ما من لحظة يظهر فيها فساد النظام
العالمي وزيف مؤسساته وشعاراته كهذه اللحظة، إن حرب غزة من اللحظات الفاصلة التي
نرى فيها حقيقة هذه الخرافات الدولية!
هل لم يكن هذا واضحا قبل ذلك؟ نعم، قد
كان واضحا للقلة، أما الآن فهو واضح للكثرة، إن ارتباط القضية بالمقدسات الدينية،
وتاريخها الحي الذي عجزوا عن إخماده وكتمه، وكون إسرائيل الطفل المدلل للسياسة
الغربية، وحجم الإجرام المكثف، وأمور أخرى.. سائر هذا جعل الأمر أكثر انكشافا،
وأخزى مشهدا، وأكثر نكيرا.
نعم، ذلك النظام العالمي الذي كان
يتزين ويتجمل بمؤسساته الضخمة وبزعمه المبادئ والحريات والدفاع عن الشعوب، يتساقط
كلما رفع واحدٌ من الخمسة يده بحق الفيتو. مهما قيل من الكلام، فإن هذه اللحظة تكون
لحظة التعري والفضيحة التي تثبت أن هذا النظام العالمي إنما وُجِد لخدمة هؤلاء
الخمسة.. أو بمعنى أصح وأدق: وُجِد لتعبيد الناس لهذه القوى الخمسة!
***
نكتب هذا الكلام في لحظة ذكرى تحويل
الكعبة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة.. مما لا ينتبه له كثيرون أنها كانت لحظة
تحول في النظام العالمي أيضا.
ولقد جاءت هذه البشرى بتحول النظام
العالمي في كتب أهل الكتاب، قبل أن ترد في القرآن الكريم، وقبل أن تكون واقعا في
حياة نبينا الكريم ﷺ، فقد ورد في سفر حجي 2/ 7 – 10: "وأزلزل كل الأمم ويأتي
(مشتهى) كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدا، قال رب الجنود. 8 لي الفضة ولي الذهب يقول
رب الجنود. 9 مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود وفي هذا
المكان أعطي (السلام) يقول رب الجنود".
وقد ذكر البروفيسور عبد الأحد داود،
أستاذ اللاهوت والخبير في الكتاب المقدس، وهو ممن أسلم بعد طول تفكير ودراسة
وحوار، أن هذه الترجمة غير دقيقة، وأن الأصحّ من لفظِ (مشتهى) لفظُ (محمد). وأن
الأصحّ من لفظ (السلام) لفظُ (الإسلام).. ويمكن لمن شاء الرجوع إلى كتابه: محمد
كما ورد في الكتاب المقدس.
لكن المقصود هنا، وهو الذي يعنينا في
هذا المقال، هو النص الوارد في العبارة التاسعة، وهي "مجدُ هذا البيت الأخير
يكون أعظم من مجد الأول"، ففي هذا النص بشارة صريحة بأن الله سيسبغ المجد على
البيت الحرام حتى يكون أعظم من بيت المقدس. فمن بعد ما كانت أنبياء الله ورسالاته
في بيت المقدس، وهناك أمة عباده، سيذهب هذا كله إلى البيت الحرام، البيت الأخير،
ليكون فيه رسوله الخاتم، والأمة الشاهدة، والمجد العظيم.
ولذلك ذكر الله تعالى أن أهل الكتاب
يعرفون هذا الانتقال، فقد قال تعالى في سياق الحديث عن تحويل القبلة: {قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144].
وذكر تعالى أنه سيعظم عليهم اتباع الحق
مهما كانت الأدلة والبينات والحجج والبراهين، فقال تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ
بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا
لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].
وأي دليل وأي برهان أعظم من رسول
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وحقٍّ لم يجدوا وسيلة لدفعه إلا كتمه {الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
***
إن قراءة الآيات التي نزلت في شأن
تحويل القبلة ضمن هذا المعنى، معنى تغيير النظام العالمي، وانتقاله من الأمة
الفاسدة التي تاجرت بالدين وبالمبادئ وقتلت الرسل والمصلحين، إلى الأمة الجديدة
التي تقيم الحق ولو على أبنائها، وتشهد به ولو على نفسها.. إن قراءة الآيات في ضوء
هذا المعنى يمنح المسلم شعورا جارفا وأصيلا وغالبا بمهمته في هذه الحياة.
لقد بدأت الآيات ببيان الفساد الذي
عمَّ أمة بني إسرائيل وتجذر فيها. لقد اتبعوا أهواءهم مهما علموا أنها باطل! ومع
أن في أهل الأهواء من يوقرون أهل الحق ويحترمونهم، إلا أن هؤلاء بلغ من سطوة الهوى
عليهم أنهم لا يرضون ولا يعترفون إلا لو
اتبع الناس أهواءهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
لقد نسوا نعم الله عليهم وما فضَّلهم
به على العالمين {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 122].
ولهذا شرعوا في تحريف الدين وتزوير
التاريخ وإنكار الحقائق وكتم الشهادة، ومن ها هنا فقد مَهَّد الله لتكليف تحويل
القبلة بذكر قصة إبراهيم وإسماعيل، وبنائهما البيت الحرام، وبذكر وصية يعقوب
لأبنائه، وعهدهم له بعبادة الله الواحد، كما تقرؤه في الربع الأخير من الجزء الأول
في القرآن الكريم.
وقبلها مضت الآيات في رُبْعَيْن تذكر
ما صنعه هؤلاء من التحريف في دين الله الذي اؤتمنوا عليه، لقد كان دينهم الذي يبثونه
بين الناس على هذا النحو:
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}
[البقرة: 116]
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ
نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].
ومن ها هنا نفهم كيف امتلؤوا غيظا
وحقدا على قوم يناهضون هذه الأفكار، ويهددون هذا النظام، وكيف سلَّطوا عليهم كافة
ما بأيديهم ليفتنوهم:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ
مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:
114]
***
وها هنا تأتي مهمة المسلمين في إظهار
الدين، وإحقاق الحق، ونشر الحقائق، وإقامة الشهادة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وهذه المهمة لا بد لها من أمور:
1. لا بد لها من قوة إيمانية تحمل
صاحبها على اتباع النبي اتباعا لا يعرف التردد ولا التلعثم {وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً
إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]
2. ولا بد لها من ثقة وقوة تحمل صاحبها
على أن يخشى الله وحده، لا يخشى أحدًا غيره {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
[البقرة: 150].
3. ولا بد لها من صلابة نفسية وإرادة
فولاذية وبناء روحي متين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
4. ولا بد بعد هذا كله من جهاد مرير،
ومحن وفتن، وخوف وجوع، وآلام وأشواك.. فما من نظام صالح يقوم بلا جهاد، وما من
باطل يسقط من عليائه بسهولة، بل إن الحق الصاعد ينحت في صخر العنت ويأكل من جمر
الرهق، وكذلك الباطل العالي يلقي بحممه وبراكينه، وأدرانه وأوساخه، وأقذاره
وأوضاره، وهكذا يمهد عباد الله طريق الحق بدمائهم وأوراحهم، ويهلكون في ذات الله
وفي سبيل الحق قبل أن يبلغوا الغاية {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 154 - 157].
***
ما أقرب الشبه بين أهل الباطل..
هل يا ترى نحتاج أدلة على إنكار الحق
وإنكار الحقائق وكتم الشهادة وتزوير التاريخ وغض الطرف عن الجرائم أكثر مما نراه
اليوم؟!
مؤسسات ضخمة للدفاع عن الحقوق والحريات،
مؤسسات متخصصة في حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الأقليات وحقوق الحيوان وحقوق
البيئة وحتى حقوق الحجارة القديمة: التراث والآثار.. ومؤسسات للصحة، ومؤسسات
للعدل، وقوانين دولية، ومجلس للأمن... إلخ! ووراء الجميع صحافة وإعلام يزهو بما هو
فيه من: الحرية والموضوعية والنزاهة والأمانة!!
فإذا أردنا أن نختصر مهمة الجميع فلن
نجد خيرا من قوله تعالى {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فإذا اتبعت
ملَّتَهم وكنت أوكرانيًّا –مثلا- فقد انهالت على من يقصدك: العقوبات والتضييقات،
وانهمرت عليه التقارير والإدانات والأحكام السريعة من محكمة العدل ومن مجلس الأمن
ومن الشركات الكبرى.. فإن لم تكن من ملتهم، فتأمل في حال أهل غزة تعرف الجواب!
إن آخر ما قد تعطيك إياه هذه المؤسسات
أن تعدّ أرقام القتلى والجرحى، وربما بعد انتهاء المذبحة تقيم عليك سرادق العزاء،
على نحو ما قال علي عزت بيجوفيتش في كلمته العبقرية: "كانت أوروبا على أتم
استعداد لأن تقيم مأتما لإحياء ذكرى البوسنيين بعد إبادتهم".
وهذا السرادق نفسه لا يُقام لإحقاق
الحق ولا للاستفادة من التاريخ كي لا تتكرر الإبادة، بل يُقام ليكون زينة وزخرفا
يتجمل به القاتل السفاح، ليواصل جولته القادمة من جديد، بعد أن يكون قد غرر ببعض
المغفلين والبلهاء!
***
وما أقرب الشبه بين أهل الحق..
لا بد لهم من جهاد عظيم، جهاد حافل
بالصبر، جهاد لا يقوم به ولا يصبر عليه إلا من آمن حقا بالله، وآمن بمحمد رسول
الله..
جهاد لشبهات الذين كفروا، ولتشكيكهم،
ولتشغيبهم.. جهادٌ لا بد فيه من علم وتقوى وحكمة، {أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا
مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].
جهاد ينبعث من نفس موصولة بالله {فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
جهاد يستعين على مشقات الطريق بالتصبر
والعبادة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
جهاد يهلك فيه الرواد حتى يقال: مات! فلا
يصبر عليه إلا من آمن بأنهم: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:
154].
جهاد فيه أنواع المشقات من الخوف
والجوع والفقر والقتل!!
فهؤلاء هم الذين يغيرون العالم، يقيمون
الحق ويُسقطون الباطل، أناس ليسوا من هذه الدنيا، شعارهم قول جدهم القديم:
"الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن
ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
على هؤلاء يُبنى المجد، أو قل: على يد
هؤلاء يعود المجد، مجد البيت الأخير..
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]