الخميس، أكتوبر 03، 2024

أمةٌ بين العجز والخذلان

 


إنما مثلنا ومثل هذا الواقع الذي نحن فيه، كَمَثل قومٍ وُلِدوا في سجن، لم يعرفوا من الحياة غير السجن، وقد درجوا على ذلك وألفوه حتى لم يعرفوا غيره! فهم يرون زنازينه بيوتا وأوطانا، ويرون سجانيه حراسا، ويرون تقسيم العمل فيه نظاما، ويرون مديره زعيما ورئيسا!

فلئن سألتَهم: ماذا تحبون؟ وفيم ترغبون؟ كان مناضلهم وأشجع من فيهم هو من ينبعث ليقول: نريد زيادة وقت التريض، والتحسين من جودة الطعام، وإصلاح أحوال المستشفى لتقديم الرعاية الصحية الملائمة للمواطنين، وتعديل القوانين المنظمة للإدارة لكي يتحسن تعامل الحراس مع النزلاء في أثناء تنظيم الخروج والدخول!

فلئن اكتفى هذا "الشجاع، المناضل، المغوار" بالكلام والمناشدة والنداء، فهو يعمل وفق القوانين القائمة، وقد ينظر إليه مدير السجن إن كان "صالحا" بعين العطف والعناية، وإلا فقد يتخوف من أن هذا الكلام هو أول العمل كما أن النار هي من مستصغر الشرر، فيعمل على عقوبته كي لا تنتشر أفكاره التي تهدد "نظام" السجن، وتشجع أولئك النزلاء على التمرد!

وأما إن كان هذا "الشجاع، المناضل، المغوار" أوسع من ذلك حيلة، فلم يكتفِ بالكلام، وإنما سعى في العمل، فإنه المتمرد الإرهابي الذي يجب أن يؤدب وأن يكون عبرة لمن يعتبر! وعظة لمن يتعظ!

ولكن.. ما هو هذا العمل الذي سيجعله عبرة؟!

إنما هو كأن يشاكس الحراس في مواعيد الخروج والدخول إلى الزنازين، فيسعى لانتزاع وقتٍ أطول من أوقات التريض، أو أن يقاوم معترضا صفعة وضعها حارسٌ على قفاه دفاعا عن نفسه وكرامته، أو أن يسعى سرًّا وبالحيلة لتهريب سجين إلى المستشفى قبل أن يستكمل أوراقه وإجراءاته الإدارية، أو أن يعمل في تثوير النزلاء للمطالبة بحقوقهم المكتوبة في دستور السجن! أو نحو هذا!

إنه، إذن، سجين خطير، وهو قد خرج عن القوانين وخالفها حين فكَّر في انتزاع بعض الحقوق لنفسه، ولم يلتزم بالوسائل القانونية السلمية المشروعة التي تحكم عمل السجن!

ولهذا فقد انقسم حول الرأي فيه: إدارة السجن والسجناء معًا؛ فقوم يقولون: إن الكبت يولد الانفجار ولا بد من إصلاح منظومة القوانين الحاكمة لتهدئة التوتر، ولكي يعود السجناء والحراس والإدارة يدا واحداة وشعبا واحدا، في ظل منظومة أفضل. وقومٌ يقولون: بل لا بد من الحسم والحزم إزاء أولئك المتمردين المشاكسين، فالنظام نظام! والالتزام التزام! والقوانين القائمة يجب أن تُصان وألا تُمَسَّ هيبتها، ولئن حقق هذا المتمرد المشاكس بعض مطالبه بطريق التمرد هذا فإن هذا لتشجيعٌ وتحريض لغيره على أن يتمردوا ليحققوا ما يشاؤون، فأين تذهب هيبة القانون والإدارة والسجن والحراس والرئيس؟!.. بلى، إنه لإرهابي يريد أن يبدلكم من بعد خوف أمنا، ومن بعد نظام فوضى، ومن بعد حكم القانون حكم الغابة!

وما يزال النقاش ساخنا ودائرا بين نزلاء السجن من جهة، وبين إدارة السجن من جهة، وبين الفريقين من جهة أخرى!

يتناقش السجناء: هل ما نحن فيه الآن نعمة تستحق الشكر؟ أم نحن نستحق خيرا من هذا؟ ألا تشاهدون في التلفاز والصحف كيف تبدو السجون الأخرى في هذا المُجَمَّع؟! ألا تنظرون إلى لون الزنزانة في هذا المجمع الغربي واتساعها؟ ألا ترون كيف هي المستشفى متطورة عندهم؟ ألا ترون الحارس منهم كيف يعامل النزيل باحترام وتقدير؟ ألا ترون كيف أن أوقات التريض عندهم ضعفيْ وقت التريض عندنا؟!

ويتناقش السجانون أيضا: هل يستحق هؤلاء النزلاء تحسين أوضاعهم أم أنهم كالكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فإذا حصلوا على شيء طمعوا في غيره؟! وهل يصلح عند هؤلاء الناس مثل ما يصلح في المجمع الغربي المتقدم المتطور ذي التعليم والثقافة والأموال الكثيرة؟! وهل حقا كان الكبت هو الذي أدى إلى الانفجار في موجة التمرد السابق، أم أن قلة الكبت وضعف القبضة هو الذي سمح بهذا الانفجار؟!

وبينما يسود هذا النقاش بين السجانين، وبين المساجين أيضا، إذ نبت في الناس قوم يقولون: يا أيها الناس، هل هذه أوطان أم هذه سجون وزنازين؟! وهل هؤلاء حرس يحفظوننا من أخطار الخارج أم هم سجانون لا همّ لهم إلا قهرنا وكبتنا والسيطرة علينا؟! وهل هذا الذي يحكمنا نظام وقانون لخدمتنا وتحقيق مصالحنا وتنظيم حياتنا أم أنه نظام وقانون لشرعنة وتقنين حبسنا وإذلالنا؟ وهل حقا أن منتهى طموحاتنا أن يكون السجن لدينا نظيفا ملونا متسعا مثل سجون المجمع الغربي؟! إن المجمع الغربي نفسه يعيش في سجون وتحتاج شعوبه إلى التحرير مثلما نحتاج إليها!

بدا الكلام كأنه منبعث من الخيال البعيد، فغر الجميع فاه! وحاول أن يتأمل هذا الكلام الجديد! إنه نوع جديد من "الإرهاب" فيما يبدو! وهو نوعٌ لا يستهدف شخص الرئيس مدير السجن، ولا مجموعة قوانين ضمن لائحة السجن! إنه كلام يستهدف طبيعة النظام نفسه، وبنية السجن نفسها! إنها إذن دعوة إلى الفوضى! الفوضى التي يسميها حرية وتحريرا! كيف نخرج بهؤلاء الناس من هذا "الوطن" الذي يسميه سجنا؟!.. وهل في الدنيا شيء إلا الأوطان التي يسميها: السجون؟!.. وهل يستطيع الناس أن يعيشوا بغير قانون ونظام كالذي يحكمهم داخل هذه الأوطان التي يسميها سجونا؟! وكيف يمكن للمرء أن يُعالج إن لم توجد مستشفى السجن؟ أو أن يتعلم إن لم توجد مدرسة السجن؟ وفيم يعمل إن لم يوجد محجر السجن ومصنعه ومزرعته؟!

***

إنه –عزيزي القارئ- حوار شبيه بحوار الجنينيْن في بطن أمهما، الذي ينسب للكاتب اليوناني ديمتري إفرينوس، والذي أراد به الكاتب أن يشير به إلى وجود حياة أخرى بعد الموت:

يُروى أن توأميْن في بطن أمهما دار اندلع بينهما حوار، قال أحدهما: هل تعتقد بوجود حياة بعد الولادة؟

فقال الآخر: لا يمكننا أن نتأكد فلم يعد أحد الولادة ليخبرنا، لذلك أنا لا أعتقد بوجود حياة بعد الولادة، ويكمل متهكما إذا كانت هناك حياة بعد الولادة ماذا عساها تشبه؟! كيف سنحيا خارج الرحم بهذا الحبل السري القصير؟ كيف سنمشي بهذه الأطراف الرخوة؟!! إنها خرافات لا تصدق..

-      لا أدري ولكنى أعتقد أن الأم ستساعدنا!

-      ومن أخبرك بهذا.. ليس هناك شيء اسمه أم!

-      إذا أنت لا تؤمن بوجود بالأم؟

-      أنا لا أؤمن بوجود شيء لا أراه ولا أستطيع أن أسمعه أو ألمسه ولا دليل على وجوده، إذا كانت الأم موجودة فلتظهر نفسها!

-      إن الأم تحيط بنا من كل اتجاه، نحن بداخلها، نحن أبناؤها، جائت بنا إلى الحياة كما أن الغذاء يأتينا منها، ليس بمقدورك أن تراها، لكن إن هدأت قليلا ستسمع صوتها وتشعر بها تربت على الرحم، وستشعر بحنانها يغمر قلبك ويطمئنك!

-      يالك من غبي حقا، الغذاء يأتينا من الحبل السري يا جاهل، وليس من الأم التي لا نراها ولا دليل على وجودها، كما أن الأم لم تأت بنا، نحن تَكَوَّنَّا داخل هذا الرحم عن طريق اختراق الحيوان المنوى لجدار البويضة، هذا هو التفسير العلمي لوجودنا أيها الأحمق، وليست الأم التي اخترعتها أنت! إذا كانت هذه الأم حنونة وتحبنا لهذه الدرجة، فلماذا تركتنا في هذا المكان المعتم الضيق، ستتركنا هكذا لا نستطيع الحركة بحرية حتى تنتهى حياتنا بالولادة ونحن مسجونين هكذا!.. يالك من غبي تؤمن بالخرافات!

-      لست غبيا ولكن أنا أؤمن بوجود الأم، وأن الولادة هى بداية الحياة، لأن هذا هو الاستنتاج المنطقي، فلا يعقل أن يأتينا الغذاء من العدم، لابد له من مصدر، كما أنه لا يعقل أن تأتي البويضة من العدم هكذا لابد لها من مصدر أيضا!.. وبالتأكيد إذا كانت هناك أم أتت بنا فإنها لن تتركنا بعد الولادة وسترعانا وتعتنى بنا..

-      ضاحكا: أنت غبي جاهل متخلف تؤمن بالخرافات أنا أذكى منك! ...إلخ

***

في الواقع، فإن هذا الجنين الملحد! هو أعقل من الملتبس بواقعنا هذا! فإن الجنين لم ير الدنيا، بينما أهل هذا الواقع يعلمون بأدنى استنتاج منطقي أن هذا النظام، نظام الدولة الحديثة، لم يكن يحكم حياة البشر إلا في هذه القرون الأخيرة، وعمره في بلادنا يزيد قليلا عن القرنيْن فحسب، فليس هو من ثوابت الكون ولا من حقائق الحياة!

نحن قومٌ مساجين، وأشد ما في هذا السجن من سوء، أن الناس لا يشعرون أنهم في سجن، بمن في ذلك طائفة كبيرة من شجعانهم ومصلحيهم، لقد تلوثت العقول وفسد الخيال حتى صار الشجاع المصلح يطلب إصلاحا وصورة على ذات النمط، لكن بشروط أفضل للعبودية!

نحن قومٌ مسلمون، عمرنا في هذا العالم الآن أكثر من أربعة عشر قرنا، لدينا نظام حياة سابق على هذه السجون الحديثة التي جعلت سلطة الحكم تتحكم وتمسك بكل تفاصيل الحياة وأنشطتها، فهي تراقب حتى التغريدات التي نكتبها، وتتحكم في الأموال التي بأيدينا، وتحدد لنا مناهج التعليم التي تشكل وعينا، وتسيطر على نوافذ الثقافة والإعلام التي نبصر بها الحياة، وتطلب منا أن ننتمي إليها ونواليها ونخلص لها ونضحي بدمائنا في سبيلها، أي أنها تطلب منا على الحقيقة أن نعبدها! فقانونها شريعة، وعلمها الوطني راية، ودستورها قرآن، والموت عند حدودها ومن أجل ترابها شهادة! وكل ما هو تحت حدودها خاضع لها ولها السيادة عليه، لا تُسأل عما تفعل ونحن نُسأل حتى عما لم نفعل!!

ها هم أهل الزنازين والسجون يرون أن زنازينهم تحجزهم وتمنعهم عن نصرة إخوانهم المذبوحين في غزة وفي لبنان ومن قبلها في الشام والعراق وأفغانستان والبوسنة وكوسوفا، ومن استطاع التسلل منهم إلى تلك الأنحاء ليجاهد فيها قد صار إرهابيا مطلوبا للعدالة!! تأمل.. للعدالة!!

الأمة لم تخذل غزة ولا غيرها.. الأمة محبوسة عاجزة عن نصرة غزة وعن نصرة غيرها..

ولكن الخذلان الحقيقي، هو البقاء في حالة الضعف هذه، بل في حالة الاستسلام هذه لأنظمة قد ثبتت خياناتها وعمالتها وتواطؤها مع العدو وولاؤها له.. هذا هو الذي يجعل الضعف خذلانا، فننتقل من الأمر الذي نحن معذورين فيه شرعا، إلى الحال الذي نحن فيه آثمون!

إن نظامنا الإسلامي الذي ساد قرونا في هذه الدنيا، غلَّ يد السلطة أن تتغول وتتمدد وتهيمن على سائر أنشطة المجتمع، وهو أيضا النظام الذي أسس لاستقلال الأمة بأموالها ومواردها، وحثها على أن تقاوم أي تغول على شأنها وأمرها! ومن قرأ شيئا يسيرا في أبواب كثيرة من كتب الفقه والتاريخ عرف بوضوح أننا الآن في وضع احتلال هو أسوأ من كل احتلال ابتلينا به؛ إنما هو احتلال مغلف بقشرة وطنية ومطليٌّ بطلاءٍ إسلامي، ولكنه أفتك من كل احتلال أجنبي.. طالع مثلا أبواب: الأوقاف، وإحياء الأرض، ومصارف المال، وزكاة الركاز والمعادن، والضرائب والمكوس، الاحتكار، التسعير، والظفر بالحق، تغيير المنكر، والحسبة على السلطان... إلخ!

من قرأ شيئا من الشريعة علم أنها تصنع مجتمعا قويا أمام سلطة محدودة الصلاحيات، وتُمَكِّن الأمة من مواردها المالية ومواردها البشرية، وما السلطة فيها إلا حالة تنظيم حارسة لا حالة سيطرة متوغلة ومهيمنة، وأنها تتولى الملفات العامة الكبرى كالأمن والدفاع وما يتعلق بهما!

أما الآن، فقد أنشأ الاحتلال الغربي في بلادنا دُوَلًا على نمط دوله، زنازين جديدة، وضع عليها أسوأ أنواع عملائه، يحكموننا بقوانينه ومزاجه، ويُمَكِّنونه من أموالنا ومواردنا وعقولنا بل ومن أجسادنا كذلك!

الخذلان حقا أن نبقى مرتاحين في هذا السجن! وألا نعمل على تحطيمه والتحرر منه!

نشر في مجلة أنصار النبي، أكتوبر 2024م