لما دخل الاحتلال الإنجليزي إلى مصر
نزل إليها اللورد دوفرين، السفير الإنجليزي في الآستانة، وقضى وقتا، ثم كتب تقريرا
لبيان الطريقة المثلى للسيطرة على الشعب، فذكر فيه أنه "لا يمكن المحافظة على
النظام في القطر المصري إلا بتأديب أهله بواسطة أستاذِين من الأجانب، وبالكرباج
الوطني"[1].
وهذا هو التقرير الذي سارت عليه بريطانيا فعليا في حكم مصر، فلم تُفرض الحماية
البريطانية (أي الاحتلال الرسمي) على مصر إلا سبع سنوات (1914 – 1922م) من بين سبعين
سنة هي عمر الاحتلال الحقيقي في مصر. وفيما عدا ذلك كانت بريطانيا تزعم أنها
موجودة في مصر بناء على طلب الحكومة المصرية لفترة مؤقتة وبغرض استباب حكومة جناب
الخديوي الذي لا شك في تبعيته للباب العالي العثماني. ولم يحتفظ الإنجليز في مصر
سوى بثلاثة آلاف جندي إنجليزي فحسب! وما ذلك إلا لأنهم أحسنوا استعمال
"الكرباج الوطني"!
ومنذ ذلك الوقت وجد الغرب أن هذا
"الكرباج الوطني" أقل كلفة وأفضل نتيجة في تحقيق المصالح الأجنبية، وعن
هذا الكرباج الوطني نتحدث في هذه السطور!
(1)
وقع الخلاف بين علماء النفس والاجتماع،
لا سيما الذين يبحثون في هذه المجالات من مدخل السياسة، فيما إن كان الإنسان أقوى
من الظروف، أم أن الظروف أقوى من الإنسان، وانتهى الأمر إلى أنه بخلاف الشخصيات
النادرة التي تتمتع بصلابة استثنائية، فإن الإنسان يساير الظروف ويساوقها، بل إن
الظروف المحيطة به تستطيع أن تقلبه وأن تحوله من النقيض إلى النقيض! إن "وجهة
النظر الغالبة في علم النفس الاجتماعي تؤكد أن الموقف الذي نواجهه (أينما نكون)
يؤثر في سلوكنا تأثيرا يفوق تأثير خصائصنا الشخصية في كثير من الأحيان، وإلى حد
أكبر مما يمكننا تصوره"[2].
دلَّت على هذه النتيجة كثيرٌ من
التجارب الاجتماعية المختلفة[3]،
منها مثلا:
1.
حاول سولومون آش، عالم النفس الاجتماعي
المشهور، أن يقيس أثر الأفراد المحيطين على الشخص العاقل، أجرى تجربة يتعرض فيها
المرء إلى أسئلة بسيطة وسهلة، فوجد أن الإجابة تبدو صحيحة في حال كونه منفردا.
وإذا وُضِع المرء ضمن بيئة تختار الإجابة الخاطئة –مهما كان خطؤها واضحا- فإنه
يتشكك بنفسه، ويختار طائعا الإجابة الخاطئة، دون أن يتعرض في ذلك لأي ضغط مباشر،
لا تصريحا ولا تلميحا ولا توصية ولا توجيها. لقد وقع ثلاثة أرباع الناس (75%) في
الانسياق مع البيئة المحيطة، واختاروا الإجابة الخاطئة في أمر شديد الوضوح!
2.
ثم جاء تلميذه ستانلي مليجرام، فطوَّر
تجربة يضيف فيها عنصر التوجيه، دون ضغط أو إكراه، فأجرى تجربة يوضع فيها المرء
أمام رجل كبير يعاني من صعوبة التعلم والنسيان، ويُقال له: نريد أن نجرب أثر
العقوبة على تحسين الذاكرة وتحسين القدرة على التعلم. على المرء في هذه التجربة أن
يعاقب هذا الرجل الكبير بصعقات كهربية كلما أخطأ، وإلى جواره طبيب مختص سيكون
مسؤولا عن صحة الرجل الكبير. كانت الكهرباء غير حقيقية، وكان الرجل الكبير جزءا من
التجربة، وكان الطبيب كذلك، وإنما كان الغرض أن يُختبر إلى أي مدى سيصل المرء في
الصعق الكهربائي لهذا العجوز، طالما أن الطبيب يطمئنه أن لا خوف على صحته. توقع
العلماء قبل التجربة أنه الذين ستسمح لهم طبيعتهم بالوصول إلى درجة الصعق النهائية
(450 فولت) لن يزيد عن 2%. ثم فوجئ الجميع بعد التجربة بأن النسبة بلغت 65%! وهكذا
ثبت أن ثلثي الناس الطبيعيين الأسوياء كذبوا أعينهم وآلام الشيخ الكبير الذي يتلوى
أمامهم من الألم، لأن شخصا يرتدي زي طبيب ما زال يطمئنهم أنه بوسعهم الاستمرار في
رفع درجة الصعق دون خطر على حياة هذا المسنّ! ونفس النسبة كانت حتى في النساء!..
هذه النتيجة فاجأت الجميع بأن التوجيه –غير الإجباري، والخالي من أي سلطة- يمكن أن
يحول الناس الأسوياء إلى مجرمين وقتلة بغير مجهود كبير! طالما أنهم آمنون من
المسؤولية وتحمل العواقب!
3.
ثم جاء فيليب زمباردو، فصنع تجربة أراد
بها أن يزيد من حضور السلطة وسطوتها ليرصد تأثيرها على السلوك الإنساني، فاختار
عددا من طلاب الجامعة، كانوا أصدقاء، وكانوا أسوياء أيضا، فقسَّمهم إلى فريقيْن:
سجَّانين ومساجين، ارتدى الأولون ثياب الشرطة والآخرون ثياب المساجين، وصنع بيئة
للسجن، ومع أن الجميع يدري أنها مجرد تجربة وتمثيل، فإنه سرعان ما انقلبت
العلاقات، ونشأت علاقات قوية بين فريق السجانين، وكذا بين فريق المساجين، وظهرت
طبائع السادية على السجانين الذين منحوا سلطة كاملة على المساجين، وظهرت طبائع
سلبية وانفعالية وانهيارات نفسية على المساجين، ومع أن العقوبات الجسدية كانت
محظورة إلا أن بعض السجانين ارتكبها وتفنن في اختراعها، وقد استسلم لها بعض
المساجين بالفعل! وتدهور الموقف سريعا حتى اضطر زمباردو لإيقاف التجربة بعد ستة
أيام وكان قد خطط لاستمرارها لأسبوعين!!
ومن قلب في كتب علم النفس الاجتماعي والسياسي،
وفي علم نفس المقهورين وجد أمورا غزيرة من هذه المشاهد التي تستحق التوقف عندها
طويلا، والتي تثير كثيرا من الأفكار والمفاجآت، ولكن الذي نقصده في هذا المقال
تحديدا هو هذه النتائج:
أولا: البيئة المحيطة أكثر تأثيرا في
الناس من صفاتهم الذاتية والشخصية وقناعاتهم الخاصة.
ثانيا: من يملكون
التوجيه الذي يُعفي من المسؤولية يستطيعون سوق الناس إلى نتائج خطيرة!
ثالثا: يبلغ
التأثير ذروته في حال السلطة التي تملك القهر والإجبار والعقاب على من لم يخضع
لتوجيهاتها وأوامرها. كما يبلغ الاستسلام لها ذروته لدى المحكومين.
وهذه النتائج
تدندن حولها الدراسات والبحوث المكتوبة في طبائع الاجتماع وعلم نفس الجماهير
ونحوها.
(2)
قبل هذه التجارب بستة قرون، كتب ابن
خلدون في مقدمته فصلا بعنوان: المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب! وضرب على ذلك المثل
بما يكون لدى الناس من حب التشبه بالملوك والسلاطين، والتشبه بالأجناد والشُرَط،
وذلك لكونهم الغالبين عليهم، وبما يكون لدى الولد الصغير من حب التشبه بأبيه لكونه
الغالب عليه، وجعل ذلك كله مصداقا للمثل السائر الذائع: الناس على دين ملوكهم[4].
فإذا كان الملك طاغية جبارا فإن الناس
يتشربون هذا الخلق عنه فيمن لهم عليه ولاية وسيطرة، وهذا يفسر لماذا يبدو نفس
الإنسان خاضعا خانعا لمن فوقه، طاغية متجبرا على من تحته.. وساعتئذ تفسد أخلاق
المغلوبين على سبيليْن؛ الأول: ما يتشربونه من أخلاق الطغيان عن يد الطاغية الذي
يحكمهم، والثاني: ما يلجؤون إليه من أخلاق الذلة ليتخلصوا من بطشه!
يقول ابن خلدون: "إن كانت المَلَكَة
رفيقة وعادلة لا يُعانى منها حكم ولا منع وصدّ، كان النّاس من تحت يدها مُدِلِّين
بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع، حتّى صار لهم الإدلال جبلّة
لا يعرفون سواها. وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسّطوة والإخافة فتكسر
حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التّكاسل في النّفوس المضطهدة...
وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمُذْهِبَةٌ للبأس بالكلّيّة، لأن وقوع العقاب به
ولم يدافع عن نفسه، يكسبه المذلّة التي تكسر من سورة بأسه"[5].
وحين تنكسر العزة والبأس والثقة في نفس
المرء، فإنه يلجأ إلى أخلاق المقهورين، وفي هذا يقول ابن خلدون: "الملك إذا
كان قاهرا باطشا بالعقوبات مُنَقِّبًا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف
والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، فتَخَلَّقُوا بها وفسدت بصائرهم
وأخلاقهم... وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم، استناموا إليه ولاذوا به
وأشربوا محبّته، واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كلّ جانب"[6].
وهذه الأخلاق الذميمة تنتشر في سائر من
نشأ على الذل والقهر، يقول: "من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين أو
المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيّق عن النّفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه
إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط
الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت
معاني الإنسانيّة الّتي له... بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل
فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيّتها فارتكس وعاد في أسفل السّافلين، وهكذا وقع لكلّ
أمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف"[7].
ولقد كان ابن خلدون يعبر بهذا عن خلاصة
تاريخية لا تغيب عمن يطالع صفحاته، بل لقد اختلفت عبارات المؤرخين في التعبير عن
المأساة العقلية والنفسية التي تصيب أمة ترزح تحت القهر والطغيان.
(3)
وما كان ابن خلدون متفردا بالإشارة إلى
هذه الآثار العظيمة والخطيرة للسلطة على الناس، بل هذا غزير متناثر في كلام الأئمة
والعلماء قبله من الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمؤرخين، وله أصول تمتد حتى
الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.
فقد سُئل أبو بكر: ما بقاؤنا على هذا
الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال بقاؤكم عليه ما استقامت بكم
أئمتكم"[8].
وقال عمر لزياد بن حدير: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه
زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين"[9].
وأرسل عمر لأبي موسى الأشعري يقول: "إياك أن ترتع فيرتع عمالك"[10].
وقال عثمان بن عفان: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"[11].
وروي عن غير
واحد من السلف الصالح قولهم: لو كانت لي دعوة صالحة لجعلتها للسلطان، إذ بصلاحه
صلاح الرعية، وبفساده فسادهم[12]،
وشبههوه بعين الماء التي إن فسدت فسد سائر النهر[13].
وقال الغزالي:
"قالت الحكماء أن طباع الرعية نتيجة طباع الملوك... فإنهم يتعلمون منهم
ويلزمون طباعهم"[14]،
وقال ابن جماعة: "الناس على دين الملك، فإذا عدل لزمت الرعية العدل وقوانينه،
فانتعش الحق، وتناصف الناس، وذهب الجور، فترسل السماء بركاتها، وتخرج الأرض
نباتها، وتكثر الخيرات وتنمو التجارات"[15].
وألَّف
اليعقوبي المؤرخ كتابه "مشاكلة الناس لزمانهم"، لهذا المعنى، فراح يذكر
الصفة الغالبة على الخليفة وكيف تشيع في الناس، وقال ابن الطقطقي: "اعلم أنّ
للملك أمورًا تخصّه يتميّز بها عن السوقة؛ فمنها: أنه إذا أحبّ شيئًا أحبه الناس،
وإذا أبغض شيئًا أبغضه الناس، وإذا لهج بشيء لهج به الناس إمّا طبعًا أو تطبُّعًا"[16].
وذكر ابن كثير أنه قد "كانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقى
الرجل الرجل فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمرت؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان
الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همة
عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى
الرجل الرجل فيقول: كم وردك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟ والناس يقولون:
الناس على دين مليكهم، إن كان خمّارًا كَثُرَ الخمر، وإن كان لوطيا فكذلك، وإن كان
شحيحا حريصا كان الناس كذلك، وإن كان جوادا كريما شجاعا كان الناس كذلك، وإن كان طماعا
ظلوما غشوما فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك"[17].
وقال ابن حجر: "الناس على دين ملوكهم فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال"[18].
وغيرهم كثير.
(4)
لولا أننا في أمة مغلوبة الآن لكان
الأجدر بنا والأولى لنا أن نبدأ في أي موضوع بالحديث عما في القرآن والسنة، ثم
تراث سلفنا الصالح، ولكن ما نحن فيه من الغلبة أورث كثيرا من الناس إقبالا على
أقوال الأجانب وكلامهم، فلهذا بدأنا به، وقد حان الآن أن نرجع فنذكر أن أصول هذه
العلوم كلها، وأن القول المهيمن على الأقوال كلها هو ما جاء في القرآن الكريم. إلا
أننا لما نشأنا مبتعدين عنه، ولما قلَّ في زماننا المتأملون والمتفكرون فيه، سرنا
نمرّ على الآيات غافلين عما فيها من المعاني والعلوم، مع أنها وحدها تكفي وتشفي
وتهدي.
لقد ضرب الله لنا مثلا بأمة اخترقها
الذل وانطبع فيها القهر، وفسدت حتى صدر عنها من الأخلاق السافلة والمواقف العجيبة
ما يدهش العقول، تلك هي أمة بني إسرائيل. وإن الوقوف على قصة بني إسرائيل ليكشف
لنا كيف يصنع الطغيان بالنفوس، لا سيما إذا طال عليهم العهد.
تظهر أول أمراض بني إسرائيل في هذا
العجز المُقْعِد الفتاك، حيث كان فرعون يأمر بقتل أبنائهم، فيُقتلون أمامهم مع
عجزهم عن المدافعة والمقاومة، وقد استمر فيهم هذا سنين كثيرة، فقد وُلِد موسى عليه
السلام في زمن قتل وذبح {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا
شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]، ثم إنه بعدما بُعث
نبيا –أي بعد أكثر من أربعين سنة- عاود فرعون سياسته {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].
ثم إنه حين ظهر فيهم النبي المنقذ
المخلص لم يرحبوا به، بل تشاءموا وتشَكُّوا أن حياتهم لم تنصلح {قَالُوا أُوذِينَا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]، ثم
إنهم لم يؤمنوا به، قال تعالى {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ
قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} [يونس: 83].
ولما أن نجَّاهم الله بالمعجزة الهائلة
الرهيبة، وأهلك فرعون أمام أعينهم، لم يتخلَّصوا من آثار الفرعونية القاهرة التي
سحقت نفوسهم، بل ظلت تلك الصفات كامنة فيهم، تخرج عند أدنى اختبار، وسنرى أن سائر
هذه الخطايا التي وقعت منهم ترجع وترتد إلى أمر واحد؛ لقد افتقدوا القوة القاهرة
التي تبطش بهم، فنراهم إذا أمنوا غدروا، وإذا خافوا استقاموا.
1.
لم يستطع بنو إسرائيل أن يتصوروا
الحياة بدون قاهرٍ عليهم يرونه ويحسون وجوده، فالتمسوا إلها حاضرا متجسدا قائما
أمامهم، ولهذا فما إن مرُّوا على قوم يعبدون الأوثان حتى صاحوا بموسى {يَامُوسَى
اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].
2.
ولقد كان نبي الله موسى قويا، فما إن
غاب عنهم في رحلة تلقي التوراة حتى استضعفوا نبي الله هارون، وكادوا يقتلونه، {قَالَ
ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا
تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
[الأعراف: 150].
3.
ولكن.. لماذا أرادوا قتل هارون؟ ما كان
ذلك إلا لأنهم أرادوا إلها متجسدا أمامهم من جديد، وقد انتهز السامري فرصة غياب
موسى فصنع لهم عجلا من ذهب، فأقبلوا عليه يعبدونه! {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ
بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ
لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}
[الأعراف: 148].
4.
فلما أن عاد نبي الله موسى، القوي
الجسد، حتى عادوا وراجعوا الطاعة، ونسف إلههم أمامهم، {وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا
رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149].
5.
وظهر إيمان بني إسرائيل بما أمامهم من
المادة والأسباب، وكفرهم بما وراء الأسباب في أنهم خافوا انقطاع الطعام الذي يتنزل
إليهم من السماء: المن والسلوى، فالتمسوا الزرع الذي يقومون عليه فيخرج لهم من
الأرض، {يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا
وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61].
6.
ولم يعتدل أمرهم إلا حين أوقعهم الله
تحت تهديد مادي محسوس ومرئي، وذلك لما رفع الله فوقهم جبل الطور على هيئة التهديد
لهم، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171].
7.
وظهر هذا الإيمان بالأمور المادية
المحسوسة، والكفران بالغيب حين حثهم موسى على الجهاد، فارتعبوا وقالوا: {إِنَّ
فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}
[المائدة: 22]، ولما ذُكِّروا بالله وقوته وقدرته، وأن الله قد وعدهم بالنصر إذا
هم جاهدوا، لم يؤثر هذا فيهم شيئا، بل قالوا هذه الكلمة الصارخة المعبرة عن حقيقة
نفوسهم: {يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].
8.
وأشدُّ وأظهر ما عبَّر عن نفسية بني
إسرائيل التي اعتادت الخوف من الطاغية القائم أمام أبصارهم، والذي يشعرون بحضوره
وهيمنته، هو قولهم: {يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}
[البقرة: 55].
ولقد مدَّ الله لهم في الفرصة بعد
الفرصة، وفي العفو بعد العفو، ثم ما كان لهم إلا عقوبة الاستبدال، قال تعالى {قَالَ
فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}
[المائدة: 26]. يقول ابن خلدون: "وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد وما
رئموا من الذل للقبط أحقابا حتّى ذهبت العصبيّة منهم جملة، مع أنّهم لم يؤمنوا حقّ
الإيمان بما أخبرهم به موسى من أنّ الشّام لهم وأنّ العمالقة الّذين كانوا بأريحا
فريستهم بحكم من الله قدّره لهم، فأقصروا عن ذلك، وعجزوا تعويلا على ما في أنفسهم
من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلّة، وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم
من ذلك وما أمرهم به، فعاقبهم الله بالتّيه وهو أنّهم تاهوا في قفر من الأرض ما
بين الشّام ومصر أربعين سنة، لم يأووا فيها العمران، ولا نزلوا مصرا، ولا خالطوا
بشرا... حكمة ذلك التّيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر
والقوة، وتخلقوا به، وأفسدوا من عصبيّتهم حتّى نشأ في ذلك التّيه جيل آخر عزيز لا
يعرف الأحكام والقهر، ولا يُسام بالمذلة"[19].
وهكذا نرى أن الطغيان أفسد الجيل الذي
تهيأت له كل الفرص الممكنة للإنقاذ: ظلم شنيع قاهر طويل، وقائد منقذ هو نبي من
أولي العزم من الرسل، أي أنه من أفضل خمسة بشر خُلقوا في التاريخ ومعه نبي آخر
يعضده هو هارون عليه السلام، ومعية ربانية رأوا معجزاتها الكبرى بأعينهم حين نجوا
وهلك فرعون. فما كان له إلا الاستبدال، فأما الجيل الذي جاء بالفتح ودخل الأرض
المباركة وقاتل الجبارين، فإنه الجيل الذي نشأ في التيه، في البادية، رغم أنه لم
يذق ظلم الفرعون، ولم ير المعجزات الهائلة، وكان قائده نبي واحد هو أقل قدرا من
موسى وهارون[20]!
(5)
إذا استوعبنا ما سبق، فلن يكون غريبا
ولا عجيبا أن نرى أعداءنا المحتلين هم أحرص الناس على استبقائنا في الذل والقهر،
وهم لذلك أحرص الناس على تنصيب الأنظمة الطغيانية وعلى حماية الطغاة ودعمهم
وإسنادهم، بالأموال والخبرات والرجال، ثم تنزل جيوشهم بنفسها لحماية هذه الأنظمة
ضد الثورات التي توشك على خلعها وإزالتها.
وقد اخترعوا من المصطلحات ما يعينهم
على ترويج أفكارهم، فالدولة التي لا تستطيع السيطرة التامة على شعبها يسمونها
"دولة فاشلة"، ومن هنا فلا بد من التدخل لبنائها على النحو الذي يجعلها
دولة طغيانية، أو –بمصطلحهم- "دولة ناجحة"، وهذه بعض أقوال قادتهم في
هذا:
·
قالت
كونداليزا رايس التي شغلت منصبي مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية
"الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا على الولايات المتحدة. فهي لا
تستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمن للإرهابيين، لذلك فإن إعادة بنائها
يشكل مهمة ضخمة وهامة في آن"[21].
·
قال هنري
كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأمريكي وأحد أبرز الشخصيات السياسية الأمريكية:
"عندما لا تكون الدول محكومة بكليتها، يبدأ النظام الدولي أو الإقليمي نفسه
بالتفكك. فضاءات خالية موحية باللاقانون تطغى على أجزاء من الخريطة. من شأن انهيار
أي دولة أن تقلب أرضها إلى قاعدة للإرهاب"[22].
ومهما طالت متاجرة هؤلاء الأجانب
بالحريات والحقوق والعدالة والقوانين، فإنما هذا كله أصنام الجاهلية المعاصرة، وهي
الأصنام المأكولة إذا عارضت مصلحة الأجانب وعملاءهم. ولا يجد القوم حرجا في
الاعتراف بهذا والتصريح به، ولولا أن المقام هنا ليس مقام الحديث عن الطغيان
السياسي لذكرنا طرفا من ذلك، ولكن المقصود هنا: أن هذا الطغيان السياسي هو السوط
الحارق الكاوي الذي يستعمله العدو في ضرب الأمة وشلّ قدراتها وتكبيل طاقتها، ليس
فقط بما يثيره من خوف ورعب وألم، بل بما يترتب على هذا الخوف والرعب والألم من
آثار نفسية واجتماعية خطيرة وفارقة تجعل الأمة في وضع لا يمكنها معه النهوض ولو
تغيرت الظروف أو ظهر القادة المخلصون، إلا بعد جهد كبير وعنيف واستبدال تدريجي
ومؤلم لأجيال تمكنت منها أمراض الطغيان حتى أفقدتها فطرتها وصلاحيتها.
ولو عدنا إلى المثال الذي ابتدأنا به
المقال، لوجدنا أن الاحتلال الإنجليزي لمصر إنما نزل دفاعا عن الحكومة المصرية،
الحكومة التي كانت تمثل نموذج الاحتلال بالوكالة، أو نموذج "المستعمرة بدون
استعمار"، فاستطاعت أن تقيم هذه الحكومة وأن تستعملها لا في المكاسب السياسية
والعسكرية فحسب، بل في ترسيخ ونشر المفاسد الاجتماعية والأخلاقية!
ربما يعرف الكثيرون أن الإنجليز
استفادوا من مصر: جيشها وجنودها وشرطتها ورجالها ومواردها واقتصادها في حرب
العثمانيين وفي احتلال السودان وفي هزيمة السنوسيين وفي احتلال بيت المقدس، ولكن
الجانب المغفول عنه ما نشأ في ظل هذا الاحتلال من انتشار للزنا والمخدرات والخمور
والربا والإلحاد والولاء للأجانب بالعاطفة والفكر والأخلاق فوق الولاء لهم بغرض
المصلحة والمكاسب العاجلة! حتى نشأت طبقات اجتماعية عريضة مشوهة العقل والانتماء
والغاية والوسيلة. ولئن كان الإنجليز قد رحلوا قبل سبعين سنة، فما يزال هذا
الميراث الذي تركوه لم يرحل بعد!
[1] ينظر
نص التقرير وهذا الاقتباس منه في: سليم النقاش، مصر للمصريين، 6/59.
[2] ديفيد
باتريك هوتون، علم النفس السياسي، ص20.
[3] في هذه
التجارب وغيرها، يمكن مطالعة هذه الكتب: "طاعة السلطة" لستانلي مليجرام،
"تأثير الشيطان" لفيليب زمباردو، "علم النفس السياسي" لديفيد
باتريك هوتون.
[4] ابن
خلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/184.
[5] ابن
خلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/157.
[6] ابن
خلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/236.
[7] ابن
خلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/743.
[8] البخاري
(3622).
[9]
الدارمي (214)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيخ (269).
[10] ابن
أبي شيبة، المصنف، (34448)، بإسناد صحيح لأن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى كانت
رسالة عمر لجده عند أبيه، (انظر: الفسوي، المعرفة والتاريخ، 2/334).
[11] روي
بألفاظ مختلفة وقريبة عن عثمان، وهو الأشهر، وعن عمر بن الخطاب، انظر: ابن شبة،
تاريخ المدينة، 3/988؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 5/172 (ت بشار)؛ ابن تيمية:
مجموع الفتاوى 11/416.
[12] البيهقي،
السنن الكبرى، (16429)؛ أبو نعيم، حلية الأولياء، 8/91؛ ابن تيمية، مجموع الفتاوى،
28/391.
[13] أبو
نعيم، حلية الأولياء، 2/126، 7/322.
[14] الغزالي،
التبر المسبوك، ص50، 52.
[15] ابن
جماعة، تحرير الأحكام، ص50.
[16] ابن
الطقطقي، الفخري، ص32.
[17]
ابن كثير: البداية والنهاية، 9/186.
[18] ابن
حجر، فتح الباري، 7/151.
[19] ابن
خلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/177.
[20] نحن لا
نفرق بين أنبياء الله، ولكن نشير هنا إلى أن الكمال الذي تمتع به موسى، ومعه
هارون، لم يكن مثمرا مع الجيل الذي أهلكه الذل، حتى قال {رَبِّ إِنِّي لَا
أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، مثلما أثمر جهد نبي الله يوشع بن نون مع الجيل
التالي، وما ذلك إلا لقابلية المحل، بتعبير أهل التزكية والتصوف!
[21] كونداليزا
رايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.
[22] هنري
كيسنجر، النظام العالمي، ص146.