الأربعاء، ديسمبر 03، 2025

أبو بكر.. الصاحب الأعظم! كيف رآه المستشرقون والمؤرخون الغربيون!

 

فضَّل الله نبينا على سائر الأنبياء، فهو إمامهم وخاتمهم، وبه اكتملت الرسالات، وهو وحده الذي أُرسل لكل العالمين!

وفضَّل صحابة نبينا على سائر أصحاب الأنبياء، فقد أثنى الله عليهم في كتابه ما لم يُثنِ على غيرهم من أصحاب الأنبياء!

وقد جاء عن نبينا، وهو ما كان عليه المسلمون منذ زمن الصحابة وحتى يوم الناس هذا أن أبا بكر هو أفضل الصحابة وأعلاهم شأنا.. فأبو بكر هو أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، وهو أعظم صاحبٍ لأعظم نبي في الأولين والآخرين.

ومن علامات ذلك ودلائله أن أبا بكر قد اشتمل قصة الإسلام، وما ذلك لأحد إلا لأبي بكر، فإنه كان أول مَنْ آمن مِن الرجال، فكان شاهد عيان على ولادة الإسلام وبزوغه، ثم صحب هذا الدين في رحلته منذ كان قولا في صدر رجل، حتى صار أمة في واقع الحياة، وقوة عظمى في عالم السياسة، وصفحة محفورة في كتاب التاريخ!

فما من شيء رنا إليه المسلم إلا وجد فيه لأبي بكر قدوة ومثلا.. في زمان الاستضعاف أو في زمان التمكين، في لحظة المحنة أو لحظة المنحة، في باب الاتباع أو في باب القيادة، في مهجع العبادة أو في ساحة الجهاد، في عمل القلب أو في عمل الجوارح، في حال الغنى أو في حال الفقر، في طريق الدعوة أو في طريق السياسة.. ونادرٌ من البشر من جمع بين هذا كله!

إنه مُعَلِّمٌ كبير في كل شيء، إذ كان حاضرا في كل لحظة.. إنه وزير نبينا الأول! وصاحبه الأثير! وصفيُّه من بين الناس!.. إنه أعظم بشر لم يتصل بوحي السماء!

ومن ها هنا، فلن ترى للمسلمين زمان ولا موقف إلا وجدوا فيه أنهم يستفيدون من أبي بكر ويتذكرون فصولا من سيرته وسياسته.

ولقد شدَّ أبو بكر أنظار المسلمين إلى مثاله حتى أفاضوا من المدح فيه، فلم يتركوا قولا لقائل، فما من كاتب يريد أن يتكلم عن أبي بكر إلا أعوزته العبارة، وتقاصر عن الزيادة..

فلذلك رأيتُ أن أذهب إلى المؤرخين والمستشرقين الأجانب، فأنقل من كلام بعضهم ما لا يمكن اتهامه بأنه صادرٌ عن عاطفة المسلم. ومما رأيتُ فإنهم يلتفتون في سيرة أبي بكر لثلاث محطات أساسية: إسلامه، شدة إيمانه وتصديقه، دوره الهائل عند توليه الخلافة.

 

إسلام أبي بكر

يتفق هؤلاء الغربيون على أن أهم شخص في الإسلام بعد النبي هو أبو بكر، وذلك أنه لما أسلم كان هو الأكثر فعالية في نشر الإسلام من بين المسلمين الأربعة الأوائل، فإنه رجل بالغ حر، ليس امرأة مثل خديجة ولا صغيرا مثل علي ولا مولى مثل زيد بن حارثة. وفوق ذلك فإنه تاجر صاحب أموال، ومؤرخ نسابة صاحب علم، وخلوق عفيف صاحب نفوذ ومكانة وعلاقات. وفوق ذلك كله: لقد آمن بمحمد إيمانا لا مثيل له، وجاءت ثمرات إيمانه سريعا: خمسة شخصيات قوية وفاصلة في تاريخ الإسلام، أسلموا بتأثير أبي بكر!

1.    يقول المستشرق الفرنسي المسيحي المتعصب هنري ماسيه: "أول من آمن بكلام محمد بعد خديجة هو ابن عمه علي بن أبي طالب، ولكن طفولة علي قَلَّلَتْ من أهمية اهتدائه، وكان الاهتداء الأكثر نفعا هو اهتداء أبي بكر، وهو تاجر عظيم نذر لمحمد محبةً لا تنفصم"[1].

2.    وتقول كارين أرمسترونج، الراهبة السابقة والباحثة البريطانية في مقارنة الأديان، عن إسلام أبي بكر: "كان ذلك حدثا له أهميته الحيوية، لم يكن يتمتع كثير ممن دخلوا في الإسلام بنفوذ في مكة يماثل نفوذ أبي بكر"[2].

3.    ويقول الكاتب الفرنسي جان بروا: "لم يكن أبو بكر في الجاهلية بالمغمور أو المجهول، بل كان نابه الذكر، جم الاحترام والتقدير، معروفا في القبائل بحسن أخلاقه وسموّ منزلته، فلم يكن يؤمن بما جاء به صديقه الأمين حتى شرع يؤدي واجب الرسالة ويدعو الناس إلى الإسلام"[3].

4.    ويقول دينيه، المستشرق والرسام الفرنسي الذي أسلم وتسمى بناصر الدين وكتب كتابا عن النبي: "أشاع إسلام أبي بكر في نفس الرسول سرورا عظيما، وكان أبو بكر صدرا معظما في قريش على سعة من المال وحسن الوجه، وصاحب منظر أنيق، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان أعلم الناس بتعبير الرؤيا، صادقا في حديثه، حسن المجالسة، وقد اختاره قومه قاضيا في المغارم والديات وحكما في المفاخرات، في إيمان حار، أخذ أبو بكر يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ويكرس جهده في نشر الإسلام، ويقود أصدقاءه إلى الرسول ليعلمهم الإسلام"[4].

5.    ويقول المستشرق والرحالة الفرنسي كلود إتيان سافاري، الذي سبقت رحلتُه إلى المشرق الحملةَ الفرنسية، وترجم القرآن، وكتب كتابا عن السيرة: "كان أبو بكر مواطنا ذا نفوذ في مكة، مشهورا باستقامته وبثرواته، فشرع محمد يعمل على إسلامه، اعتقادًا منه أنه جدير بأن يعطي قوة لدينه الجديد، وتَوَّج النجاح مجهوداته، وأصبح أبو بكر من أقوى أنصار الإسلام، لقد كان إسلامه نصرا كبيرا، فحمل أبو بكر بين أصدقائه شعلة الإيمان التي ملأت صدره وأخضع بها الكثيرين، وقدَّم إلى النبي عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، آمن الجميع واعتنقوا الإسلام، وكانوا الرعيل الأول للديانة المحمدية"[5].

6.    ويقول المستشرق الفرنسي إميل درمنغم، صاحب واحد من أفضل الكتب الغربية عن النبي، حاول فيه أن يقرب صورة النبي إلى الغربيين حتى أفرط في ذلك وتكلف أن يمحو الفارق بين الإسلام والمسيحية، يقول: "كان لإسلام أبي بكر بالغ الأثر، فقد تابعه على الإسلام من قريش عثمان بن عفان الأموي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وصهره -بعد ذلك- الزبير بن العوام -فقد تزوج أسماء بنت أبي بكر-، وهذا مع ذِكْرِنا أن أبا بكر لم يسطع أن يهدي إلى الإسلام أباه وأولاده، ولا سيما ابنه البكر"[6].

 

تصديق أبي بكر

يتحدث بعض المؤرخين عن أن إيمان أبي بكر، كان له تأثير خاص في مسار الإسلام، وذلك أن أبا بكر كان من صفوة الناس الذين لا يُتهمون بضعف الرأي ولا بالمطمع الدنيء، فما آمن به أبو بكر وهو الراجح العقل يجعل له تأثيرا وقدرا وجاذبية! بل ذهب بعض المؤرخين إلى أن إيمان أبي بكر هو نفسه من دلائل صدق النبي:

7.    يقول ألفونسو دي لامارتين، وهو شاعر ودبلوماسي ومؤرخ فرنسي، صاحب كتاب مشهور عن تاريخ الأتراك، جعل الجزء الأول منه عن سيرة النبي، "حَمَتْ مجاهرة أبي بكر بإيمانه بعقيدة محمد الدين الإسلامي الناشئ من صبغة الجنون والهزء، وهي أول تجلٍّ للسخرية يرسله عامة الناس دون تمحيص إزاء كل ما يصدم تقاليدهم، إذ كان أبو بكر من أولئك الذين يجلب اعتناقهم رأيا احترام الكثرة من الناس إن لم يكن اقتناعهم بسداد ما يرى، وحينما أعلن أن محمدا هو وليه، وقاه من الاحتقار"[7].

8.    ويقول هربرت جورج ويلز، الكاتب والأديب الإنجليزي الشهير، مدافعا عن صدق النبي تجاه غلو الغربيين: "ليس عدلا أن نتخذ الغلو لنا رائدا، هل تراك علمتَ قط بأن رجلا على غير كريم السجايا مستطيعٌ أن يتخذ له صديقا؟ ذلك أن من عرفوا محمدا أكثر من غيرهم كانوا أشد الناس إيمانا به. وقد آمنت به خديجة طوال حياتها –على أنها ربما كانت زوجة محبة. وأبو بكر شاهدٌ أفضل، وهو لم يتردد قط في إخلاصه. كان أبو بكر يؤمن بالنبي، ومن العسير على أي إنسان يقرأ تاريخ تلك الأيام ألا يؤمن بأبي بكر. وكذلك علي، فإنه خاطر بحياته من أجل النبي في أحلك أيامه. لم يكن محمد دجالا بأية حال"[8].

9.    ويقول المستشرق الألماني الشهير، كارل بروكلمان: "في هذه الأثناء كان مسلمو مكة، على ما تقول الروايات، يعانون أزمة جديدة. ذلك ان حديث محمد عن إسرائه العجيب، برفقة جبريل، إلى بيت المقدس ومن ثم إلى السماء، كان قد أوقع موجة من الشك في نفوس بعض المؤمنين. ولكن ابا بكر ضرب بايمانه الراسخ مثلاً طيباً لهؤلاء المتشككين فزايلتهم الريب والظنون"[9].

 

خلافة أبي بكر

ربما يندهش القارئ المسلم إذا عرف أن عديدا من المؤرخين الغربيين ينظر إلى أبي بكر على أنه المؤسس الحقيقي لدولة الإسلام، وذلك أن وفاة النبي كانت لحظة فاصلة تسببت في ردة كثير من قبائل العرب، فإذا بهذا الرجل يقضي على حركة الردة بل ويحولها إلى حركة فتوح واسعة ومدهشة تبدأ في إسقاط القوتين العظميين العالميتين وقتها –فارس والروم، وتلك هي النقلة الهائلة التي جعلت الإسلام دينا عالميا، وكانت تحولا حاسما في مسار التاريخ.

10.          يقول هربرت جورج ويلز: "يقول المؤرخون إن المؤسس الحق للدولة الإسلامية لم يكن محمدا قدر ما هو صديقه ومساعده أبو بكر، فلئن كان محمد هو العقل المفكر والتصور الملهم للإسلام الأصلي، فلقد كان أبو بكر ضميره وإرادته، حتى إذا مات محمد أصبح أبو بكر خليفته، ثم راح بعقيدة تزحزح الجبال، يعمل ببساطة وعقل راجح على إخضاع العالم كله لأمر الله، بواسطة جيوش يتراوح عددها بين ثلاثة أو أربعة آلاف عربي طبقا لتلك الرسائل التي كتبها النبي عليه السلام من المدينة إلى جميع ملوك العالم. فهو بحق مؤسس دولة الإسلام"[10].

11.          ويقول كارل بروكلمان: "كان النبي قد شغل نفسه، في أيامه الأخيرة، بإعداد الجيوش للانتقام من البيزنطيين الذين هزموا المسلمين في مؤتة. فوجد أبو بكر نفسه مسؤولاً عن إنفاذ خطة النبي الأخيرة هذه، على الرغم من أن الأنباء المخوفة عن شيوع الاضطراب في انحاء الجزيرة كانت تتواتر على المدينة من كل حدب وصوب. وهكذا وجه أبو بكر نخبة جيوش الاسلام الى الشمال تحت قيادة أسامة... قضى أسامة وجنوده شهرين خارج المدينة، وبذلك أصبحت عاصمة المسلمين في مركز لا يساعدها كثيراً على الدفاع عن نفسها. والواقع ان أسداً وغطفان، النازلين غير بعيد عن المدينة، كانوا أول هذا الوضع، فهاجموا المسلمين. ولكن أبا بكر استطاع أن يثبت لهم ويصدهم عن أهدافهم"[11].

12.          ويقول المؤرخ الأمريكي الشهير، والاسم اللامع في مدرسة التاريخ العالمي، وليم ماكنيل: "فاختاروا أبا بكر، وهو أول من آمن من الرجال وأقرب أصحاب النبي إليه، ولقبوه بـ «خليفة» رسول الله. وتولى أبو بكر القيادة الفعلية للمجتمع الإسلامي بوصفه خليفة، وكانت سياسته العامة في كل الأشياء هي التمسك الوثيق بسنة النبي نفسه. وكان ذلك يقتضي اهتماما شديدًا بأقوال النبي، ولاسيما ما وصفها بنفسه بأنها تأتي من الوحي. وكان سبيل ذلك القياس الاستوثاق الدقيق من نسب الأحاديث التي تحملها الذاكرة حتى تُستخدم سابقةً صحيحةً في أي موقف يستجد"[12].

13.          ويقول المؤرخ الأمريكي الشهير، ول ديورانت، صاحب موسوعة قصة الحضارة: "كان أبو بكر وقتئذ في التاسعة والخمسين من عمره، وكان قصر القامة، نحيف الجسم، قوى البنية، قليل الشعر، أبيض اللحية حمراء الصبغة، بسيطاً في معيشته، متقشفاً، رحيما في حزم، يعني شخصياً بجميع شئون الإدارة والقضاء جليلها وصغيرها على السواء، لا يهدأ له بال حتى يأخذ العدل · مجراه، وظل يعمل ولا يتقاضى أجراً على عمله، وظل شديد التقشف حتى أقنعه الشعب بأن ينزل قليلا عن تقشفه، ثم أوصى قبل وفاته بأن يعود إلى بيت مال المسلمين كل ما أرغم على أخذه منه. وحسبت قبائل بلاد العرب أن تواضعه ضعف. وإذا كان بعضها لم يتمكن الإسلام من قلوب أفرادها، ومنهم من اعتنقه كارها، فقد ارتد هؤلاء عنه، وأبوا أن يؤدوا الزكاة التي فرضها عليهم الإسلام. ولما أصر أبو بكر على وجوب أدائها زحفوا على المدينة، وجمع أبو بكر جيشاً في ليلة واحدة، وقاده بنفسه في مطلع الفجر، وبدد به شمل العصاة"[13].

رحم الله أبا بكر، صاحب نبينا ووزيره ومستشاره وصهره وخليفته من بعده.. وهيأ لنا رجالا من مثله يرفعون عن الأمة ما هي فيه من الذلة والمهانة والضعف والهزيمة.

نشر في مجلة أنصار النبي - ديسمبر 2025م


[1] هنري ماسيه، الإسلام، ص45.

[2] كارين أرمسترونج، سيرة النبي محمد، ص158.

[3] جان بروا، محمد نابليون السماء، ص28.

[4] دينيه، محمد رسول الله، ص116، 117.

[5] سافاري، مختصر حياة محمد (السيرة النبوية وكيف حرفها المستشرقون)، ص72.

[6] درمنغم، حياة محمد، ص89.

[7] لا مارتين، مختارات من كتاب حياة محمد، ص43، 44.

[8] هربرت ج ويلز، معالم تاريخ الإنسانية، 3/800.

[9] بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص44.

[10] هربرت ج ويلز، موجز تاريخ العالم، ص203.

[11] بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص84، 85.

[12] وليم ماكنيل، صعود الغرب، ص533.

[13] ول ديورانت، قصة الحضارة، 13/70، 71.

الأحد، نوفمبر 02، 2025

تحت راية الطوفان في بيت حانون!


محمد إلهامي[1]

 

مهما طالت الحياة فإنها تساوي على الحقيقة تلك اللحظات التي يختزنها صاحبها في ضميره، لا ينساها مهما تطاولت السنون، ويتذكرها مهما باعدتها الأيام، فالحياة هي اللحظات المؤثرة.. ولذلك ترى الناس كلهم يشعرون أن أعمارهم قد انقضت سريعا وأن أيامهم قد مضت كلمح البصر!

وقد كان نبينا الأعظم ﷺ في أواخر عمره وهو بالمدينة، وقد قامت دولة الإسلام وترسخت وانتصرت بعد أهوال وأهوال، يتذكر مواقف مكة القديمة، تسأله عائشة عن أشد ما لقي في حياته، فلا يذكر يوم أحد بل يذكر يوم طُرد من الطائف، وكيف هام على وجهه مهموما فلم يستفق إلا في قرن الثعالب، المنطقة التي تبعد عن مكة نحو ستين كيلا، أي أنه مشى تسع ساعات لم يشعر بها من شدة الهم. كذلك فإنه لما تذكر أشد الكروب عليه لم يكن شيء من ذلك في الهجرة أو في المدينة، بل كانت جلسة التحقيق التي نصبها له كفار قريش لما أخبرهم أنه قد أُسْري به، يقول: فكربت كربة لم أكرب مثلها قط!

أتذكر ذلك الآن، لأن واحدة من تلك اللحظات التي لست أنساها، كانت حين وصلتني رسالة من الشهيد القائد محمد زكي، صاحب هذا الكتاب، وكان ذلك صبيحة عيد الفطر (1445ه = 2024م)، ولم أكن أعرفه ولا بيننا اتصال قط.. غير أني لقيت أخاه أبا عبد الله –حفظه الله ووفقه- مرات قليلة في اسطنبول ضمن فعاليات عامة، وحتى في ذلك كان الحديث بيننا قليلا.

أرسل إلي أبو عبد الله رسالة من أخيه، يهنئني فيها بعيد الفطر، وهي رسالة كتبها في أنفاق بيت حانون، أي على خط المواجهة الأولى في أقصى شمال قطاع غزة!!

وقد غمرتني الرسالة بطوفان من المشاعر؛ أشدها علي وأعظمها عندي، العجبُ من أن رجلا في بيت حانون -بين المعارك والأشلاء والكر والفر- يتذكر رجلا مثلي منعما ممتعا في اسطنبول!!

فشكرته ما أسعفتني لغتي في الشكر، ثم صرت أرسل بالاطمئنان عليه بين الفينة والأخرى!

ثم ما لبث بعدها شهورا، أن أتحفني –حين انعقدت الهدنة التي بدأت في يناير 2025م- أن أتحفني بأمرٍ هو أعز وأغلى وألذ وأحلى.. فقد أخبرني أبو عبد الله أن أخاه أبا زكي كتب كتابا بين الأنفاق والعُقَد القتالية، سمَّاه "تحت راية الطوفان".. دَوَّن فيه بعض ما رآه في هذا الطوفان من عجائب وكرامات ومن شدائد ومحن!!

فطلبتُ إليه أن أقرأ الكتاب قبل نشره، لشدة حرصي على تتبع أخبار الرجال الذين لا يظهرون على الإعلام، ولا يبثون مشاعرهم حتى على مواقع التواصل. فوافق مشكورا مأجورا..

وأخبرني أبو عبد الله أن أخاه القائد الشهيد كان يتابعني بل لقد كان يُدَرِّس بعض كتبي للشباب معه! وقد علم الله، لشأني في نفسي أحقر من هذا وأدنى وأهون.. ولَأَن يجري اسمي على لسان مجاهد لهو شَرَف عزيز، فكيف بهذا المقام؟!

وبينما كنت أقرأ الكتاب –الذي هو الآن بين يديك- وألتهمه، وأتشرب ما فيه من رائحة الأنفاس وصهيلها، وهدير المعارك ولهيبها، وما تثيره من المعاني في القلوب والعقول، وما تثيره من الغبار في الأنوف والصدور.. إذ فوجئت بصاحبنا يذكرني في كتابه بثناء حسن.. فصرت في بحر من الحيرة، لا أدري من أي شيء أعجب، ولا على أي شيء أتحسر.. وأسأل الله أن يسترنا بستره الجميل.. غير أن ثناء المجاهد لا يعدله عندي ثناء مهما عَظُم صاحبه في شأن الدنيا!!

ولك أن تتخيل حال رجل مثلي، عاجز في مكانه، آمن في سربه، معافى في بدنه، عنده أقوات يومه وغده وبعد غده.. كيف يكون حاله إن جاءه ثناءٌ من رجل ترفرف روحه فوق رأسه، يخوض أشرف معارك الأمة؟!!

وقد كنت حينها أمرُّ بكربٍ شديدٍ، فأطمعني هذا الكرم الحاتمي السيال، فأرسلت إليه أطلب دعاءه ودعاء من في الثغور لينفك هذا الكرب، فما أقرب أن يستجيب الله لهؤلاء.. فكان كما هو أهله: أجابني بدعائه الشجي الندي، وقد شاء الله بفضله وكرمه وانحل الكربُ بأمر يشبه المعجزة.. فما أحسب إلا أن هذا كان من كراماته!!

ومضت الأيام، وبعد شهور، إذا به يرسل إليّ يطلب مني أن أكتب مقدمة لكتابه "تحت راية الطوفان"، بعد أن أضاف إليه شيئا من أخبار تجدد القتال بعد انهيار الهدنة في مارس الماضي.. ومن ذا يتخلى عن مثل هذا الشرف!

ثم ما هي إلا أربعة أيام بعدها حتى جاءني نبأ استشهاده.. فلما عرفت اسمه ورأيت صورته وسمعت مقاطع نشرت له عرفتُ بعين اليقين ما كنت شعرت به حين قرأت الكتاب بعلم اليقين.. ذلك سمت شهيد! طال الوقت أم قصر!!

إن في الكتاب روحا من صاحبه، وفي الكتاب ترى رجلا ناهلا من القرآن متعلقا به يحسن الاستشهاد منه على المعنى الذي يريده، حركيا عمليا متعاملا مع نفوس الناس وما يصدر عنها حين الشدة من أوجه ضعف أو خوف أو تردد، فقيها يتكلم في عبادات المجاهد: كيف يصلي وكيف يتطهر، بل كيف يعيد بناء المسجد الذي تهدم في المنطقة التي أبيدت لكي يثبت قلوب الناس ويعيد بث الحق والخير فيهم.

فإذا سمعتَ صوته ورأيت صورته -كما في المقاطع التي نشرت له- رأيت شابا وادعا قد أقام القرآن فصاحة لسانه، وللقرآن أثر في لسان قارئه المدمن له يُعرف من مواضع ترقيقه وتفخيمه ومدِّه وقصره ونحو هذا.. وإذا رأيت ثم رأيت وجها منيرا وسمتا مريحا وإلفا محبوبا!!

ما كان مثل هذا ليكون إلا شهيدا..

ولقد شاء الله ألا يكون استشهاده آخر فضائله علي.. فلقد أرسلت زوجه الكريمة -أفرغ الله على قلبها السكينة والرضا- تقول: كان يحب الشيخ محمد إلهامي فأخبروه أن يدعو له!!

فيا لله، كيف أدعو أنا لمن كان غاية أملي أن أرزق شفاعته من بين سبعين؟!!

ثم وصلني بعد ذلك فرحته وثناؤه حين علم بأني سأكتب المقدمة لكتابه.. ومضى قبل أن يعلم أن فرحتي بذلك أعظم وأشد.. وذلك هو الأليق والأكرم، فإنما يسعد مثلي ويشرف بأن يخدم مجاهدا في أشرف معركة!!

***

هذا عن الشهيد وفضله عليّ.. وبقيت كلمة في شأن الكتاب نفسه!

إنه مهما تابعنا الأخبار وحرصنا عليها فإن القائم في قلب المعركة يعرف منها ما لا نعرف، ويرى فيها ما لسنا نراه..

***

لما قرأت الكتاب، وقد قرأته مرتيْن، كان أشدَّ ما لفت نظري كلمته هذه: "لم يُقْتَل أحد من المجاهدين في كتيبتنا جراء الاشتباك مع قوات العدو الراجلة، كل شهدائنا العظام ارتقوا إلى الله بسبب القصف الجوي".

وصاحبنا الشهيد نفسه قد قضى أيضا بالطيران..

ومعضلة الطيران هذه لا بد أن تكون على رأس أولويات العاملين المخلصين في أمتنا، كلٌّ في مجاله وفي ثغره.. ولو قد كان بيدي أمر هذه الأمة، فلربما جعلت نصف مقدراتها لحل هذه المعضلة وحدها، فمعضلة الطيران هذه هي التي تسببت في هزائمنا طوال هذا القرن الماضي، ولو تخيلنا تاريخ هذه الأمة وعدوها والمعارك التي نشبت فيها وحذفنا منها الطيران لكنا الآن نكتب تاريخا آخر تماما!

إن رجال أمتنا في كل معركة مقاومة يثبتون أنهم على قلتهم وضعف عتادهم قادرون على الصمود لجيوش هائلة من عدوهم، لولا هذا السلاح اللعين الذي يرمينا بحممه من السماء ولا نستطيع له دفعا!

ونعم، إن معضلة الطيران هي فرع واحد من معضلة الأنظمة الخائنة التي تحكم بلاد العرب والمسلمين، فأولئك هم الذين أخضعوا الأمة وأذلوها ومنعوها أن تتقدم وحرسوا تخلفها ليزداد العدو تفوقا، فهم أصل كل بلاء وجذر كل نكبة وبذرة كل مصيبة تعيشها أمتنا.. نعم، المعضلة الكبرى في تاريخنا المعاصر هي الأنظمة الحاكمة الخائنة التي خانت الله ورسوله والمؤمنين ومَكَّنت العدوَّ منا.. ولن نتقدم شبرا قبل أن نتعامل مع هذه الأنظمة باعتبارها أنظمة احتلال أجنبية، مهما بدا أنهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.

أقول: إن معضلة الطيران هي فرع من هذه المعضلة الكبرى، لكنها على الحقيقة أشد هذه المعضلات وأخطرها في الباب العسكري.. ويحتاج هذا الأمر تفكيرا مطولا وعملا مضنيا ومخلصا من سائر العاملين لحلِّها.. ونعم، إن الحل الجذري الأول هو إسقاط هذه الأنظمة الحاكمة الخائنة، ولكن حتى بعد إسقاطها وقبله وإلى أن نتمكن من ذلك فيجب أن يبدأ تفكير ونقاش وعمل طويل في حل هذه المعضلة!

لست متخصصا في شيء من هذه المجالات ولكن أذكر هذا لإثارة الأفكار:

إن من واجب المهندسين والكيميائيين والفنيين وأمثالهم: العمل على تطوير طيران مكافئ للعدو، فإن لم يمكن فتطوير سلاح مضاد للطائرات يصده، فإن لم يمكن فتطوير طيران يستطيع أن يمثل رادعا، فإن لم يمكن فتطوير سلاح آخر يمكن أن يصيب من عدونا مثلما يصيبون منا فيتحقق توازن الردع إن لم يتحقق توازن القوة!

ومن واجب المبرمجين والقراصنة الإلكترونيين وأمثالهم: بذل غاية الجهد والوسع في العمل على اختراق أنظمة الطيران، وإفسادها وإتلافها وتضليلها، أو اختراق قواعدها أو أبراج مراقبتها، أو الرسائل المشفرة المتبادلة بين الطيارين والقواعد الجوية!

ومن واجب هؤلاء القراصنة وأمثالهم اختراق الأنظمة وقواعد البيانات والوصول إلى بيانات الطيارين أو العاملين في القواعد الجوية أو نحوهم ممن يمكن عبر الوصول إليهم بالاختراق أو الاستمالة أو التحييد أن يتعطل سلاح الطيران!

ولا يقتصر الأمر على أبناء العلوم التطبيقية البحتة التقنية الفنية، بل حتى العلماء والفقهاء والدعاة والمتخصصون في علم النفس والاجتماع والقانون وغيرهم، كل هؤلاء ينبغي أن يفكروا كيف يمكن أن يخدموا الأمة في حل معضلة الطيران هذه..

هذا المتخصص في علم النفس هل يستطيع أن يستخرج لنا صفات نفسية خاصة تتكون لدى الطيارين والعاملين في سلاح الجو، ويقترح علينا أساليب التعامل معها، فنأخذها منه ونوصلها للعلماء والفقهاء والدعاة والإعلاميين والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي؟!

وهذا المتخصص في علم الاجتماع، هل يستطيع أن يستخرج لنا أو يفيدنا بأنماط ينبغي أن نفهمها أو نتعامل معها في بيئة الطيارين والعاملين في سلاح الجو، فنبثها عنه على ألسنة الدعاة والإعلاميين والمؤثرين، بحيث نستطيع كف عادية هؤلاء من خلال نبذهم اجتماعيا أو إشعارهم بالعار؟!

ألا ينبغي أن يتداعى العلماء إلى مؤتمر فقهي جامع يجمعون فيه المسائل المتعلقة بالطيران وواجبات الأمة فيه، بداية من واجبات التصنيع والتطوير التي هي على الحكام والدول، مرورا بواجبات المتخصصين في كل فن، وإصدار الفتاوى للطيارين المسلمين والعاملين في سلاح الجو وفي الدفاع الجوي، حول ما يملكون من وسائل دفع العدو، سواء بإذن قادتهم أو بغير إذنهم، أو في ضرورة نشر تقنية الطيران تصنيعا وترويجا وحثا، بل وفي ضرورة نشر ثقافة تضليل الطيران المعادي، وكيف يمكن للناس أن يساعدوا المجاهدين في ذلك، وفي حث الناس على التبرع والتطوع والوقف لتطوير هذا المجال.. إلخ!

وقل مثل هذا في كل مجال وباب.. إن نازلة الطيران هذه يجب أن ينهض لها كل عامل مخلص ليرى ما الذي يمكنه أن يفعل فيه!

 

***

يعد هذا الكتاب من الردود العملية الشافية للضلالات الفكرية المنحرفة التي تظهر في عصرنا، والتي يحملها منتسبون إلى المشيخة، فمنهم الفاسقون ومنهم الضالون، ومنهم الذين اشتروا الدنيا بالآخرة..

أولئك الذين يطعنون بعقيدة المجاهدين –زعموا- وأنها لم تكن نقية، وأنها رايات ملتبسة.. وكذبوا!

فالعقيدة كما تظهر في فلتات لسانهم هي الاقتصار على ركن التصور النظري الرابض في زاوية علم الكلام، وعلى القضايا التي لم تُثر في عصر الصدر الأول أصلا.. وأما العقيدة كما تظهر في فعالهم فهي متابعة هوى السلطان مهما كان خائنا ومتخاذلا بل مهما ظهر منه الكفر البواح!

وبئس المنتسب إلى العلم، يطعن في العمالقة المجاهدين..

ومن الردود النافعة على هذا الانحراف والضلال مثل هذه الكتب.. تلك التي تنقل حياة المجاهدين وزوايا نفوسهم، فترى فيها هذا النَّفس العالي في فهم الإيمان وقضاياه، وفي التعلق بالقرآن واستنباط معانيه، وفي الحرص على العبادة والطاعة في فروع الفقه عند المجاهدين، وفي هذه الشفافية الرقيقة في التعامل مع خطرات النفس ووساوسها..

تأمل مثلا هذه العبارات المنقولة من هذا الكتاب:

"يظن من يقرأ أخبار المجاهدين أن مقابلة العدو هي البلاء الوحيد في الميدان، والحقيقة أن الميدان طريق مليء بالبلايا، فبالرغم من قسوة المعركة ووعورة المسير، هناك عقبات أخرى، قد تكون من قبيل المخمصة والعطش وأوامر لا توافق الهوى، وهذا ما تقرره الآيات، وكل هذه الاختبارات وظيفتها تهيئة النفوس وإعدادها، فعلى مثل هذا فلتوطن النفس أيها المجاهد"

"النيات تتقلب على المجاهدة، وهنيئا لمن تفقد نيته"

"اعلم أنك إذا جردت القصد له تعبداً، فيلزم أن تصبر لما يختاره لك، فقد تحب الخشوع بلا كلفة، فيختار لك عبودية المجاهدة، ويبتليك بالشواغل وفقد اللذة ونحوها، حتى تجر د قصدك له وتصطبر لعبادته، ثم سيفيض عليك بلطفه ورحمته ولو بعد حين"

"سورة إبراهيم سورة الفتوحات، عاهدت رب ي أن أتلوها وأنا في طريقي لغزوة مباركة ففتح الله بالفتوحات الكثيرة"

"إن تغيير السياسات وأسلمة المجتمع له ضريبة باهظة، وأعداؤنا يعرفون هذا جيداً، فلقد سمع الكبير والصغير أن من أهداف الحرب عند اليهود هو إنهاء حكم حماس في غزة، ويعتقد كثير من الناس أنه لا ينبغي لنا طلب الحكم، وأن سبيل الأنبياء هو الدعوة فقط"

"رجال الله في غزة لو قادهم سين من العلماء لعلمهم التوحيد على مقاييسه النظرية، ولو قادهم سين آخر من الفقهاء لعلمهم البدعة وخطرها على العقيدة، ولو قادهم سين ثالث من العلماء لعلمهم آداب الحديث وعدم رفع الصوت على الأجانب، وأخلاق النبي المتواضع الحنون، ولو قادهم سين من الناس لعلمهم التوبة من الذنوب، وأنه ينبغي ترك جهاد الشوكة حتى نجاهد أنفسنا، ولو قادهم خامس لفصل لهم في الفرق الضالة وبين لهم خطرها عليهم، وأن معركتنا الحقيقية معهم لا مع العدو الكافر الصائل المجرم، هذا غاية ما سيضيفونه على قاموس رجال الله العاملين المجاهدين".

وأكتفي بذلك..

ولكن الذين يتكلمون في شأن المجاهدين، من أولئك القاعدين المترفين، هم الذين نتشكك حقا في عقيدتهم، ليست العقيدة بمعنى التصور النظري الكلامي، بل بمعنى حب الله وخشيته ورجائه وتولي أوليائه والتبرؤ من أعدائه.. إلى آخر هذه الأصول الكبرى التي ضلوا عنها وأضلوا! فصاروا ينطقون بكلام المنافقين {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا}.. فهم أولى بالطعن وبالشك، فسمتهم ولسانهم ينبيء عن منافقين لا عن متشرعين ومتفقهين!

***

رحم الله حبيبنا القائد الشهيد أبا زكي محمدا بن زكي حمد.. وتقبله في الصالحين، ورفع درجته في عليين..

اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها!

ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون..

محمد إلهامي

4 ربيع الثاني 1447ه

اسطنبول 26 سبتمبر 2025

 



[1] هذا المقال هو مقدمة كتبتُها لكتاب "تحت راية الطوفان" للشهيد القائد محمد زكي حمد، ورأيت نشره في مجلة أنصار النبي لتعميم الفائدة والتعريف بالكتاب وصاحبه.

السبت، أكتوبر 04، 2025

إلى السادات الأكرمين من المجاهدين والمرابطين

 


رسالة إلى السادات الأكرمين المجاهدين والمرابطين من أخيكم المقصر، المحبوس في عجزه المقهور في بيته..

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المجاهدين وقائد الغر الميامين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

أما بعد..

فإلى سادتي الكبار الأجلاء، الأولياء الأصفياء، العمالقة الميامين، من اصطفاهم الله على كل العالمين، فأسكنهم في خيرة أرضه التي يجتبي إليها خيرته من خلقه، واصطفاهم على العالمين فجعلهم من المجاهدين عند مسرى نبيه في الأرض المقدسة المباركة، واصطفاهم على العالمين فجعلهم من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله!

إني أتصاغر في نفسي حين أتحدث إليكم، تصاغر من فاتته المقامات العظيمة التي أقامكم الله فيها، حتى أجرى على أيديكم المعجزات والكرامات، وأعاد بكم إحياء النفوس والقلوب، وأدخل بكم في دينه أفواجا من الناس كانوا من أهل الكفر فأسلموا لما رأوْه من صبركم وثباتكم وبطولتكم.. فمن كان هذا حالهم، فلا ريب أنهم عند الله في المكان الرفيع، في مقام القرب والاطصفاء..

ولئن ابتلاكم الله بالشدة والأذى، فتلك سنة الله في أوليائه المقربين المصطفين، فإن أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل.. ولا يزال البلاء بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، فهنيئا لكم من رجال تقدمون على الله بلا خطيئة.. وإنه لمقام وحالٌ لا يشعر به ولا يتحسر على فواته إلا من فاته هذا الاصطفاء والاختيار، فهو يعرف كيف يكون قدومه على الله!!

سادتي المجاهدين المرابطين الميامين..

إني وإن تصاغرت في نفسي حين أكلمكم، فإن لي بابا إليكم، وهو باب النصيحة في الدين، فقد جعلها الله تعالى نصيحة عامة، يجوز فيها للأدنى أن يتكلم مع الأعلى والأرفع، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

وإن في نفسي أمورا، أبسطها بين يدي سادتي المجاهدين المرابطين، لعلهم يرون فيها ما يستحق النظر والأخذ بعين الاعتبار..

وإني وإن كتبتها من مكتب وثير في أمنٍ وعافية، فلقد كتبتها بروح تحلق عندكم، وبصر يتعلق بكم، وقد فارقنا منذ نشبت هذه الحرب لذة الطعام والشراب والنظر إلى أهل وولد، فما نأكل شيئا إلا ويذهب طعمه لتذكرنا إياكم، ولا ننظر في أهل ولا ولد إلا ضاعت لذتها لمعرفتنا بما تعانونه في ذلك.. فاقبلوها مني على الضعف والعجز والتقصير.. فإن الذي أضمنه من نفسي أني أحبكم غاية الحب، وأحرص عليكم غاية الحرص!

سادتي المجاهدين المرابطين..

إن الذي دخل منكم في طريق الجهاد هذا إنما دخله وهو يطلب الشهادة، فإن الله تعالى لم يضمن لأحدٍ من الناس النصرَ، إنما ضمنه لعموم الأمة، وأما آحادها وفئاتها وبعض حركاتها وجماعاتها فإنهم يقاتلون لأن ذلك هو الواجب عليهم، ولأن الشهادة هي الأجر المضمون لهم.

ولذلك فإن الله تعالى وعد المجاهدين بالمغفرة والنجاة من العذاب والخلود في الجنة، وجعل ذلك ثمرة التجارة مع الله، ثم جعل النصر في الدنيا أمرًا على البيع لعموم الأمة، قال تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟

تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لك إن كنتم تعلمون.

يغفر لكم من ذنوبكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم.

وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب}

وأصرحُ من ذلك وأوضح قوله تعالى في سورة التوبة {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يُقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله؟! فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم}

فها أنت ترى آية لا حديث فيها عن النصر في الدنيا. هذا مع أن السورة نزلت في وقتٍ كان المسلمون فيه منتصرين وقد عادوا من غزو الروم في تبوك.. ولكن العقد والوعد هو كما كان أول الأمر: الجهاد مقابل الجنة. والنصر قد يأتي وقد لا يأتي لكل مجاهد.

وعلى ذلك مضى النبي وصحبه الكرام، وقد قُتِل في مكة مسلمون تحت التعذيب لم يروا النصر ولعله لم يخطر لهم ببال. بل إن الزعماء الذين بايعوا النبي على تأسيس الدولة المسلمة –في بيعة العقبة الثانية- ماتوا قبل أن تنتصر الدولة، وبعضهم مات قبل أن تقوم الدولة أصلا[1].

ولقد قُتِل جلة من الصحابة في بدر وأحد والخندق، ولم يروا حتى بلوغ الدولة المسلمة درجة الأمن والاستقرار!

وأما الذين بقوا منهم، أولئك الذين رأوا مشاهد النصر والفتح، فقد جال بخاطرهم أن قد حان وقت الراحة، فما هو إلا أن ذَكَّرهم الله تعالى وحذَّرهم من هذا الخاطر، وأنزل عليهم {وأنفقوا في سبيل الله، ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، فإذا القتال عند الله هو النجاة، وإذا ترك القتال في سبيل الله هو التهلكة.

فالعهد الذي أخذه الله على عباده هو الجهاد والقتال في سبيله، والمقابل هو: الجنة!

ولهذا بشَّر النبي ذلك المجاهد المتجرد من شأن الدنيا القائم في مكانه حيثما وضعه أميره، فقال: طوبي لعبد آخذ بعنان فرسه، أشعثٌ رأسه، مُغْبَرَّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع".

أقول هذا كله مخافة أن يكون قد تسرب إلى النفوس بعض تعلق بالدنيا، أو بعض جزع بعد طول الصبر، أو بعض ملل وتشوق إلى الراحة.. وإنها لثغرة في النفس قد تحمل صاحبها على أن تتشقق صلابته أو تُخْتَرَق صرامته، أو يتخلى عن بعض احتياطاته.. فنُنْكَب فيه، وليس يعوضنا عنه شيء من أهل هذه الدنيا.

لقد فهمت من سيرتكم ومشاهدكم شيئا لم أفهمه من الكتب ولا من الشروح ولا من العلماء، فهمتُ من حربكم هذه كيف أن أجر الرباط فوق أجر القتال، وقد جاء هذا في أحاديث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم:

1.    "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه أجري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأَمِنَ الفتان".

2.    وفي حديث آخر: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل".

3.    وفي حديث آخر: "كل ميت يُخْتَم على عمله، إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن فتنة القبر".

تلك أحاديث لم أفهمها إلا في هذه الحرب الأخيرة: إن المرابط هو اليقظ الصبور، هو ذلك الذي لا يمل مقامه في الرباط، ولا تفتر يقظته مع طول المراقبة والانتظار، فهو فوق المقاتل في ضبط النفس وتملكها والتمكن منها وإخضاعها للوازم الجهاد في سبيل الله، فإن المقاتل قد تعينه نفسُه الشجاعةُ المقدامة إذ هو يقاتل ويهاجم، ولكن المرابط الصبور يحمل نفسَه الملولةَ على الصبر والرباط.. فلهذا كان له أجرٌ ليس لغيره.. لئن مات وهو مرابط، فإن أجره يبقى مكتوبا كأنما هو مرابط حتى يوم القيامة!!

فتأمل أخي المرابط المجاهد في رجلٍ رابَطَ شهرين أو ثلاثة أو عامين أو ثلاثة، ثم يرى ميزانه يوم القيامة وقد رابط خمسين سنة أو مائة سنة أو خمسمائة أو ألف سنة بحسب ما يفصل بينه وبين يوم القيامة!!

إن الصبر نصف الإيمان.. ولقد طالت هذه المعركة بما لم يكن أحد يحسب، ولكننا والناس نرى منكم بعد هذا الطول شدة وبأسا وبسالة وإقداما يجعلنا في حيرة: أي بشر هؤلاء؟ وكيف هم بعد كل هذا ما زالوا يقاتلون ويذيقون عدوهم من بأس الله الذي وعدهم به {ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب}..

لولا اشتعال النار فيما جاورت .. ما كان يُعرف طيب عُرف العود

ولولا طول المعركة ما عرفنا أصالة معدنكم ولا سمو نفوسكم ولا اصطفاء الله لكم من بين خلقه!

إنكم لا تعرفون ماذا يفعل الله بقلوب الناس بكم، ولا كيف يحيي بكم النفوس، ولا كيف يوقظ بكم الضمائر.. ولئن طال الوقت واشتد الصبر فهو خير لكم في الآخرة، وهو لحكمة يعرفها الله في الدنيا، فالله قد عوَّدنا الجميل ونحن نقيس على ما تعودنا منه سبحانه.. فلئن شئتموها طوفانا يتحرر به الأسرى فلعل الله قد شاء أن يجعلها المعركة الكبرى التي يتحرر فيها المسرى.. فيكون لكم من الأجر فوق ما طلبتموه، ليس أجر تحرر المسرى فحسب، بل أجر إيقاظ الأمة والنفوس!

إنني في مكاني بالخارج أرى ماذا فعل الله بكم في نفوس الناس: قوم نشطوا بعد يأس، وقوم عملوا بعد قعود، وقوم أسلموا بعد كفر، وقوم تابوا بعد غفلة، وقوم يدخلون في سلك الجهاد بعد أن كانوا متنعمين لا يفكرون في دين ولا في جهاد.. إنكم تغرسون غرسا عظيما، يوشك أن ينبت، وأن يثمر.. والله يدبر أمرنا وأمركم، ويدبر بكم ولكم، ويصنع لنا ولكم وبكم.. وهو وحده الحكيم اللطيف علام الغيوب.

ولقد تفضل الله على قومٍ فساقهم إلى الجنة في السلاسل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.. ألا تعرفون كيف أن بعض الأسرى في الفتوح الإسلامية قد صاروا في صفوة المجاهدين الفاتحين؟.. نعم، كان الأسر والسلاسل في أول أمرهم طريقهم إلى الدرجات العلا من الجنة.. فكم من شدة ومحنة كانت هي نعمة الله الكبرى على عبده، وهي التي أصاب بها الفردوس الأعلى!

فتعلقوا بالصبر، وتمسكوا بالصبر، وتشبثوا بالصبر.. وكونوا كما أراد الله من عباده {اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله، لعلكم تفلحون}

واعلموا –سادتي المجاهدين والمرابطين- أنكم أهل العمل.. وأنكم الخبر والموضوع.. ومثلكم أجل وأعلى من أن يتعلق بكلام المحللين والسياسيين ومن يبيعون الكلام على الفضائيات ونحوها.. إنما هذه أسواق منصوبة للكلام، وهي أحيانا من مراكز التضليل والخداع.

وقد رأيتم كيف أن ترمب كان يُعلن أنه ينهى إسرائيل عن ضرب إيران، ثم ضربت إسرائيل بعدها بساعات، وتبين أن هذا التصريح من ترمب كان جزءا من الخداع والتضليل. وقد نَدَر جدا أن يُستشف من الفضائيات والأخبار شيءٌ ذو بال. ومن كان عارفا بالحال حقا زهد في هذه الفضائيات وما فيها ومن فيها.. إنما يُستفاد منها فهم عقل العدو كيف يعمل في جانبه الإعلامي.. وأما المحللون، فقومٌ مهروا في توليد الكلام وتشقيقه وتفريعه بلا طائل.. وأغلبهم تستطيع أن توجز كلامه في الساعة في عبارة واحدة لا تزيد عن السطر الواحد، ولكنه يجب أن يملأ الوقت ويكثر الثرثرة، فتلك هي مهمته!

أنتم أعلى وأجل من أن تتعلق نفوسكم بقول هؤلاء وتحليلهم.. فهم في الجملة أدنى عقلا منكم، وأدنى معرفة بالحال منكم، وأعجز عن استشفاف القادم منكم أيضا.

وإن من إحسان الله إلى عباده المقربين أن يجردهم من كل تعلق إلا به، وأن يقطع عليهم كل سبب إلا سببه، {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا: جاءهم نصرنا}.

فما هو إلا الصبر..

أسأل الله تعالى أن يفرغ عليكم الصبر والسكينة والرضا والبركة، وأن يسدد رميكم وأن يقذف الرعب في قلوب عدوكم.. إنه ولي ذلك والقادر عليه!

 

أخوكم المحب لكم



[1] لمن أحب أن يراجع التفاصيل، ينظر: www.youtube.com/watch?v=3I53LN5iBso