الأربعاء، ديسمبر 04، 2024

لو كان عرضا قريبا!

 أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عن نفسية قومٍ لا يخوضون الجهاد لأنه بعيد الثمرة، وهذا البُعْدُ هو ما جعلهم يتثاقلون ويتباطؤون ويتخلفون عن الجهاد مع النبي ﷺ. وبيَّن ربنا، وهو العليم بالنفوس البصير بما في القلوب، أن الثمرة لو كانت قريبة لكانوا قد خرجوا مجاهدين.

قال تعالى {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42].

ونحن نرى مصداق قول ربنا هذا في زماننا الآن، فانظر وتأمل كم واحدًا كان فرحا مسرورا فخورا بما وقع في طوفان الأقصى لما وقع، وانظر كم منهم الآن من يتحدث عن خطأ الحساب ومرارة التكاليف وقسوة الأوضاع، بعضهم يُصَرِّح وبعضهم يُلَمِّح أن قرار الطوفان كان قرارا خاطئا، وأن تكاليفه كانت شديدة وأنها كانت مغامرة غير محسوبة!

وما من شك في أن حرب غزة لو كانت قد توقفت بعد شهرين أو ثلاثة أو ستة، لكان أكثر القائلين بهذا يقولون بغيره، بل بعكسه، ولربما جادت قرائحهم بالأقوال اليانعة في عبقرية من اتخذ قرار الطوفان بما يرفعهم عن مصاف البشر وبما يجعلهم معدن الحكمة!

فهل مثلُ هذا الحال حالٌ أدقُّ في وصفِ هذه العلة: بُعْدُ الشُّقَّة؟!

فالمسألة إذن نفسية، وبحسب ما تحتمل النفس من المشقة تُكَيِّف الموضوع، وقد يتبع العقلُ النفس في هوها وتحملها، فما احتملته كان عبقرية وحكمة، وما عجزت عن احتماله كان تهورا وخطأً!

وقد يسأل سائلٌ مستفسرًا ومستفهمًا: فكيف نُفَرِّق إذن بين جهاد محمود بعيد الشقة بعد الثمرة؟ وبين الخطأ المذموم الذي يوصف بالتهور وخطأ الحسبة وركوب الأهوال واقتحام المخاطر بغير عدة؟!

للجواب على هذا السؤال وأشباهه، كُتِبت هذه السطور..

 

(1)

إن الجهاد في غزة وفلسطين، هو جهاد دفع ليس جهاد طلب، فالأصل فيه أنه قائم مشتعل لا يهدأ ولا يفتر، وقد يُقدِّر المجاهدون هدنة قصيرة أو طويلة لالتقاط الأنفاس أو لإعداد عدة، دون أن يعني هذا أن الجهاد قد توقف وارتفع الواجب فيه.

وجهاد الدفع ليس هو الذي يُشترط فيه ويلزم فيه وقوع غلبة الظن بالظفر والنصر، بل هو مطلوبٌ بما توفر وحضر من العدة والعدد، فهو من نوع الذي يجاهد مدافعا عن نفسه وعرضه وماله، قد يخوض غمرة الموت مدافعًا دون أن يتحقق له غلبة الظن بأنه قادرٌ على الدفع والظفر! وقد شهد النبي لمن فعل ذلك بالشهادة في قوله: من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون نفسه فهو شهيد، ومن قُتِل دون عرضه فهو شهيد.

وقد قرر العلماء في جهاد الطلب جواز، وبعضهم قال باستحباب، أن يفعل المجاهد ما قد يكون فيه هلكته إن كان في فعله هذا نكاية بالعدو وإرعاب له، فكيف إن كان الواقع في جهاد الدفع، وفي دفع الصائل، وهو الأمر الذي ليس بعد الإيمان بالله شيء أوجب منه؟!

وإن الناظر في واقعنا المعاصر ليعلم ويرى أن من المستحيل تحققه في المدى المنظور أن يبلغ المجاهدون في العدد والعدة مثلَ الذي هو عند عدوهم، إن الواقع شاهدٌ بهذا، كيف وهم محاصرون من أنظمة الخيانة والغدر، وعدوهم ممدود بحبل الغرب والأمريكان وأنظمة الخيانة نفسها.

إن صرف الوقت انتظارا لاكتمال العدد والعدة ليست له ثمرة إلا أن تزيد الفجوة بين ما لدى أهل الجهاد، وما لدى العدو.. وهو ما يجعل المهمة تزداد في كل يوم عسرًا وعنتًا ومشقة واستحالة!

 

(2)

لقد تكرر في القرآن والسنة الثناء على قوم قاموا بالحق حتى هلكوا فيه ولم ينتصروا..

انظر إلى أصحاب الأخدود، آمنوا بالله وكفروا بالطاغية، فحفر لهم أخدودا ملأه نارًا، ثم أحرقهم فيه.. أبادهم!

وانظر إلى سحرة فرعون، وهم يكفرون بفرعون ويؤمنون بموسى أمام الجمع الحاشد الكبير، ثم يضربون هيبة فرعون وجبروته في مقتل حين يستخفون بتهديده وعذابه، فماذا كان؟.. أتى لهم بالجنود يعذبونهم ويقطعونهم حتى أهلكهم وأبادهم!

وانظر إلى أصحاب الكهف، كيف قاموا بالحق فعبدوا الله وكفروا بآلهة قومهم حتى لم يأمنوا على أنفسهم، فخرجوا يلتمسون المأوى الآمن بعيدًا، فألقى الله عليهم النوم حتى بعثهم بعد ثلاثمائة عام.. إذا نظرت إلى هذا المشهد من جهة القوم الكافرين، فكيف تراه؟!.. ترى قوما من "الإرهابيين" و"الخوارج" و"المتطرفين" هربوا من وجه القانون حتى لا ندري في أي أودية الأرض هلكوا!

وانظر إلى امرأة فرعون وإلى ماشطة ابنته كيف آمنتا بالله وكفرتا بفرعون وتحملتا العذاب، حتى لقد هلكت الماشطة وأطفالها تعذيبا وإحراقا..

ولقد أخبرنا نبينا برجليْن بلغا مرتبة واحدة: أحدهما قُتِل شهيدا وهو يُقاتل، والآخر قُتِل بعدما جهر بكلمة الحق في وجه الجبار الجائر، كلاهما بلغ مرتبة سيد الشهداء، وكلاهما لم يكن بميزان الدنيا من المنتصرين!

وأزيدك من الشعر بيتا.. أو من التاريخ قصصا..

إن الأمة المهزومة المستضعفة لا تبدأ مسيرة نهضتها إلا بأفواج من الاستشهاديين، نعم، بهؤلاء ذوي النفوس الفولاذية التي يبلغ إيمانها مبلغًا تنهار معه القوى المادية كلها، فيُقدم على عمل يراه الناس انتحارًا، ويكون هو البذرة الأولى في كل قصة نهوض!

ماذا كان يرجو بلالٌ من حظ الدنيا حين كان يقول في عذابه الرهيب: أحدٌ أحدٌ؟!

وماذا كان يرجو خبيب بن عدي من حظ الدنيا وهو يقول على خشبة الصلب:

ولست أبالي حين أُقتل مسلما .. على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ .. يبارك على أوصال شلو ممزع

ولا تحسبن هذا قاصرًا على أمتنا وحدها؛ لا.. لقد وُجِد في الأمم كلها أمثال هؤلاء "الانتحاريين" الذين بذلوا نفوسهم في سبيل تثبيت أقوامهم على عقائدهم، حتى وإن كانت باطلة.. لم يزل الإسبان حتى اليوم يُعَظِّمون قوما "انتحاريين" كانوا يأتون إلى قلب الساحة الرئيسية في قرطبة العظيمة إبان ذروتها فيتعالنون بسب النبي والقرآن والإسلام، يريدون بذلك تثبيت قومهم النصارى لما يرونه من ذوبان النصرانية وانكماشها أمام قوة الإسلام وحضارته. ولأن المشهد كان عجيبا فقد تعامل معهم قضاة المسلمين باعتبارهم مجانين فلم يحكموا عليهم بالقتل غير مرة.. أولئك المجانين تراهم أمة الإسبان أول من ثبَّت النصرانية وأول من قاوم الوجود الإسلامي.

وفي التاريخ أمثال هؤلاء مما لا يتسع له المقام.. إنما أذكرهم لأقول: لا بديل لكل أمة مستضعفة تحفظ وجودها عن "استشهاديين" يخرقون قانون القوة ومنطق العقل ليمنحوا الدين والإيمان وقودا من دمائهم المسفوكة ونورا من نفوسهم المسفوحة!.. هكذا بدأ الإسلام قصته! وهكذا بدأت كل قصة نهضة من بعد هزيمة!

 

(3)

وإذن، فهل كان قرار طوفان الأقصى قرار عملية استشهادية جماعية؟!

لست أدري.. وأغلب الظن عندي أنه لم يكن كذلك، وأن الذي اتخذ القرار لم يكن يتوقع ردًّا بهذه الدموية، ولا توقع كل هذه الخيانة من أنظمة الغدر والخيانة العربية والإسلامية!

وقد يخطئ المجاهد فيخوض معركة لا تكون نتائجها كما أَمَّل وترجى وتمنى.. فإنما المجاهد بشر، وهل كان المجاهد معصوما؟!

ما من أحد يستطيع أن يقول بأن كل معركة خرج لها النبي أو خلفاؤه الراشدون أو الفاتحون والصالحون من الأمراء والسلاطين كانت محسومة النتيجة لصالح النصر، وإنما هو التقدير الذي قد يصيب وقد يخطئ، ولو كان الإنسان لا يقدم إلا على معركة النصر فيها محسوم لما كان ذلك منه بطولة ولا جهادا، بل هذا أقرب إلى الانتهازية وركوب المصلحة..

ما البطولة ولا الشجاعة ولا البسالة إلا الثبات في الموطن المخوف والمنزل الرعيب والاستئساد في ساحة الخوف والصلابة حين تميد الأرض وتكفهر الأجواء وتظلم الأنحاء!

ولولا ذلك ما وُصِف بطل بالبطولة، ولا شجاع بالشجاعة، ولا باسل بالبسالة!

ثم إن حسبة النتائج هذه متعذرة أصلا في حال الدنيا وطبائعها، فما من معركة يمكن الحسم بنتيجتها قبل أن تبدأ.

وقد وقع في سيرة نبينا الأعظم ﷺ أن هُزِم جيش المسلمين، ووقع أن حاصروا مدينة ولم تفتح لهم رغم استبسالهم وجهدهم حتى تركوها ورحلوا، ولقد أرسل نبينا ﷺ سرايا في مهمات عسكرية، فمنها ما أبيد ولم يرجع منها أحد! ومنها ما أبيد ولم يرجع منها سوى القائد وحده!! فإذا كان تقدير البشر وعملهم قد مسَّ الخطأ فيه خير البشر وأولاهم بالعصمة، فكيف بمن هم دونه؟!

ولقد خاض جيش الصحابة بعد وفاة النبي فتوحا، فوقعت فيهم الهزيمة أحيانا، واستعصت عليهم المدن أحيانا، وانقلبت عليهم مدن بعد فتحها أحيانا.. فلو كان يشترط لقرار الجهاد التيقن من النصر والظفر لما قام للجهاد أحد!

وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة تعز على الحصر، يطول تتبعها، حول مدن صمدت أمام التتار وأمام الصليبيين وأمام القشتاليين وغيرهم، واستبسلت وقاتلت وكافحت ثم سقطت، فلم يكن جهادهم هذا عيبا ولا عبثا ولا خطئا.. بل كانوا أبطالا وخلدوا في ذاكرة الأمة أبطالا، وضربوا بأنفسهم المثل والقدوة لمن في زمانهم ولمن جاء بعدهم.

وقد تكرر في تاريخنا الحديث وفي زماننا المعاصر هذا انتهاء حركات إسلامية مجاهدة دون أن تحقق أهدافها في النصر والتمكين، فمنهم: عبد القادر الجزائري وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وحسن البنا وسيد قطب وأمين الحسيني وغيرهم كثير.. فإن أمتنا التي لم تكف عن المقاومة، لم يتحقق فيها النصر والتمكين في هذا الزمان المعاصر إلا مرات معدودة، لشدة ما نحن فيه من الاستضعاف ولعظيم الفارق بيننا وبين عدونا في القوة، ولكثرة ما فينا من الخائنين والمتخاذلين، ولعيوب أخرى ذاتية أيضا..

والقصدُ أن مرارة النتائج وقسوتها لا تبطل الأصل، فهذا الذي وقع كله لا يجعل الطريق خطأ ولا يجعل هؤلاء مخطئين، بل لقد أنزلت الأمةُ هؤلاء جميعا -وهم مهزومين، لم يبلغوا التمكين- منزلة الأبطال والكبار الذين مهدوا الطريق أو وضعوا لبنات في البناء!

فلو قد تحقق المخوف وقُضِي على المقاومة في غزة، فلن يكون هذا خطأ في الطريق وفي الجهاد.. فإن غاية ذلك أن يكون خطأ في التفاصيل والتقديرات، وليس هذا هو الخطأ الأعظم.. إنما الخطأ الأعظم أمر آخر أحدثك عنه بعد قليل!!

الذي أريد قوله الآن وهنا: أنه، وإن كان قرار طوفان الأقصى قرار استشهاد جماعي، فكم سبقهم إلى ذلك مجاهدون صالحون، ما كانوا يملكون إلا الصمود والصبر والدفع والدفاع، حتى أعذروا إلى ربهم وبذلوا أقصى جهدهم، ثم مضوا شهداء مخلدين، وبقي ذكرهم في التاريخ مخلدا!

 

(4)

أما الخطأ الأعظم حقا، بل الخطيئة العظمى صدقا، فهو هذا التخلي وهذا الخذلان، بل هذه الخيانة لله ورسوله والمؤمنين.

فلو قد اتفقنا –جدلا وتنزلا- أن قيادة المقاومة أخطأت بقرار الطوفان، فإن خطأهم في التقدير والتفاصيل لا يرفع عن الأمة وحكامها وجيوشها وأجهزة أمنها ومخابراتها وإعلامها واجب الجهاد والمساندة والدعم والنصرة لإخوانهم المذبوحين المضطهدين وإن أخطؤوا!

هذا هو الخطأ الذي ينحرف المتكلمون عنه ولا يريدون الخوض فيه لأن الخوض فيه ذو تكاليف وأثمان.. فيهربون من تكاليف قول الحق في أصحاب الخطايا والخيانة لينهشوا بألسنتهم من بذل غاية جهده ثم أخطأ في التفاصيل وفي التقدير!

المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يُسلمه!

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وكان صادقا في الحديث عن الأخطاء وتوزيع المسؤوليات، فأوجب الواجب وأولى الأولويات أن يشير إلى هؤلاء الذين خانوا الله ورسوله والمؤمنين، وأسلموا أهل غزة وفلسطين ليُذبحوا، لا بل عاونوا على ذبحهم، بحصارهم، وبإمداد عدوهم بالسلاح والمؤن، وبقهر شعوبهم ألا تنهض لنصرة غزة!

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليضرب بسهم في قلب الخيانة، لا أن يوجه سهامه إلى قلب المجاهد الذي وقع منه الخطأ!

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت!

 

(5)

وأخيرا.. هل أخطأ المجاهدون حقا أم كان تقديرهم صوابا؟

والجواب: لست أدري.. إنه ما من أحد يملك جوابا شافيا على هذا غيرُ الذين اتخذوا هذا القرار، وبعضهم الآن شهيد عند ربه..

لكنني أدري أمورًا أخرى قد تغيب عن حساب الذين يتحدثون عن المكاسب والخسائر.

اعلم أولا أن الشعوب، سائر الشعوب، تبع لقادتها.. فالقادة هم الذين يقدرون مصالحها وخسائرها، فيتخذون قرار الحرب وقرار السلم دون عودة ولا استفتاء لشعوبهم.. فمن عجيب ما نحن فيه أننا ابْتُلينا بمن كان يريد من يحيى السنوار أن يستفتي أهل غزة قبل أن يقدم على قرار الطوفان!! يريد منه بذلك أن يكون أعظم ديمقراطية من تشرشل وأيزنهاور وبلير وبوش وغيرهم من قيادة الغرب الديمقراطي (!!) الذين يخوضون الحروب ويسوقون شعوبهم إليها!

ما عرف التاريخ قوما يستفتيهم قائدهم في قرار خوض الحرب قبل أن يفعلها، وإنما الذي كان ويكون وسيكون إلى يوم القيامة أن هذا القائد يقدر أن المصلحة في خوض الحرب فيحمل شعبه إليها، فإن أصاب وفاز سعدوا جميعا، وإن أخفق وغُلِب دفعوا الثمن جميعا!

غير أن الذي أريد لفت الأنظار إليه هنا أن حساب المصالح والمفاسد لا يكون مقصورا على لحظة الحاضر الواقع الآن، بل هو حساب يستدعي تقدير المآلات والمصائر!

دعني أقرب الصورة لك: لقد كان الأقصى مهددا بالهدم، واتخذ القوم من إجراءات التقسيم الزماني والمكاني، ومن طقوسهم التعبدية التلمودية ما يشير إلى قرب نيتهم تنفيذ هذا الهدم.

فالآن.. تخيل أن لو لم يكن طوفان الأقصى قد حصل، ثم استيقظنا يوما على بدء عملية الهدم، بعدما اتخذت إسرائيل سائر احتياطاتها واحترازاتها السياسية والعسكرية والأمنية لتتم عملية الهدم بأهون سبيل.. ماذا كنت تحب أن يكون؟!

إن إسرائيل لا تخفي طموحها في هدم الأقصى وإقامة الهيكل مكانه! بل هذا هو مشروعها الذي تريده منذ أن نشأت، وهي تسعى إليه سعيها الحثيث، ولا يؤخرها عن فعله إلا أنها تخشى هبة وغضبة شعبية تطيح بها..

ولو أنك لم تنسَ لرأيت كيف كان موكب التطبيع سائرا، حتى أنشأت بعض الأنظمة "الديانة الإبراهيمية" وصنعت بيتا لهذه الديانة الجديدة، وافتتحت اتفاقيات سمتها الإبراهيمية لتبدأ عملية تطبيع، بل عملية صهينة محمومة للعرب والمسلمين، بلغت أن يدخل بعض اليهود إلى المدينة المنورة، وأن ينفخ بعض حاخامتهم أبواقهم عند أطلال خيبر!

أريد أن أذكرك أن مسألة هدم الأقصى والاستعدادات الجارية لذلك سياسيا واقتصاديا وأمنيا كانت على أشدها..

فلو كنتَ في موقع قادة المقاومة في غزة، ورأيت هذا المآل بعين التوقع القريب، لكان قرار القيام بعملية استشهاد جماعية إنقاذا للأقصى هو المصلحة.. بل هو المصلحة العظمى! إن إيقاف هدم الأقصى وتوغل الصهاينة إلى مكة والمدينة وخيبر ثمن يستحق أن ندفع من أجله عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى!

دعنى أقدمها لك بصياغة أخرى: لو أنك استيقظت يوما فوجدت الأقصى قد هُدِم، ثم قيل لك: قد كانت لدى المقاومة خطة اجتياح لغلاف غزة ولكن تقديراتها كانت أن هذا الاجتياح سيكلفها عشرآت آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى، فصمتت ولم تفعل.. ماذا كنت تراك تقول أو تفعل أو تشعر؟!

ألن تشعر بأنك تحب أن تضحي بنفسك رخيصة قبل أن ترى بعينيك هدم الأقصى مسرى النبي ﷺ؟!

هذا الذي أريد أن ألفت النظر إليه: إن حساب المصالح والمفاسد، حساب المكاسب والخسائر، لا يقارن بين وضع غزة قبل الطوفان وبعده.. بل يقارن بين وضع المسلمين والصهاينة والأقصى بالطوفان وبغير الطوفان!.. عندئذ يعتدل الحساب!

ثم أعود فأكرر: لست أدري ماذا كان في رأس قادة المقاومة حين اتخذوا قرارهم.. غير أن الذين أرى منهم كل هذه الأساطير العجيبة في القتال والصمود لا بد لي أن أحترم عقولهم ونفوسهم وتقديراتهم، وإن لم أكن قد عرفتها ولا اطلعت عليها!

وأعرف قبل ذلك وبعده أنه لا نهضة للأمة إلا بمثل هذه الأثمان الكبيرة المدفوعة.. مثلما لم تنهض أي أمة إلا بفضل تضحيات أبنائها، بمن في ذلك الملحدون والكفار الذين لا يرجون الدار الآخرة.

هذا هو الحساب البعيد.. حسابٌ فيه الجهاد ذا ثمرة، ولكن الثمرة بعيدة.. بعيدة الشقة!

ثمرة لا يصلح لها من لا ينهض إلا لو كان الجهاد عرضا قريبا!!

نشر في مجلة أنصار النبي، ديسمبر 2024م

الاثنين، نوفمبر 04، 2024

سنوار مان!.. حاشية على رثاء أبي إبراهيم!

 

في مؤتمر الذكرى الثالثة للهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ، أنشد شاعر الثورة اليمنية فؤاد الحميري أبياتا بديعة يقول فيها:

شتان بين الشك والإيمان .. وشهود زورٍ أو شهيد عيانِ

سقطت بطولة هُولِيُود وسحرُها .. وعَلَت بطولة تلة السلطانِ[1]

هم مثلُ سوبرمانهم أكذوبة .. لكننا –صدقٌ- كسِنْوَرمانِ

 

(1)

كأن الغرب يشعر نقصا فظيعا في البطولة والأبطال، فلم تزل آلته الدعائية تنهمر علينا بالأبطال المُخترعين الزائفين؛ فكم نشأنا ودرجنا على روايات هؤلاء وأفلامهم، فإذا الأطفال والناشئة يستلهمون أمثلة: سوبر مان (الرجل الخارق)، سبَيْدر مان (الرجل العنكبوت)، وأنواعًا من الفرسان في كل موطن وسبيل. وإذا الكبار والكهول يستهلكون أصنافا من المقاتلين والأبطال الذين فرغوا من مهمات الأرض فطفقوا يحاربون في النجوم والكواكب والعوالم الموازية أو يتصدون لغزو الكائنات الفضائية لهذا العالم!

قد كثرت القصص المخترعة والخيال العلمي من بعد ما تضخم التفوق الأوروبي حتى لم يعد يرى له في هذه الأرض قرينا ولا منافسا!

وتأمل في هذا ترى صدق ما أقول؛ فأي بطولة يفخر بها المرء إذ يستطيع أن يقتل، بإلقاء القنابل وهو في طائرة تعلو آلاف الأميال على قومٍ من العُزَّل الذين لا يطالونه، أو حتى يقتل وهو في مركز للتحكم وقد أرسل طائرة مُسَيَّرة يتحكم فيها كما يتحكم في الألعاب الإلكترونية، يرى الناس من حيث لا يرونه، ويفتك بهم من حيث لا يدركونه؟!.. فمن كان هذا حالُه، وقد تجرد في معاركه من معاني البطولة، كان لا بد لأدبائه وروائييه وأهل الدراما والسينما فيه أن يخترعوا له أعداء فوق البشر، يأتونه في الأرض أو يذهب هو إليهم في السماء ليتمّ له القتال الذي فيه معنى البطولة!!

وأشدُّ ما ترى فيه هذا النقص لدى الغربي هو الأخلاق؛ فإن الغربي مجرم منافق، وذلك أمر أصيلٌ في طبعه، لا سيما منذ اعتنق العلمانية، فالأخلاق عنده وسيلة وأداة لا أكثر، يستعملها وينتهكها في تمكين تفوقه، وقد يفعل هذا في نفس الوقت واللحظة.. وقد ابتكر الغرب في منظومته السياسية وظيفة "المتحدث الرسمي"، وهذه الوظيفة يتولاها أكثر الناس مهارة في التعامل مع المآزق الأخلاقية؛ فإن أردت بلوغ هذه الوظيفة فكن وقحا فصيحا، وكن باردا ماهرا في تغطية المواقف اللاأخلاقية بغلالة من الشعارات الأخلاقية، كن قادرا على إنكار الشمس!

لهذا ترى الغربي حريصا على الأخلاق شغوفا بها، وذلك في رواياته وقصصه ودراماه وسينماه فحسب، يحاول بهذا أن يغطي نقص الأخلاق في طبعه، وتجرده منها في واقعه! مَثَله في هذا كَمَثل الذي يتعاطى المخدرات ويدمنها لأن جسده قد توقف عن إفراز مادتها، فهو شغوف بها لأنه فاقدٌ لها، متشوق لها لأنه فارغ منها، حريص عليها لأنه عاجز عن استنباتها من نفسه مثل كل الأسوياء الأصحاء!

وحال هذا يكون أشد بؤسا وأشد حقدا وأشد تغيظا حين يرى مادة البطولة كلها قد جُمِعت في عدوّه، وليس يعرف طهر الفتاة العفيفة إلا التي ارتكست في الفاحشة وأدمنتها، وليس يتغيظ الجبان إلا إذا أبهر الناسَ الشجاع، وليس يُفتضح البخيل بمثل ما يُفتضح إذا ظهر إلى جواره الكريم!

 

(2)

والحمد لله كثيرا، فقد جُمِعت في أمتنا مادة البطولة، حتى كأن أمتنا نبع من البطولة المتفجرة المتدفقة، أبناؤها يقاتلون في الساحات قتالا غير مسبوق ولا مشهود، قتال من لا يملكون شيئا في مواجهة من يملكون كل شيء!!

ماذا يكون معنى البطولة ومعنى الشجاعة ومعنى البسالة ومعنى الإقدام إذا لم يكن هو مشاهد اقتحام المقاتلين المحاصرين منذ سبع عشرة سنة في القطاع المعزول لأقوى دولة مدججة بالسلاح، وإعطائها صفعة مدوية انكسرت فيها سُمْعتها الأمنية وتضعضعت فيها هيبتها العسكرية؟!

كيف يمكن أن نصف البطولة والشجاعة والإقدام والبسالة إذا لم نستعمل لذلك مشاهد الحافي الذي يخرج من فتحة نفق ليضع عبوة ناسفة على الدبابة الأكثر تسليحا وتدريعا في تاريخ المدرعات؟! أو ذلك الذي قُطِعت ذراعه فكان يرمي بذراعه الثانية قذائف الهاون على عدوه، أو ذلك الذي سقط أمامه صاحبه الأول ثم الثاني فالتقط السلاح الوحيد ليواصل المعركة المحسومة بلا تردد؟!!

كيف نصف معنى الصبر والثبات ورباطة الجأش إذا لم نستعمل مشاهد أهل غزة من الشيوخ والنساء والصبيان وهم يعيشون المصائب الكبرى التي ينهار الناس لأقل من عشر معشار معشارها؟! ولئن نسيت فلست أنسى طبيبة تابعة لمنظمة غربية جاءت إلى غزة بعد جولة حربية فدُهِشت لأنها لم تر في غزة ما تراه في الغرب من مظاهر الانهيار والصدمة بعد الحرب!! فصارت تتعجب وتستغرب وقد ضرب أهل غزة عقيدتها العلمية في الصميم، فلم تعد تدري: هل هؤلاء من البشر؟ أم أن العلم الذي درسته والتجربة التي خاضتها كانت خرافة وزيفا؟!!

ثم انظر وتأمل.. كيف اجتمع المشهدان معًا في البقعة الواحدة!!

انظر إلى الجند المدجج بالسلاح، الذي يلقي بأطنان الحميم من الطائرات البعيدة، ويستعمل أحدث التقنيات ليخوض بها الحرب، ثم هو يضرب المثل في قذارة الأخلاق، وفي التمتع بقتل النساء والأطفال والحيوانات، وبهدم المساجد والمستشفيات، وإذا شكَّ في وجود عدو له في مكان نفَّذ ضربة تقتل حوله مئات من البشر، ثم إذا اقتحم بيتا استخرج ملابس نسائه فلبسها الجنود وصَوَّروا أنفسهم بها؟!! ثم انظر إلى وليِّهم الغربي كيف لا يتوقف عن إمدادهم ودعمهم، وهو الذي أسال أطنانا  من الحبر وأكواما من الأوراق في التنظير لحقوق الإنسان والحرب والأسرى... إلخ!

 

(3)

ولقد شاء الله تعالى أن يجتمع في مشهد استشهاد أبي إبراهيم يحيى السنوار هذا كله: البطولة الإسلامية المتدفقة حتى الرمق الأخير، والقذارة الصهيونية الصليبية الغربية المتلمظة الحقودة حتى الانتقام الأخير:

. مقاتل يقاتل فوق ظهر الأرض، بنفسه!

. أشعث أغبر باذل كل جهده، كما يحب ربنا ويرضى

. وحيد بعد تفرق صحبه، أو هلاكهم معه أو دونه!

. صامد صلب حتى اللحظة الأخيرة! لم يجد إلا العصا فقذف بها يقاتل!

. ملثم حَرَمَ العدوَّ أن يتعرف عليه لئلا يُعتقل فتكون مذلة ومهانة له، وتكون مكسبا ومفخرة للعدو!

. جريح ينزف، لكنه ربط ذراعه الجريح بفمه ويده الأخرى، بحبل ليحول دون استمرار النزيف!

. لا هو في نفق (وليس عيبا لو كان) ولا متدرعا بالأسرى (وليس عيبا لو فعل)

. يصطحب عدته في القتال: سلاح.. ومعها عدته الروحية: كتاب في الأدعية، ورقة في الأذكار، مسبحته.. وحبَّاتٌ يستعملها الناس لتعطير الفم، فلا تدري أكانت له لذلك الغرض فتكون دليلا على نظافة وطيب، أم كانت له غذاء ضعيفا لم يجد سواه، إذ هو مقاتل محاصر؟!

وأما عدوُّ، فظهر على هذا النحو:

. مجرم يضرب بقذيفة الدبابة مقاتلا جريحا ليس بيده إلا العصا!

. جبان يتخوف من مقاتل واحد فيرسل بطائرة مسيرة تستكشف شأنه!

. مرعوب قضى يوما قبل أن يجرؤ على اقتحام المنزل المتهدم فوق المقاتل الوحيد الذي فرغت جعبته!

. خبيث دنيئ سرق الجثة ثم هدم الدار!

وقد شاء ربك مزيد فضح لهذا العدو ومزيد بث لكرامة السنوار، إذ أذيع هذا كله على يد العدو نفسه، ولا أحد يدري، لعل الشهيد كانت له مناقب أخرى ظاهرة لكن العدو حجبها وكتمها!!

 

(4)

كان الشاعر العراقي الكبير أحمد مطر قد أنشد، ربما قبل ثلاثين سنة أو يزيد، قصيدته البديعة التي يقول فيها:

وجوهكم أقنعة بالغة المرونة..

طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة..

صفق إبليس لها مندهشا وباعكم فنونه..

وقال: إني راحل.. ما عاد لي دور هنا.. دوري أنا، أنتم ستلعبونه!

أكلما نام العدو بينكم رحتم تقَرِّعونه؟!

وغاية الخشونة أن تهتفوا: "قم يا صلاح الدين".. حتى اشتكى مرقده من تحته العفونة!

كم مرة في العام توقظونه؟ أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة؟!

دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه..

لأنه لو قام حقا بينكم.. فسوف تقتلونه!!!

نعم.. لو كان صلاح الدين قد قام لكان مصيره كمصير السنوار، أو حازم أبو إسماعيل، أو إسماعيل هنية، أو غيرهم ممن امتلأت بهم السجون والمنافي والقبور!!

فلو أننا ذهبنا نقرأ التاريخ ونطالع سيرة صلاح الدين، ثم ارتددنا بعدها فجئنا ننقد أنفسنا وتجربتنا ونتأمل في واقعنا لكان لزاما علينا أن نقول: ما بلغ صلاح الدين ما بلغ من التحرير والنصر إلا بعد أن انتهى من الخونة الذين كانوا يطعنونه في الظهر، فما استقام لصلاح الدين تحرير بيت المقدس إلا حين كسر الأمراء الذين حكموا بلاد الشام وكانوا حلفاء للصليبيين وعقبة في طريق التحرير!

ولقد حاول صلاح الدين أن يتجنب طريق كسرهم، وأن يتألفهم، وأن يعدهم ويمنيهم ويعظهم ويرجيهم، فما استطاع.. هذا وهو المعروف بأنه المثال في الرحمة واللين والعفو، حتى لقد أخذ عليه بعض المؤرخين إفراطه في العفو والصفح! فلئن كان هذا المغالي في العفو والصفح قد عجز عن أن يجد طريقا لتحرير بيت المقدس قبل أن يكسر الخونة الذين ثووا في ظهره، فكيف بغيره؟!

ستظل البطولة التي تتفجر بها أمتنا محبوسة طالما بقي الخونة، فإن تفجرت وتدفقت رغما عنهم فستبقى مطاردة لتنتهي مغدورة مذبوحة!

وهذا هو الطريق..

هذا هو الطريق الذي تهدي إليه بطولة السنوار الشهيد..

 

(5)

لما رجعت إلى البيت بعد انتهاء مؤتمر الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ، وقد كنتُ ممتلئا بأبيات فؤاد الحميري عن "السنوارمان"، وجدتني أمام قصيدة أخرى طازجة؛ فعرفت أنه بينما كان صاحبنا الشاعر اليمني في إنشاده، أخرج الشاعر الفلسطيني المعروف تميم البرغوثي قصيدته الأعظم في رثاء السنوار، وتلك قصيدة من بديع الكلام والنظم، وتحتاج وقفات ووقفات، ولا قليل عليها إذا أقيمت لها مجالس الشروح والحواشي، أتركها هنا، تحينا لفرصة قادمة إن شاء الله..

قال تميم:

ألا كم كريم عده الدهر مجرما .. فلما قضى، صلى عليه وسلما

أبو القاسم المنفي عن دار أهله .. وموسى بن عمران وعيسى بن مريما

أتعرف دينا لم يُسَمَّ جريمةً .. إذا ضبط القاضي بها المرءَ أُعْدِما

صليبٌ، وقتل في الفراش، وعسكر .. بمصر، وأخدود بنجران أضرما

وطفل وديع بين أحضان أمه .. يراوغ جيشا في البلاد عرمرما

وقلَّ نبيٌّ لم تلاحقه شرطة .. وأشباهها في كل دهر تصرما

فمن جوهر التوحيد نفي ألوهة الـ .. ملوك، لذا لا زال دينا محرما

وفرعون والنمرود لم يتغيرا .. بقرنيْن أو ربطات عنق تهندما

ونحن -لعمري- نحن منذ بداية الـ .. خليقة، يا أحبابنا، وهما هما

 

مُسَيَّرة في شرفة البيت صادفت .. جريحا وحيدا يكتسي شطره دما

قد انقطعت يمناه وارتض رأسه .. فشدَّ ضمادا دونه وتعمما

وأمسك باليسرى عصا كي يردها .. فكانت ذبابا كلما ذُبَّ حَوَّما

وما أرسلت إلا لأن كتيبة .. من الجند خافت نصف بيت مهدما

وقد وجدوه جالسا في انتظاره .. أظن -ومن تأخيرهم متبرما

 

ولو صوَّرت تحت اللثام لصوَّرت .. فتى ساخرا ردَّ العبوس تبسما

تلثم كي لا يعرفوه لأنهم .. إذا عرفوه فضَّلوا الأسر ربما

ولو أسروه، قايضوه بعمره .. لذاك رأى خوض المنية أحزما

 

فلم يتلثم كي يصون حياته .. ولكن لزهد في الحياة تلثما

فقل في قناع لم يلف لسلامة .. ولكن شعارا في الحروب ومعلما

وقل في جموع أحجمت خوف واحد .. وفي جالس نحو المشاة تقدما

 

أتى كل شيء كي يسوء عدوه .. ولم يأت شيئا في الحياة ليسلما

رمى بالعصا جيش العدو وصية .. لمن عنده غير العصي وما رمى

رمى بالعصا لم يبق في اليد غيرها .. ومن في يديه العسكر المجر أحجما

غدا مضرب الأمثال منذ رمى بها .. لكل فتى يحمي سواه وما احتمى

جلوسا على الكرسي مثل خليفة .. يبايعه أهلوه في الأرض والسما

فذلك عرش يرتضيه ذو النهى .. وذاك إمام قبلة السعد يمّما

 

هنا يصبح الإنسان دينا مجردا .. ويصبح دين الناس شخصا مجسما

أتعرف إن الموت راوية الفتى .. يقول لحقٍّ أم لباطل انتمى

يعيش الفتى مهما تكلم ساكتا .. فإن مات أفضى موته فتكلما


[1] الموقع الذي استشهد فيه يحيى السنوار يعرف بحي "تل السلطان" في مدينة رفح.

الخميس، أكتوبر 03، 2024

أمةٌ بين العجز والخذلان

 


إنما مثلنا ومثل هذا الواقع الذي نحن فيه، كَمَثل قومٍ وُلِدوا في سجن، لم يعرفوا من الحياة غير السجن، وقد درجوا على ذلك وألفوه حتى لم يعرفوا غيره! فهم يرون زنازينه بيوتا وأوطانا، ويرون سجانيه حراسا، ويرون تقسيم العمل فيه نظاما، ويرون مديره زعيما ورئيسا!

فلئن سألتَهم: ماذا تحبون؟ وفيم ترغبون؟ كان مناضلهم وأشجع من فيهم هو من ينبعث ليقول: نريد زيادة وقت التريض، والتحسين من جودة الطعام، وإصلاح أحوال المستشفى لتقديم الرعاية الصحية الملائمة للمواطنين، وتعديل القوانين المنظمة للإدارة لكي يتحسن تعامل الحراس مع النزلاء في أثناء تنظيم الخروج والدخول!

فلئن اكتفى هذا "الشجاع، المناضل، المغوار" بالكلام والمناشدة والنداء، فهو يعمل وفق القوانين القائمة، وقد ينظر إليه مدير السجن إن كان "صالحا" بعين العطف والعناية، وإلا فقد يتخوف من أن هذا الكلام هو أول العمل كما أن النار هي من مستصغر الشرر، فيعمل على عقوبته كي لا تنتشر أفكاره التي تهدد "نظام" السجن، وتشجع أولئك النزلاء على التمرد!

وأما إن كان هذا "الشجاع، المناضل، المغوار" أوسع من ذلك حيلة، فلم يكتفِ بالكلام، وإنما سعى في العمل، فإنه المتمرد الإرهابي الذي يجب أن يؤدب وأن يكون عبرة لمن يعتبر! وعظة لمن يتعظ!

ولكن.. ما هو هذا العمل الذي سيجعله عبرة؟!

إنما هو كأن يشاكس الحراس في مواعيد الخروج والدخول إلى الزنازين، فيسعى لانتزاع وقتٍ أطول من أوقات التريض، أو أن يقاوم معترضا صفعة وضعها حارسٌ على قفاه دفاعا عن نفسه وكرامته، أو أن يسعى سرًّا وبالحيلة لتهريب سجين إلى المستشفى قبل أن يستكمل أوراقه وإجراءاته الإدارية، أو أن يعمل في تثوير النزلاء للمطالبة بحقوقهم المكتوبة في دستور السجن! أو نحو هذا!

إنه، إذن، سجين خطير، وهو قد خرج عن القوانين وخالفها حين فكَّر في انتزاع بعض الحقوق لنفسه، ولم يلتزم بالوسائل القانونية السلمية المشروعة التي تحكم عمل السجن!

ولهذا فقد انقسم حول الرأي فيه: إدارة السجن والسجناء معًا؛ فقوم يقولون: إن الكبت يولد الانفجار ولا بد من إصلاح منظومة القوانين الحاكمة لتهدئة التوتر، ولكي يعود السجناء والحراس والإدارة يدا واحداة وشعبا واحدا، في ظل منظومة أفضل. وقومٌ يقولون: بل لا بد من الحسم والحزم إزاء أولئك المتمردين المشاكسين، فالنظام نظام! والالتزام التزام! والقوانين القائمة يجب أن تُصان وألا تُمَسَّ هيبتها، ولئن حقق هذا المتمرد المشاكس بعض مطالبه بطريق التمرد هذا فإن هذا لتشجيعٌ وتحريض لغيره على أن يتمردوا ليحققوا ما يشاؤون، فأين تذهب هيبة القانون والإدارة والسجن والحراس والرئيس؟!.. بلى، إنه لإرهابي يريد أن يبدلكم من بعد خوف أمنا، ومن بعد نظام فوضى، ومن بعد حكم القانون حكم الغابة!

وما يزال النقاش ساخنا ودائرا بين نزلاء السجن من جهة، وبين إدارة السجن من جهة، وبين الفريقين من جهة أخرى!

يتناقش السجناء: هل ما نحن فيه الآن نعمة تستحق الشكر؟ أم نحن نستحق خيرا من هذا؟ ألا تشاهدون في التلفاز والصحف كيف تبدو السجون الأخرى في هذا المُجَمَّع؟! ألا تنظرون إلى لون الزنزانة في هذا المجمع الغربي واتساعها؟ ألا ترون كيف هي المستشفى متطورة عندهم؟ ألا ترون الحارس منهم كيف يعامل النزيل باحترام وتقدير؟ ألا ترون كيف أن أوقات التريض عندهم ضعفيْ وقت التريض عندنا؟!

ويتناقش السجانون أيضا: هل يستحق هؤلاء النزلاء تحسين أوضاعهم أم أنهم كالكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فإذا حصلوا على شيء طمعوا في غيره؟! وهل يصلح عند هؤلاء الناس مثل ما يصلح في المجمع الغربي المتقدم المتطور ذي التعليم والثقافة والأموال الكثيرة؟! وهل حقا كان الكبت هو الذي أدى إلى الانفجار في موجة التمرد السابق، أم أن قلة الكبت وضعف القبضة هو الذي سمح بهذا الانفجار؟!

وبينما يسود هذا النقاش بين السجانين، وبين المساجين أيضا، إذ نبت في الناس قوم يقولون: يا أيها الناس، هل هذه أوطان أم هذه سجون وزنازين؟! وهل هؤلاء حرس يحفظوننا من أخطار الخارج أم هم سجانون لا همّ لهم إلا قهرنا وكبتنا والسيطرة علينا؟! وهل هذا الذي يحكمنا نظام وقانون لخدمتنا وتحقيق مصالحنا وتنظيم حياتنا أم أنه نظام وقانون لشرعنة وتقنين حبسنا وإذلالنا؟ وهل حقا أن منتهى طموحاتنا أن يكون السجن لدينا نظيفا ملونا متسعا مثل سجون المجمع الغربي؟! إن المجمع الغربي نفسه يعيش في سجون وتحتاج شعوبه إلى التحرير مثلما نحتاج إليها!

بدا الكلام كأنه منبعث من الخيال البعيد، فغر الجميع فاه! وحاول أن يتأمل هذا الكلام الجديد! إنه نوع جديد من "الإرهاب" فيما يبدو! وهو نوعٌ لا يستهدف شخص الرئيس مدير السجن، ولا مجموعة قوانين ضمن لائحة السجن! إنه كلام يستهدف طبيعة النظام نفسه، وبنية السجن نفسها! إنها إذن دعوة إلى الفوضى! الفوضى التي يسميها حرية وتحريرا! كيف نخرج بهؤلاء الناس من هذا "الوطن" الذي يسميه سجنا؟!.. وهل في الدنيا شيء إلا الأوطان التي يسميها: السجون؟!.. وهل يستطيع الناس أن يعيشوا بغير قانون ونظام كالذي يحكمهم داخل هذه الأوطان التي يسميها سجونا؟! وكيف يمكن للمرء أن يُعالج إن لم توجد مستشفى السجن؟ أو أن يتعلم إن لم توجد مدرسة السجن؟ وفيم يعمل إن لم يوجد محجر السجن ومصنعه ومزرعته؟!

***

إنه –عزيزي القارئ- حوار شبيه بحوار الجنينيْن في بطن أمهما، الذي ينسب للكاتب اليوناني ديمتري إفرينوس، والذي أراد به الكاتب أن يشير به إلى وجود حياة أخرى بعد الموت:

يُروى أن توأميْن في بطن أمهما دار اندلع بينهما حوار، قال أحدهما: هل تعتقد بوجود حياة بعد الولادة؟

فقال الآخر: لا يمكننا أن نتأكد فلم يعد أحد الولادة ليخبرنا، لذلك أنا لا أعتقد بوجود حياة بعد الولادة، ويكمل متهكما إذا كانت هناك حياة بعد الولادة ماذا عساها تشبه؟! كيف سنحيا خارج الرحم بهذا الحبل السري القصير؟ كيف سنمشي بهذه الأطراف الرخوة؟!! إنها خرافات لا تصدق..

-      لا أدري ولكنى أعتقد أن الأم ستساعدنا!

-      ومن أخبرك بهذا.. ليس هناك شيء اسمه أم!

-      إذا أنت لا تؤمن بوجود بالأم؟

-      أنا لا أؤمن بوجود شيء لا أراه ولا أستطيع أن أسمعه أو ألمسه ولا دليل على وجوده، إذا كانت الأم موجودة فلتظهر نفسها!

-      إن الأم تحيط بنا من كل اتجاه، نحن بداخلها، نحن أبناؤها، جائت بنا إلى الحياة كما أن الغذاء يأتينا منها، ليس بمقدورك أن تراها، لكن إن هدأت قليلا ستسمع صوتها وتشعر بها تربت على الرحم، وستشعر بحنانها يغمر قلبك ويطمئنك!

-      يالك من غبي حقا، الغذاء يأتينا من الحبل السري يا جاهل، وليس من الأم التي لا نراها ولا دليل على وجودها، كما أن الأم لم تأت بنا، نحن تَكَوَّنَّا داخل هذا الرحم عن طريق اختراق الحيوان المنوى لجدار البويضة، هذا هو التفسير العلمي لوجودنا أيها الأحمق، وليست الأم التي اخترعتها أنت! إذا كانت هذه الأم حنونة وتحبنا لهذه الدرجة، فلماذا تركتنا في هذا المكان المعتم الضيق، ستتركنا هكذا لا نستطيع الحركة بحرية حتى تنتهى حياتنا بالولادة ونحن مسجونين هكذا!.. يالك من غبي تؤمن بالخرافات!

-      لست غبيا ولكن أنا أؤمن بوجود الأم، وأن الولادة هى بداية الحياة، لأن هذا هو الاستنتاج المنطقي، فلا يعقل أن يأتينا الغذاء من العدم، لابد له من مصدر، كما أنه لا يعقل أن تأتي البويضة من العدم هكذا لابد لها من مصدر أيضا!.. وبالتأكيد إذا كانت هناك أم أتت بنا فإنها لن تتركنا بعد الولادة وسترعانا وتعتنى بنا..

-      ضاحكا: أنت غبي جاهل متخلف تؤمن بالخرافات أنا أذكى منك! ...إلخ

***

في الواقع، فإن هذا الجنين الملحد! هو أعقل من الملتبس بواقعنا هذا! فإن الجنين لم ير الدنيا، بينما أهل هذا الواقع يعلمون بأدنى استنتاج منطقي أن هذا النظام، نظام الدولة الحديثة، لم يكن يحكم حياة البشر إلا في هذه القرون الأخيرة، وعمره في بلادنا يزيد قليلا عن القرنيْن فحسب، فليس هو من ثوابت الكون ولا من حقائق الحياة!

نحن قومٌ مساجين، وأشد ما في هذا السجن من سوء، أن الناس لا يشعرون أنهم في سجن، بمن في ذلك طائفة كبيرة من شجعانهم ومصلحيهم، لقد تلوثت العقول وفسد الخيال حتى صار الشجاع المصلح يطلب إصلاحا وصورة على ذات النمط، لكن بشروط أفضل للعبودية!

نحن قومٌ مسلمون، عمرنا في هذا العالم الآن أكثر من أربعة عشر قرنا، لدينا نظام حياة سابق على هذه السجون الحديثة التي جعلت سلطة الحكم تتحكم وتمسك بكل تفاصيل الحياة وأنشطتها، فهي تراقب حتى التغريدات التي نكتبها، وتتحكم في الأموال التي بأيدينا، وتحدد لنا مناهج التعليم التي تشكل وعينا، وتسيطر على نوافذ الثقافة والإعلام التي نبصر بها الحياة، وتطلب منا أن ننتمي إليها ونواليها ونخلص لها ونضحي بدمائنا في سبيلها، أي أنها تطلب منا على الحقيقة أن نعبدها! فقانونها شريعة، وعلمها الوطني راية، ودستورها قرآن، والموت عند حدودها ومن أجل ترابها شهادة! وكل ما هو تحت حدودها خاضع لها ولها السيادة عليه، لا تُسأل عما تفعل ونحن نُسأل حتى عما لم نفعل!!

ها هم أهل الزنازين والسجون يرون أن زنازينهم تحجزهم وتمنعهم عن نصرة إخوانهم المذبوحين في غزة وفي لبنان ومن قبلها في الشام والعراق وأفغانستان والبوسنة وكوسوفا، ومن استطاع التسلل منهم إلى تلك الأنحاء ليجاهد فيها قد صار إرهابيا مطلوبا للعدالة!! تأمل.. للعدالة!!

الأمة لم تخذل غزة ولا غيرها.. الأمة محبوسة عاجزة عن نصرة غزة وعن نصرة غيرها..

ولكن الخذلان الحقيقي، هو البقاء في حالة الضعف هذه، بل في حالة الاستسلام هذه لأنظمة قد ثبتت خياناتها وعمالتها وتواطؤها مع العدو وولاؤها له.. هذا هو الذي يجعل الضعف خذلانا، فننتقل من الأمر الذي نحن معذورين فيه شرعا، إلى الحال الذي نحن فيه آثمون!

إن نظامنا الإسلامي الذي ساد قرونا في هذه الدنيا، غلَّ يد السلطة أن تتغول وتتمدد وتهيمن على سائر أنشطة المجتمع، وهو أيضا النظام الذي أسس لاستقلال الأمة بأموالها ومواردها، وحثها على أن تقاوم أي تغول على شأنها وأمرها! ومن قرأ شيئا يسيرا في أبواب كثيرة من كتب الفقه والتاريخ عرف بوضوح أننا الآن في وضع احتلال هو أسوأ من كل احتلال ابتلينا به؛ إنما هو احتلال مغلف بقشرة وطنية ومطليٌّ بطلاءٍ إسلامي، ولكنه أفتك من كل احتلال أجنبي.. طالع مثلا أبواب: الأوقاف، وإحياء الأرض، ومصارف المال، وزكاة الركاز والمعادن، والضرائب والمكوس، الاحتكار، التسعير، والظفر بالحق، تغيير المنكر، والحسبة على السلطان... إلخ!

من قرأ شيئا من الشريعة علم أنها تصنع مجتمعا قويا أمام سلطة محدودة الصلاحيات، وتُمَكِّن الأمة من مواردها المالية ومواردها البشرية، وما السلطة فيها إلا حالة تنظيم حارسة لا حالة سيطرة متوغلة ومهيمنة، وأنها تتولى الملفات العامة الكبرى كالأمن والدفاع وما يتعلق بهما!

أما الآن، فقد أنشأ الاحتلال الغربي في بلادنا دُوَلًا على نمط دوله، زنازين جديدة، وضع عليها أسوأ أنواع عملائه، يحكموننا بقوانينه ومزاجه، ويُمَكِّنونه من أموالنا ومواردنا وعقولنا بل ومن أجسادنا كذلك!

الخذلان حقا أن نبقى مرتاحين في هذا السجن! وألا نعمل على تحطيمه والتحرر منه!

نشر في مجلة أنصار النبي، أكتوبر 2024م