الجمعة، مايو 03، 2024

رحيل فارس من أنصار النبي ﷺ: عبد المجيد الزنداني

 

رحيل فارس من أنصار النبي ﷺ: عبد المجيد الزنداني

محمد إلهامي

بصدور هذا العدد، يتم لهذه المجلة عامان وتدخل إن شاء الله عامها الثالث، نافذة من نوافذ "الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ"، تلك الهيئة التي انبثقت من رحم الحملة الشعبية العفوية العالمية التي انطلقت لمقاطعة المنتجات الفرنسية اعتراضا على الإساءات التي تبنتها الحكومة الفرنسية لنبينا الأعظم ﷺ.

ومنذ ذلك الوقت وحتى لحظة كتابة هذه السطور تبدو مهمة نصرة النبي ﷺ عظيمة ومتضخمة وتحتاج إلى أضعاف أضعاف الجهود والطاقات المتاحة والممكنة، بل إننا مع مرور الأيام نرى أننا نفقد عددا من الأعمدة القوية التي تقوم بنصرة النبي ﷺ، وكان آخر من فقدناه من هؤلاء: شيخ اليمن وعلمها الكبير: عبد المجيد الزنداني!

ولقد قيل في الشيخ الزنداني الكثير والكثير، وفاضت بذكره ومدحه والثناء عليه الألسنة والأقلام. غير أني أحب أن أشير إلى جانب لم أر أنه قد ذُكِر على وجهه، وذلك من حقِّ واحدٍ من جنودِ –بل من قادةِ- كتيبةِ أنصار النبي ﷺ.

كان الشيخ الزنداني واحدا من رواد باب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وباب الإعجاز العلمي هذا لم يُفتح ويكثر الكلام فيه كجانب مستقل إلا في هذا القرن الماضي، والسبب وراء ذلك أن الهجمة الغربية الحضارية التي اجتاحت أمتنا واحتلت ديارنا وأوطاننا إنما جاءتنا مسربلة ومتوَّجَةً بثوب العلم وتاج العلم وشعار العلم.. فكلمة "العلم" في عموم القرن العشرين لم يكن وقعها في الأسماع والضمائر مثلما نستشعرها الآن، بل هي في ذلك الزمن كانت تعني: مواجهة الدين.. لقد كان لها في ذلك الوقت معنى ومفهوم يقترب من المعنى والمفهوم الذي تصنعه في أذهاننا الآن كلمة "الإلحاد".

كلمة "العلم" في ذلك الزمن كانت توضع في مواجهة الدين، فمن كان يقول: أنا أصدق العلم، أو: أنا أؤمن بالعلم. أو: أنا أتبع العلم.. إلخ! من كان يقول مثل هذا إنما كان يعني في ثنايا هذه العبارة أنه ينفر من الدين، ينفر من الخرافة، ينفر من الجهل، ينفر من الأساطير والترهات.. وكلمة "المنهج العلمي" في ذلك الوقت إنما كانت مضادة لكلمة: منهج الدين وأحكام الدين.

إنه أمر لا يتصوره أبناء هذا العصر، لأن أولئك قد نشؤوا بعد أن خاض آباؤهم وأجدادهم هذه المعركة الشرسة العنيفة العاتية، وانتصروا فيها، فكسروا وأزالوا الوهم القائل بأن العلم في مواجهة الدين، أو أن العلم فوق الدين وسابقٌ عليه.

ومن أراد أن يعيش أجواء هذه المعركة فليرجع إلى كتابات الرواد المسلمين منذ مطلع القرن العشرين وحتى مطلع الثمانينات والتسعينات منه.. ولعل بعض أبناء هذا الجيل يتذكرون كلمة وردت في فيلم "الإرهابي" حين قال الممثل إبراهيم يسري: "الناس طلعت القمر واحنا لسه بنفكر ندخل الحمام بالرجل اليمين ولا الشمال".. هذه العبارة هي من رواسب المعركة وبقاياها وفضلاتها الأخيرة، وإنما كتبها الكاتب الشيوعي لينين الرملي الذي كتب هذا الفيلم.

ومن قرأ مقدمة كتاب العقاد "عبقرية محمد" رأى العقاد يذكر الموقف الذي حرَّكه لكتابة هذا الكتاب، وذلك أن شابا كان يجالسهم في المقهى كان يرى نفسه مثقفا، أو بتعبير العقاد كان "متحذلقا يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة".. وحيث كان الفتى كذلك فلقد تفوه بسبِّ النبي ﷺ، واستنكر الشاب أن يكون النبي ﷺ بطلا كما وصفه الكاتب الإنجليزي الكبير توماس كارلايل!!

والقصد: أن المسلمين عاشوا دهرا اجتاحتهم فيه الحضارة الغربية التي تغلف نفسها بغلاف العلم وشعاره ودثاره، حتى كان أكثر المفتونين بها يرون العلم كفرا، والكفر علما.. ويرون الدين جهلا وخرافة، ويرون أن الخرافة والجهل دينٌ، وعليه فلا بد من الانخلاع من هذا الدين ليتمّ لنا التقدم والتنور ودخول ركب الحضارة!!

وإذن، انتصر أسلافنا رحمهم الله على هذه الموجة العنيفة حتى كسروها، وخرج جيل لا يرى تضادا بين العلم والدين، ولا يرى نفسه مضطرا لأن يكفر ويلحد إذا أراد أن يتعلم أو أن يتقدم.

ما علاقة هذا كله بالشيخ عبد المجيد الزنداني؟!

الشيخ الزنداني كان واحدا من كتيبة المهمات الخاصة، من قوات النخبة، في هذه المعركة.. هذه القوات الخاصة حملت على عاتقها مهمة شديدة الخطورة والقوة في ذلك الوقت، وهي مهمة: إثبات أن الدين قد سبق العلم، وإثبات أن العلم جندي من جنود الدين، وإثبات أن ما يتباهى به الغربيون ويفتخرون به إنما قد جاء ديننا ببعضه قبل أن يخطر على بالهم اكتشافه أو اختراعه.. أولئك هم الذين فتحوا باب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

أعرف في حياتي القصيرة هذه من كان على وشك الكفر والإلحاد، ولم يُثَبِّته على الدين إلا ما قرأه وما سمعه في باب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة! ولهذا فكم أنقذت هذه الكتيبة من نفوس وعقول ووضعتها على طريق الجنة بعد أن انتشلتها من السقوط في هاوية الجحيم.

وكأي ظاهرة ناجحة ومؤثرة وعجيبة، دخل عليها من أفسد فيها، وقد جاء هذا الفساد من قومٍ يسارعون إلى تلقف الخبر العلمي وإن لم يثبت ولم يصح، ثم يتكلفون له تأويلا وتفسيرا في القرآن والسنة، بعضهم يحسب أنه بذلك يخدم الدين، وبعضهم يفعل ذلك عمدا لتلويث هذا الباب العظيم: باب الإعجاز العلمي.. وقد رأيت بنفسي في منتديات الملحدين والمنصرين من يخترعون الحكايات في باب الإعجاز العلمي، ثم يتواصون بنشرها، ليتلقفها الساذجون والمغفلون، ثم يتضاحكون ويصيحون: هؤلاء هم من يتحدثون عن الإعجاز العلمي.. غرضهم من هذا كله أن يُلَوِّثوا هذا الباب العظيم وأن يصرفوا الناس عنه، فكم دخل في الإسلام من هذا الباب!

لكن الذي يعنينا الآن على وجه خاص هو: متى وكيف صارت ظاهرة الإعجاز العلمي ظاهرة ناجحة ومؤثرة وتجذب الناس إلى الدين؟.. الجواب: هذه هي الثمرة العظيمة، وهذه هي المهمة الخطيرة الجليلة، التي قامت بها هذه الكتيبة.. والتي كان الشيخ الزنداني واحدا من أفرادها.

ربما لا يعرف الكثيرون أن أصل دراسة الشيخ الزنداني هي: الصيدلة، ولقد التحق بكلية الصيدلة جامعة القاهرة في مطلع الستينات، لكن اشتعال الثورة في اليمن وانشغاله بها قطع عليه دراسته. لكن الشيخ لما اهتم بهذا الباب وصار يجمع له العلماء وينفق له المال ويؤسس له المؤسسات عاد إليه من جديد.

ويجب أن نقول وأن نفهم: إن أي حركة رائدة تفتح بابا جديدا، وترد طريقا مجهولة، وتمهد سبيلا صعبا فلا بد أن تعاني من بعض الأخطاء والعثرات.. ثم يأتي اللاحقون الذين ساروا على الطريق المعبدة والسبيل الممهدة فيستدركون ويصححون، ويظل للأوائل فضل السبق والريادة والكشف والتوجيه، لا يخدش بعض ما وقعوا فيه من فضلهم شيئا. ويبقى للأواخر فضل التحرير والتحقيق والتنقيح والتصنيف والتبويب والتنظيم، وفضل الزيادة على ما أشار إليه الأولون.

فلئن كانت الكتيبة الأولى قد افتتحت بابا عظيما كسرت به شوكة الملحدين المتزينين بثوب العلم، فهذا هو فضلها الكبير، وبذلك فقد أفسحت المجال لمن يجيئون بعدهم ليكملوا عملهم ويزيدوه دقة وضبطا وكمالا.. وهؤلاء الآخرون إنما هم في عملهم ثمرة لجهد الأولين وفرعا من دوحتهم.

على أن نصرة الشيخ الزنداني للنبي ﷺ لا تقف عند هذا الحد.. ولئن وقفت عنده لكان مشكورا مأجورا إن شاء الله..

وإنما انطلق الشيخ الزنداني بالهمة العالية التي عُرف بها ليكون مجاهدا بنفسه وماله وما يستطيع.. فما من قارئ في تاريخ المسلمين في هذا القرن العشرين إلا ورأى للزنداني أيادي بيضاء داخل اليمن وخارجها.

فأما داخل اليمن فإن أول ما يهجم على الخاطر هو هذا الصرح العلمي الدعوي الفاخر: جامعة الإيمان. تلك الجامعة التي بعثت ذِكْر كثير من العلماء المنسيين في الزوايا والحارات والقرى والبوادي المجهولة، فما إن كان الشيخ الزنداني يسمع بأحدهم حتى يجتذبه إلى جامعة الإيمان، فمنها ينتشر علمه في العالمين.

لقد كانت جامعة الإيمان اسما متألقا في أوساط طلاب العلم، حتى كان يظن من لا يعرف أن هذه الجامعة عريقة عتيقة قديمة، مثلها مثل: الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب ونحو ذلك.. فتأمل واعجب لرجل صنع معهدا في القرن العشرين يحسب الذين يرون ثمرته ويسمعون عنه أنه من عمل الأولين الأقدمين!!

وفي اليمن استقبل الشيخ الزنداني في رحابه بل في بيته أناسا كانوا قد فروا من الظالمين، وخرجوا من ديارهم هاربين بدينهم، فوجدوا في ظلال الشيخ أمنا وسعة من بعد العنت والضيق، وهذا أمرٌ لا يتسع له هذا المقام.

وفي اليمن جاهد الشيخ بنفسه، وكان من زعماء الجهاد الذي كسر الشيوعيين في اليمن وأخرجهم منها مدحورين، وكان من حراس الشريعة والدين.. أقول هذا، ومع يجب أن أقول أيضا: ولكن التجربة لم تكتمل، بل لم تثمر ثمرتها التي كانت قريبة ومرجوة، وأسأل الله تعالى أن يهيئ من أولاد الشيخ وتلاميذه من يكون أمينا دقيقا متقصيا متحريا فيكتب هذه التجربة ويؤرخ لها ليتعلم منها المسلمون.. وإلا فكيف للشيخ وهو علم كبير من أعلام اليمن أن يقضي آخر أيامه غريبا طريدا وقد كان ملء السمع والبصر، ولم يخرجه منها إلا من كان مغمورا مدحورا منبوذا لا يُعرف ولا يُرى ولا يُؤبه له!!

وأما خارج اليمن فقد كان الشيخ من النافرين بنفسه وماله لمواطن الجهاد، لا سيما أفغانستان حين كانت تقاتل الاتحاد السوفيتي –القوة العالمية الثانية في زمانها- وله هناك أيام مشهودة، وأمور يعرفها أهل ذلك البلد وأهل ذلك الوقت.. وكذا عمله في دعم جهاد فلسطين ومجاهديها، له في ذلك سهم كبير ونصيب جليل.

ولقد شهدتُ الشيخ في آخر حياته، حين جاء واستقر به المقام في اسطنبول، ورأيته وقد بلغ منه الكبر، فيصعب عليه المشي ويثقل عليه الكلام، وهو مع ذلك متماسكٌ متصلب مستجمع لقواه، حتى لقد وقف في مسيرة لنصرة النبي ﷺ، فكان إذا جيئ له بمقعد يقول: أستحيي أن أقعد في هذا الموطن! وقد ظل واقفا على ما هو فيه من التعب.. وذلك موقفٌ ينبئك عن همته الثائرة ونفسه الفائرة، وعن الشباب المديد الذي ذهب في سبيل الله!

ومثلما هي سنة الله التي لا تتخلف في عباده الصالحين، ما إن توفي الشيخ الزنداني حتى قامت أصوات أهل الفضل تنعيه وتمدحه وتدعو له وتترحم عليه وتتذكر مآثره، فكنت ترى في جنازته ومجلس عزائه وفي صفحات الانترنت: أهل العلم وحملته، وأهل الجهاد ورافعي رايته، والعاملون لدين الله في كل سبيل.

وفي ذات الوقت قامت أصوات أهل الرجس والزور تقدح وتشتم وتشمت، وقد اجتمع في ذلك عبيد الحكام المجرمين ممن كرهوا جهاده، وبقايا الشيوعيين ممن كُسر أسلافهم بجهاده، والعلمانيون الذين كرهوا ما أحدثه عمله من الإيمان وتجنيد العلم في سبيل الدين، والمبتدعون الذين كرهوا جامعة الإيمان وثمراتها.

وقد صدق القائل:

إذا رضيت عني كرام عشيرتي .. فلا زال غضبانا علي لئامها

نشر في مجلة "أنصار النبي ﷺ"، مايو 2024