الأربعاء، أغسطس 27، 2025

رسالة إلى ضباط الجيش المصري!

 

منذ فترة أريد أن أكتب مقالا عنوانه: رسالة إلى ضباط الجيش المصري.. أريده أن يكون رسالة أخيرة، {ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة}.

 

على أني منذ عقدت تلك النية لم أجد في نفسي الفرصة لصفاء نفسي أو ظروف مواتية، بل الأمور تتسارع من حولي، وأخشى أن يُحال بيني وبين ذلك.. ومن يدري؟.. لعل كلمة هنا أو هناك تقع موقعها في صدر أحد الذين يقرؤونها، فيكون فيها الخير له، ولنا، وللأمة كلها.

 

ولكي لا يطول الانتظار، فقد عزمتُ أن أكتب هنا أهم ما أريد قوله، وإن لم يكن مرتبا ولا متقنا على النحو الذي رغبت فيه.

 

يا ضباط الجيش المصري.. في كل مواقعهم.. اسمعوا مني فوالله إنها لنصيحة صادق مخلص.. وعلم ذلك عند الله!

 

(1)

 

لئن كان الناس يجاملونكم أو يغازلونكم، رغبا أو رهبا، فوالله لا أجاملكم ولا أغازلكم.. بل أنصحكم نصيحة مشفق عليكم، محذر لكم.. فوالله العظيم إنكم لعلى خطر عظيم وفي خطر عظيم..

 

ولا تغركم الرتب ولا المزايا ولا السلطة.. فوالله ما هو إلا نَفَسٌ واحدُ يخرج ولا يعود، فيجد الإنسان نفسه في الآخرة، في القبر، أمام ملائكة الحساب، وينقطع عنه العمل والأمل حتى يقف أمام الله.. فلا رتب ولا نياشين ولا أموال ولا سلطة.. ولا علاقات نافذة.. يقف المرء وحده أمام مصيره النهائي الأبدي الكبير.. فإما الجنة وإما النار.

 

(2)

 

ولا أخاطبكم هنا إلا بكلام الله وكلام رسوله.. كما قال تعالى {قُلْ: إنما أنذركم بالوحي}

 

والإنذار بالوحي، بكلام الله وكلام رسوله، لا ينصرف عنه إلا الذين وصفهم الله بالصَّمَمَ.. وهؤلاء لا يستفيقون إلا حين يقع العذاب والعقاب، في الدنيا أو في يوم القيامة.. وهناك: يرى كل واحد منهم أن كل أعماله مهما كانت صغيرة وتافهة قد وُضِعت في الميزان.

 

اسمع الآية: {قل إنما أنذركم بالوحي، ولا يسمع الصُمُّ الدعاء إذا ما يُنْذَرون * ولئن مسَّتهم نفحة من عذاب ربك ليقولن: يا ويلنا إنا كنا ظالمين * ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تُظلم نفسٌ شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين}

 

(3)

 

إن كنت تشك -أو ستَشُكّ- في كلامي هذا وفي أغراضي منه، فسأخبرك بطريقة قرآنية.. نصح بها القرآن الناس إذا تحيروا والتبست عليهم الأمور، لكي يتوصلوا بأنفسهم إلى ما إن كان الكلام الذي يسمعونه حقا أو باطلا.

 

نصحهم القرآن بالانفراد بالنفس، أو الانفراد بأقرب المقربين الصادقين، ثم التفكر والتأمل في الكلام.. يعني: اخرج من كل البيئة المحيطة بك، من كل ما يُشَوِّش عليك الفهم، من كل العوامل التي تضغط وتؤثر في تفكيرك.. ابق وحدك تماما، وتفكر في أمرك بنفسك.. أو اصطحب معك أقرب الناس إليك وأخلصهم عندك.. وتفكرا معا.

 

واحد أو اثنين.. لا تكونوا ثلاثة ولا أربعة.. ثم تأمل في الكلام!

 

قال تعالى {قل إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا}

 

هذا علاج قرآنيٌ لم يتدخل فيه أحد.. أنت ونفسك والله.. أو: أنت وصديقك المخلص والله ثالثكما.. وهو الذي يعلم غيب النفوس، ويعلم حقيقة الضمائر، ويطلع على حقيقة التفكر، وحقيقة الاستجابة له!

 

(4)

 

إن أقرب الناس من الخطر العظيم هم جُنود الظالمين.. بل وأخبرك بالحقيقة المرة -وقد قلت لك: لن أجامل- أن أغلبهم هالكون!

 

هناك أمل وحيد وضعيف، سأخبرك به بعد قليل.. ولكن دعني أوضح لك الخطر العظيم أولا:

 

إن حياة الجندية والعسكرية، وما فيها من طبيعة السطوة والسلطة والعقوبة النافذة والخطر المحقق، تطبع الإنسان فيها على السمع والطاعة.. في الأغلب: دون تفكير!

 

ثم إن اهتمام الحاكم -بالذات: لو كان طاغية وسفاحا- بالجيش على وجه التحديد، لأنه أهم أدوات الحكم والسيطرة، يجعله مهتما غاية الاهتمام بتشكيل عقولهم ونفوسهم بحيث يتشربون رأيه ورؤيته، وبحيث يتعاظم هو في نفوسهم فلا يفكرون في التفكير بعد رأيه، وحتى إن فكروا: لا يجرؤون على التمرد عليه.. وهذا ما يعطل في نفوس الجنود والضباط أهم خصائص الإنسان الطبيعي: التفكير الحر والاستقلال بالقرار.

 

لهذا، ولأسباب أخرى: كان العسكريون أبعد الناس عن الهداية، وأقربهم إلى اتباع الحاكم حتى لو أمرهم بقتل الأبرياء، بل حتى لو قادهم إلى النار.. وحتى لو وقعت أمامهم المعجزات!!

 

إذا كنتَ تقرأ القرآن، فأنت تعلم كيف أن جنود فرعون

 

1. كانوا ينفذون أوامر قتل الأطفال

 

2. وهم الذين نفذوا أوامر تعذيب السحرة الذين آمنوا بموسى.. وهنا تخيل: المعجزة الواحدة وقعت أمام السحرة وأمام العسكريين: فآمن السحرة.. ولكن العسكريين تولوا تعذيبهم.. هؤلاء آمنوا واتبعوا ما ظهر لهم من الحق والمعجزة. وهؤلاء اتبعوا أوامر فرعون فعذبوا الذين آمنوا

 

3. ثم المشهد الأخطر على الإطلاق: مشهد البحر الذي انشق لموسى.. معجزة كونية هائلة ضخمة مروعة.. يجب أن يؤمن لها أي عاقل.. فإذا لم يؤمن فليتخوف وليتردد وليفكر في هذا الذي تغير له الكون وانشق له البحر.. لكن جنود فرعون فعلوا ما لا يمكن تصوره.. لقد أمرهم فرعون بالعبور خلف موسى فعبروا معه.. فغرقوا جميعا!

 

ولهذا يذكر القرآن الكريم أن الله قد عذب فرعون وجنوده.. وأنهم معه في النار حتى الآن..

 

سأذكر لك أربعة آيات فقط، تأملها.. ثم القرآن حافل بما يجب أن تتفكر فيه جيدا..

 

{واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق، وظنوا أنهم إلينا لا يُرجعون}

 

{فأتبعهم فرعون بجنوده، فغشيهم من اليمِّ ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى}

 

{فاتبعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة، فأوردهم النار، وبئس الورد المورود * وأُتْبِعوا في هذه لعنةَ ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود}

 

{النار يُعرضون عليها غُدُوًّا وعشيا، ويوم تقوم الساعة: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}

 

هذا هو الخطر العظيم الذي أنت فيه.. خطر الوجود في بيئة ومنظومة تتشكل فيها النفوس بالسطوة والرهبة، كما تتشكل بالمزايا والرغبة، وتتركز عليها اهتمامات الحاكم كي تنسجم له وتتناغم معه.. هذه المنظومة أغلب الذين يتخرجون فيها يتبعون الأوامر وينصاعون لها، مهما كانت مخالفة لأوامر الله، ومهما كانت تؤدي إلى النار..

 

ثم تعمل النفوس الخائفة والراغبة على التبرير لنفسها، وإلقاء الأعذار.. والله يقول {بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره}.. والمعنى: مهما اختلق الإنسان لنفسه من الأعذار والمبررات، فهو يعرف في حقيقة نفسه، والله يعرف كذلك، ما قيمة هذه الأعذار والمبررات..

 

ربما يخطر في بالك أن #السيسي ليس فرعون.. بل هو مسلم ومتدين، وشخص وطني.. هذا الخاطر لن أجيبك عليه.. تفكر فيه مع نفسك.. والله مطلع عليك ويعلم ما في نفسك

 

(5)

 

مهما كانت النتيجة التي توصلت إليها في شأن السيسي.. فأريد أن أخبرك بأن هذا الخطر العظيم.. خطر الوجود في منظومة تجعل أوامر القائد والحاكم فوق أوامر الله.. وتتشكل فيها النفوس لكي يكون القائد والحاكم هو الإله على الحقيقة..

 

هذا الخطر العظيم ليس متعلقا بفرعون وحده.. بل يتعلق بكل الذين يخونون الله ورسوله ويخونون الأمانة..

 

هذا هو الخطر الذي حذَّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين تحدث عن أمراء، ليسوا فراعين ولا كفارا، بل مسلمين.. وهم لا يتركون الصلاة بل يؤخرون الصلاة عن مواقيتها.. لكنهم يقربون شرار الناس..

 

قال رسول الله: "ليأتين عليكم أمراء يُقَرِّبون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم، فلا يكونن عريفًا، ولا شرطيًّا، ولا جابيًا، ولا خازنًا". (حديث حسن)

 

إذا كان قد خطر ببالك أن السيسي ليس مثل فرعون.. فتأمَّل: كيف أن تقريب الأشرار، وتأخير الصلاة عن مواقيتها جعل النبي يحذر من البقاء في منظومة هذا الحاكم: العسكرية والأمنية والمالية!!

 

ثم تأمل..

 

(6)

 

إذا كنتَ ما تزال على الاتفاق، بأنك تفكر صادقا مع نفسك، منفردا عن المؤثرات التي حولك.. فلن تكون بحاجة إلى أن أخبرك ماذا فعل هذا السيسي في البلد..

 

انظر في أي مكان.. أي مكان.. أي مكان..

 

الفقر والقهر والظلم منتشر في كل حارة!

المظلومون في كل مكان.. حتى إنهم ليملؤون السجون!

الفساد ونهب الأموال والتضييق على الناس، يلوح في كل وجه!

التبذير وإنفاق أنهار الأموال على بناء القصور الكثيرة والطائرات الفاخرة والعاصمة الجديدة!

نشر الانحلال الأخلاقي في الإعلام والأفلام والمسلسلات!

إقصاء الدعاة والصالحين والمصلحين.. وتقريب المنافقين والكذابين!

هدم المساجد والمقابر التاريخية الإسلامية.. ثم تقنين الكنائس.. ثم تجديد المقابر اليهودية والآثار الفرعونية!

 

وفوق هذا كله أمور ستهلك معها أجيالا كثيرة قادمة:

 

القروض الثقيلة التي تتراكم وتتزايد ولا تطيق البلد سدادها..

نهر النيل الذي يضيع.. أو: ضاع بالفعل!!

الجزر الاستراتيجية التي كنا نملك أن نخنق منها إسرائيل.. بيعت!

حقول الغاز التي كان يمكن أن تكفي البلد، فسدت، ثم صرنا نستورد الغاز من العدو الذي قتلنا قديما، ويقتلنا الآن، ويعلن أنه ينوي أن يقتلنا ويطردنا غدا (من النيل إلى الفرات!!)

تهيئة الأوضاع لانتشار ميليشيات تابعة لإسرائيل على كل حدودنا: العرجاني في سيناء، حميدتي في السودان، حفتر في ليبيا.. إسرائيل تحاصرنا!!

 

ثم: غزة.. وما أدراك ما غزة.. ثم ما أدراك ما غزة.. كل مشهد من غزة يحكي قصة ويستحق مقالا طويلا وحده!!

 

هل تعرف بلدا في العالم ذبح الناس على حدودها ثم تركتهم يذبحون؟!!.. أو: أخذت من كل لاجئ فيهم 5000 دولار لكي تسمح له بالخروج والنجاة من المحرقة؟.. واللاجئ يدفعها ويخرج بعد الإذن الإسرائيلي...

 

فكِّر فيما حولك، وأخبرني عن بلد تشددت في إغلاق حدودها وفي إنشاء جدار فولاذي يخترق الأرض، لكي تمنع المذبوحين المحروقين من النجاة!!

 

وهي في الوقت نفسه.. تسمح لمن ذبوحهم بالدخول إليها بغير تأشيرة، وقضاء الصيف والعطلات والأعياد!!

 

هل من عارٍ أشدُّ من هذا العار؟!!

 

هل رأيت دولة يوجد في خطها الأمامي تجاه عدوها مقاتلون باسلون أشداء استشهاديون، ثم تعمل هذه الدولة لإفنائهم وإنهائهم بدلا من دعمهم وتقويتهم وكسب النفوذ بهم؟!!

 

إن محاولة سرد عناوين الجرائم التي حدثت وتحدث في البلد تستغرق وقتا طويلا، وستبدو مملة للغاية.. مع أنها مجرد عناوين!!

 

(7)

 

بقي أن أخبرك عن الأمل الضعيف الذي وعدتك به..

 

هو أمل ضعيف، ولكنه موجود.. غير أنه لا يقوى عليه إلا ذو العزيمة القوية الشديدة.. هذا الذي يتخذ قرارا يشتري به الآخرة ويبيع من أجلها الدنيا.. ولذلك لا يفعلها الأكثرون.. بل يفعلها القلة!

 

لقد أخبرنا الله ورسوله عن قوم ينتقلون فجأة وفي لحظة واحدة من موقع الباطل إلى موقع الحق..

 

وكلما كان هذا الإنسان قويا وعريقا في معسكر الباطل، كان انتقاله إلى الحق أصعب وأشد.. ولكنه كان انتقالا قويا.. من الحضيض إلى الذروة، في لحظة واحدة..

 

مثل سحرة فرعون.. كانوا قبل ساعة جزءا من نظام فرعون، يطلبون المال ويتآمرون على موسى.. ثم وقعت المعجزة فآمنوا.. فتعرضوا للعذاب الفرعوني بعد ساعة.. فأصبحوا في اليوم التالي في الجنة!!.. ولا تزال قصتهم خالدة على لسان الناس بعد ثلاثة آلاف سنة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!

 

مثل حبر اليهود، عبد الله بن سلام، الذي لما رأى النبي عرف أنه النبي الموعود، فأسلم وترك كل ما كان فيه من رئاسة وجاه وعظمة، وكان مع النبي، وتحمل أذى اليهود وما أشاعوه عنه!

 

مثل القائد الرومي جورج (جَرَجة) الذي جاء يقاتل المسلمين، فلما تكلم مع خالد بن الوليد، آمن، وانتقل إلى صف المسلمين، فقاتل معهم فقُتِل شهيدا!

 

مثل الحر بن يزيد، قائد القوة العسكرية التي جاءت تمنع الحسين من دخول الكوفة، فلما رأى أن والي الكوفة وجيشه يتآمرون على قتل الحسين ويرفضون أي حلول.. انتقل فقاتل معه حتى قُتِل شهيدا!

 

والتاريخ حافل بالتائبين.. غير أن أولئك المنتقلين من موقع السلطة والمكانة في الباطل كانوا أعظم أجرا وأخلد ذِكْرًا.. وقد بلغ الرجل مرتبة سيد الشهداء إن هو قال كلمة حق عند سلطان جائر، فقُتِل لأجلها!

 

(8)

 

السؤال الذي يدور في الذهن دائما: وماذا أفعل؟ ماذا بيدي أن أصنع؟

 

والإجابة عن هذا السؤال أنت تعرفها أكثر من غيرك.. بل أنت الوحيد الذي يعرفها..

 

إذا كنتَ على العهد، ما زلت تفكر وحدك -أو مع الصديق المقرب منك- وتعرف أن الله يطلع عليك ويراقبك ويعلم حقيقة نفسك.. فأنت أقدر الناس على إجابة هذا السؤال.

 

أستطيع أن أخبرك عن الحد الأدنى الذي يملكه كل أحد: لا تنفذ أمرا فيه اعتداء على الناس، لا تظلم أحدا، لا تطلق النار على أحد مهما كنت مضطرا لذلك (فلا عذر في القتل)..

 

هذا هو الحد الأدنى.. أما ما فوق ذلك من مراتب العمل، فأنت أعرف الناس به.

 

والله يوفقك ويرعاك!!

 

وهذا هو الأمل الوحيد الضعيف.. وأما ما سوى ذلك، فوالله إنك لعلى خطر عظيم.. وما هي إلا ساعات أو أيام.. وتنقضي هذه الحياة كلها، لترى نفسك في المصير الكبير الذي اخترته بنفسك!

 

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها .. إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخير طاب مسكنه .. وإن بناها بظلم خاب بانيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعها .. ودُورنا لخراب الدهر نبنيها

الاثنين، أغسطس 04، 2025

سيد قطب.. وُضِع له القبول في الأرض!

 

سيد قطب.. رجل عاش القرآن بروح عالية وفكر محلق، ثم سكب معانيه بقلم أديب مشرق..

ثم قدم روحه ثمنا لكلماته، فكساها ألق الشهادة ورفعها لمرتبة السيادة.. فسيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله..

 

(1)

لست أعرف رجلا وُضِع له القبول في الأرض بين المسلمين على اختلاف بلادهم واتجاهاتهم كما هو الحال في الشهيد القرآني سيد قطب رحمه الله، فإن المسلمين وأهل العلم يُعَظِّمونه في بلادٍ ما أشد التباين بينها في فهم أهلها للإسلام وفي أخذهم به!

وأسوق على ذلك أقرب الأمثلة؛ فإن سيدًا كان مُعَظَّمًا في مصر والجزيرة العربية وفارس وأفغانستان وتركيا، وما أعجب هذا وما أغربه، فكيف يجتمع في تعظيمه أهل البيئة السلفية مع أهل البيئة الشيعية مع الأحناف الصوفية الأشاعرة والماتريدية؟!

لقد ترجم كتبه إلى الفارسية رأس الشيعة: علي خامنئي، وأرسل يتشفع فيه رأس السلفية: عبد العزيز بن باز، وكانت تطبع كتبه في البلديْن العدوّين المختلفين في كل شيء: السعودية وإيران!!

وفي تركيا، حدثني الشيخ نور الدين يلدز، وهو ممن ترجم كتب سيد قطب إلى التركية أن الناس في تركيا، وفي الزمن العلماني الذي كاد الدين يذبل فيها، قد انثالوا على بيته وحرصوا على مصافحته ولمس يده لما عاد من عمرة عرفوا أنه فيها التقى الشيخ محمد قطب، شقيق الشهيد سيد قطب!!

وإذا تركنا المتعصبين والمهاويس في كل اتجاه حركي، فلقد التقى على توقير سيد وتعظيمه الاتجاهات الحركية في بلدانها المتباعدة: الإخوان المسلمون والسلفيون والجماعة الإسلامية في الهند وباكستان وجماعة الدعوة والتبليغ، وكثير من المتصوفين!

ولدي انطباعٌ من طول القراءة للرجل وعنه، أتحوط الآن في تسجيله مستعملا ألفاظ الاستدراك، فأقول: كاد يكون الموقف من سيد قطب علامة ودليلا على موقع الرجل: هل هو في معركة الإسلام والأمة أم هو خارجها؟!

وأن يكون خارجها فليس يعني ضرورة أنه عدوٌ أو مفسد، فقد يكون كذلك، وقد يكون جاهلا أو مغفلا أو ساهيا لاهيا عن معركة الإسلام في هذا العصر. وذلك أني أفتش في رأسي فلا أكاد أعثر على رجل مهموم حقا بمعركة الدين والأمة في هذا العصر إلا وكان له موقف يُعظِّم فيه سيد قطب ويحبه، مهما كانت عنده من ملاحظات جزئية وتفصيلية!

وأما رؤوس العداء لسيد قطب، أولئك الذين اتخذوه غرضا وهدفا، فما من شك في أنهم من أعداء هذه الأمة الصرحاء، سواءٌ أكانوا عالمين بهذا قاصدين له، أو كانوا من الغباء والغفلة والجهل بحيث استعملهم أعداء الأمة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا[1]!

إن من يقرأ في تراث الشهيد القرآني لا يداخله شكٌّ في أن هذا العقل الكبير وهذا القلب الغيور وهذا القلم الأصيل قد استفرغ وسعه في بيان محاسن الإسلام ونقض أباطيل الكفر والجاهلية، وأنه سعى ما وسعه السعي وانتهت به طاقة ذي القلم في أن يثير قلوب الناس ويستحث عقولهم ويوجِّه أبصارهم إلى هذا الحل الإسلامي الرباني، الحل الوحيد الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعالج ما في حياتهم من المشكلات والمعضلات والعثرات.

فما يقرأ ذلك الكلامَ قارئ مخلص للإسلام إلا ويتسرب إليه حب الشهيد، ثم ما يطلع أحد على سيرته وحياته إلا ويُعَظِّمه، فلك أن تعرف أنه كان رأس الوقوف في وجه الطاغية الجبار الذي خدع الملايين حتى محضوه حبا خالصا وشغفا جنونيا بفعل سحر الإعلام وطغيانه! أقصد: جمال عبد الناصر، الذي تهيأت له من الظروف ما لم يتهيأ مثلها لغيره حتى صار زعيم العرب قاطبة في عصره، وكان لهم من الطغيان وضروب التوحش والتعذيب ما لم يكن للعرب عهد به في سائر تاريخهم. فالذي كان يعيش في زمانه إن كان عبقريا ذكيا قوي النظر فأفلت من طغيان سحره، فما كان أندر أن يكون روحا صلبة أبية صخرية فولاذية تتجرأ فتقتحم مخاوف بطشه وتنكيله. ولذلك اختبأ أكثر الناس، ولم يُعرف في مفكري مصر ومثقفيها –على كثرتهم- من تجرأ على الوقوف في وجه عبد الناصر إبان سطوته وجبروته، اللهم إلا سيد قطب!

ولقد قيَّض الله للشهيد من يحفظ إرثه حتى انتشر وطغا وذاع في العالمين، ولقد رأيت من كان يحفظ "في ظلال القرآن" وهو أربعة آلاف صفحة من الصفحات الكبيرة التي ضُيِّق فيها الكلام وحُشِر، (وقد طُبع بأخرة في ستة آلاف صفحة)، وما ذلك إلا لأن الحملة كانت عاتية على كتب الشهيد وتراثه، حتى قدَّر بعض الحريصين أنه لا بد من حفظه في الصدور!

 

(2)

مما يثير الألم في النفس أن يكون العدو الغريب أحسن فهما وتقييما لرجال الإسلام من أولئك المحسوبين المنسوبين للإسلام والدين..

يذكر الشيخ فايز الكندري، الأسير المحرر من سجن جوانتانامو الأمريكي، أنه قد "صرح لي أحد المحققين بكل وضوح أن أخطر شخصية على الغرب خلال القرن الماضي هو سيد قطب"[2].

وتلك شهادة خطيرة وعظيمة أيضا في حق الرجل، بل وهي مرتبة يتمناها المسلم، فأن تكون أخطر شخصية على الغرب إنما يعني -بالتعبير القرآني- أن تكون أكثر الذين يطئون موطئا يغيظ الكفار!

وليس هذا خافيا، ولا هو بالأمر الذي يُقال في الدهاليز والأروقة فحسب، بل قد ذكر نفس هذا المعنى ثعلب السياسة الأمريكية الأشهر، هنري كيسنجر، ذلك المؤرخ والمفكر والسياسي الداهية الذي تولى مقعد مستشار الأمن القومي وظل مُعَظَّمًا فيهم إلى أن مات بعد أن جاوز المائة عام!

كيسنجر في كتابه "النظام العالمي"، يرى أن الشهيد سيد قطب قدَّم الإجابة المفصلة عن الأسئلة التي لم يُجب عنها حسن البنا، وأن إجابة سيد قطب هذه هي "الطبعة الأعمق والأكثر نفوذًا لهذه النظرة" الإسلامية الثورية. وقرر كيسنجر أن كتاب معالم في الطريق إنما "هو بيان حرب على النظام العالمي القائم، ما لبث أن غدا نصًا تأسيسيًا للحركة الإسلاموية الحديثة".

ومضى كيسنجر يشرح التناقض الجذري بين الرؤية الإسلامية التي يقررها سيد قطب، وبين النظام العالمي القائم على مجموعة من الدول المعلمنة والمُقَسَّمة قوميا وعرقيا، فيقول:

"الإسلام، بنظر قطب، نظام كوني شامل يوفر الصيغة الصحيحة الوحيدة للحرية؛ التحرر من حاكمية بشر آخرين، عقائد من صنع الإنسان، أو "روابط دنيا قائمة على العنصر واللون، على اللغة والبلد، على المصالح الإقليمية والوطنية - القومية" (أي سائر الصيغ الحديثة الأخرى للحاكمية والولاء مع بعض ركائز بناء نظام وستفاليا). تمثلت رسالة الإسلام الحديثة، برأي قطب، في إطاحة ذلك كله والاستعاضة عنه بما عده تطبيقًا حرفيًا، عالميًا آخر المطاف، للقرآن. وكان من شأن تتويج هذه السيرورة أن تتمثل بـ "بلوغ حرية الإنسان على الأرض - جميع البشر عبر كوكب الأرض". كان من شأن هذا أن يكمل العملية التي أطلقتها الموجة الأولى للتوسع الإسلامي في القرنين السابع والثامن"، "العملية التي يجب أن تصل عندئذ إلى الجنس البشري كله في طول الأرض وعرضها، نظرًا لأن هدف هذا الدين هو الإنسانية كلها وفضاء حركته هو الأرض كلها"... كان قطب، ذو الاطلاع الواسع والشغف الشديد، قد أعلن الحرب على الوضع العام - حداثة علمانية بفظاظة وتمزق إسلامي، كما جرى تصديقهما من قبل تسوية ما بعد الحرب العالمية الأولى الإقليمية في الشرق الأوسط... كتلة الأفكار هذه تمثل عكسًا شبه كلي وقلبًا لنظلم وستفاليا العالمي. لا تستطيع الدول، بنظر أنقى طبعات الحركة الإسلاموية، أن تكون المنطلق المناسب لأي نظام دولي لأن الدول علمانية"[3].

ويحظى سيد قطب بأهمية خاصة لدى الغربيين، لا سيما الباحثين في الشؤون الأمنية والحركات الجهادية، وفي حدود ما اطلعت وعرفت فقد ندر أن جرى تناول سيد قطب وفكره بإنصاف في الكتابات الغربية، والنادر هنا بمعنى أني بعد البحث والسؤال والتعقب لم أعثر إلا على خمسة بحوث غربية قيل إنها تنصف سيد قطب، لكن لم يتيسر لي الاطلاع عليها.

 

(3)

بقي أن يُقال: هل كانت أفكار سيد قطب متطرفة تخصه؟ أم هي الفكرة الإسلامية ذاتها قد عبَّر هو عنها، بلغته وأسلوبه وقلمه؟!

ليس أسهل من إجابة هذا السؤال من الإشارة إلى ما وُضع للشهيد وكتبه من الانتشار والقبول في الأرض، كما ذكرنا في مطلع هذا المقال. إذ ليس يمكن أن يروج في عالم المسلمين ما هو شاذ عن دينهم وإيمانهم وأفكارهم! لا سيما في هذه الأمة التي قدر الله أنها لا تجتمع على ضلالة وأن ما يكون حسنا فيها فهو عند الله حسن!

كذلك فقد ذكرنا أن كافة أهل العلم المعتبرين الذين تكلموا في سيد قطب، فهم بين قسميْن: إما أنهم عظموه ووقروه بلا تحفظ، أو أن تحفظاتهم واختلافاتهم معه كانت في أمور جزئية يسع فيها الخلاف أو تُغمر في بحر فضائل الرجل! فيكون الرأي النهائي لهؤلاء الناس أن الرجل من أهل الإسلام بل من ساداتهم والمبرزين فيهم.

وأي شيء أبلغ في الشهادة للرجل أن نجد بعض أعدائه يسرق منه كلماته، كما فعل علي جمعة –المفتي الأسبق في مصر- وشوقي علام –المفتي السابق- فقد رُصِد لكل منهم مقالات نقلوا فيها عن الشهيد دون أن يذكروا اسمه، وما فتئوا يطعنون فيه وفي أفكاره.

ومما ينبغي أن يذكر هنا، للدلالة على الأمر، أن وزير شؤون الأزهر في الحقبة الناصرية، وهو نفسه أستاذ الفلسفة الإسلامية، الدكتور محمد البهي، سجل في مذكراته لقاءً له بعبد الحكيم عامر (أقوى رجل في مصر وقتها)، وفيها سأله عن رأيه في كتاب معالم في الطريق، فقال الرجل: "أجبته عن تقييمي لكتاب "معالم على الطريق" بأني كنت أتمنى أنا الذي كتبته. هاج ووقف من جلوس. وقال: كيف تقول ذلك والصحافة كلها نددت به؟ قلت له: إن ما في هذا الكتاب هو رأي القرآن فيما أرى. وما تقوله الصحافة عنه: شيء سياسي لا دخل له إطلاقا في تقييمه"[4].

وحتى الشيخ العلامة الكبير، فقيه العصر، يوسف القرضاوي، مع ما كان له من الخلاف مع الشهيد، لم يسعه في الإجمال إلا أن يقول: "سيد قطب أحد عظماء الرجال في أمتنا, في تاريخنا الحديث والمعاصر, هو مسلم عظيم، إذا قِسْنا العَظَمة بمقياس الإنسانية, وهو أديب عظيم، إذا قِسْنا العظمة بمقياس الإبداع في الأدب والنقد الأدبي، وهو داعية عظيم، إذا قِسْنا العظمة بقوة التأثير في الدعوة والتوجيه، وهو عالم ومفكِّر عظيم، له أثره في العلم والفكر، إذا قسْنا العظمة بمقدار الاستقلال في الفكر وأصالة العلم، وهو أيضًا مسلم عظيم، إذا قسنا العظمة بالبذل والتضحية في سبيل الله. وحسْبُنا أن الرجل قدَّم عنقَه ودمه فداءً للدعوة التي يؤمن بها"[5].

بل حتى البيئة السلفية التي يمكن القول بأنها أكثر البيئات العلمية تدقيقا في الألفاظ وعناية بهذا الباب، إلى الحد الذي تقع فيه المغالاة، نجد عالما سلفيا كبيرا مثل الشيخ بكر أبو زيد، وفي مقام النقد والاستدراك –كما في كتاب: معجم المناهي اللفظية- لا يسعه إلا أن يجمل القول في الشهيد فيقول: "في كلام سيد قطب -رحمه الله- وفي بعض تصانيفه مما يشعر الباحث أنه كان قد أصابه شيء من التحمس الزائد للإسلام في سبيل توضيحه للناس. ولعل عذره في ذلك أنه كان يكتب بلغة أدبية؛ ففي بعض المسائل الفقهية كحديثه عن حق العمال في كتابه: "العدالة الاجتماعية" أخذ يكتب بالتوحيد، وبعبارات كلها قوية تحيي في نفوس المؤمنين الثقة بدينهم وإيمانهم، فهو من هذه الخلفية في الواقع قد جدّد دعوة الإسلام في قلوب الشباب، وإن كنَّا نلمس أحياناً أن له بعض الكلمات تدل على أنه لم يساعده وقته على أن يحرر فكره من بعض المسائل التي كان يكتب حولها أو يتحدث فيها"[6]. ولقد نقلتُ من هذا الموطن الذي هو في مقام الاستدراك والنقد، ولم أنقل من رسالته الذهبية في الرد على ربيع المدخلي، فإن كلامه فيها كان في سياق إنصاف الشهيد والتحدث بمآثره!

رحم الله الشهيد سيد قطب.. وبلغه منازل الصديقين والشهداء والصالحين.. وألحقنا به على خير أجمعين!


[1] كان من تدبير الله العجيب أن اخترنا موضوع هذا العدد من المجلة عن الشهيد سيد قطب لموافقة صدور العدد ذكرى استشهاده، ثم بعدها بيومين فحسب جاء الخبر بموت ربيع بن هادي المدخلي، رأس الضلالة الذي اتخذ الشهيد سيدًا هدفا وغرضا، والذي كان رأس فرقة فتنة وضلالة التي عرفت بالجامية وبالمداخلة. والزمان بيننا، وستكشف الأيام من الخبيث الذي سيذهب كلامه جفاء ويجتث من فوق الأرض، ومن الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض، ويؤتي أكله كل حين بإذن ربه!

[2] فايز الكندري، البلاء الشديد والميلاد الجديد، ص211.

[3] هنري كيسنجر، النظام العالمي، ص124 وما بعدها.

[4] د. محمد البهي، حياتي في رحاب الأزهر، ص133.

[5] د. يوسف القرضاوي، في وداع الأعلام، ص84

[6] د. بكر أبو زيد، معجم المناهي اللفظية، ص211