوى
جزية زهيدة عليهم، وأبدى العرب تسامحا مثل هذا تجاه المدن السورية الأخرى كلها، ولم
يلبث جميع سكانها أن رضوا بسيادة العرب، واعتنق أكثر أولئك السكان الإسلام بدلا من
النصرانية، وأقبلوا على تعلم اللغة العربية"[2].
والكلام في هذا يطول جدا وليس هذا موضع التفصيل فيه.
وقد كان للفتوح أثر كبير في الاحتكاك الحضاري بين المسلمين
وغيرهم من الأمم، وتأصَّلت في حركة الفتوحات تشريعات فقهية في التعامل مع الأمم والبلدان
المفتوحة، وفي العلاقة بين دولة الإسلام وغيرها من الدول، وغير ذلك مما هو مبسوط في
الكتب المتخصِّصة في الحضارة والإدارة والسياسة الشرعية؛ ولذلك فإن الفقه المأثور عن
عمر - رضي الله عنه - غزير وفير[3].
وقبل كل ذلك وبعده كان عمر - رضي الله عنه - مثالًا في الإيمان
والزهد والتقشُّف، وكان يُحاسب نفسه حسابًا شديدًا، وكان يبكي من خشية الله ومن قراءة
القرآن؛ حتى حفرت الدموع مسارًا لها في خَدَّيْه، وامتلأت قلوب الناس بمحبَّته وهيبته،
ولئن كان الصديق قد ترك الدولة وقد وضعها بين مصافِّ القوى العظمى، فإن عمر بن الخطاب
قد تركها وهي القوَّة الأكبر على الساحة العالمية؛ بعدما انهارت أمامها دولة بني ساسان،
وانكمشت أمامها دولة البيزنطيين.
وكانت عشر سنوات فارقة في تاريخ الإنسانية، ثم جاءته الطعنة
الغادرة ذات يوم وهو يُصَلِّي الفجر، طعنه عبد مجوسي ممَّنْ يعملون في المدينة، فكانت
الطعنة النافذة القاتلة التي مكث فيها أيامًا ثم فاضت روحه إلى بارئها، - رضي الله
عنه - ورحمه الله تعالى.
وكانت آخر مآثر عمر وآثاره أن اقترح على المسلمين طريقة اختيار
الخليفة التالي، فاختار ستة من خيار الصحابة؛ وهم بقية العشرة المبشرين بالجنة مع استبعاد
قرابته، ورتَّب أمر الاختيار بينهم؛ فلمَّا مات سار الصحابة على اقتراحه، وأسفر كل
هذا عن انتخاب المسلمين للرجل الثالث في المنزلة والمكانة والفضل والمقام .. ذلك هو:
عثمان بن عفان!
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق