جاء نبينا ﷺ بكثير من المعجزات الحسية
والمادية، ومع ذلك ظلت معجزته الكبرى والخالدة هي هذا الكتاب: القرآن الكريم..
ومع أن هذا الموضوع طالما كُتِب فيه،
إلا أنه بدا لي أمورٌ فيه لم أرها فيما قرأتُ، وإن كنت موقناً أني مسبوقٌ إليها،
لكني لجهلي وقلة بضاعتي لم أقع عليها، أو لعلي قرأت ونسيت فبقيت المعاني في نفسي
وذهب عني موردها.
لقد تعددت وجوه إعجاز القرآن الكريم،
أي: تعددت الطرق التي يثبت بها أن هذا القرآن هو كلمة الله!
ومن وجوه الإعجاز تعامل النبي ﷺ نفسه
مع القرآن، وتعامل القرآن مع النبي ﷺ، أقصد بذلك هذا الأمر النفسي والنزعة النفسية
والطبع الإنساني، فإن التأمل في هذا يقطع بأن القرآن كلام الله، وليس كلاماً من
عند محمد.. ترى هل يمكن أن يقال عن ذلك "إعجاز نفسي؟!".. الله أعلم!
وليس من مقصدي ابتكار الاصطلاحات.. ولكن النظر يحمل على سؤال علماء النفس والخبراء
بالطبائع عن الأمر من هذا الباب.. الباب النفسي!
إن وقفة واحدة، من منظور النفس
وطبائعها، مع آيات القرآن تقطع بأن محمداً لا يمكن أن يكون قد أَلَّف القرآن أو
جاء به من عند نفسه، ليؤيد بذلك دعواه (الكاذبة) في أنه نبي من عند الله..
وبداية السؤال تقول: إن هذا الذي يزعم
أنه نبيٌّ، لماذا يفعل ذلك؟
إنه ليس أحد زعم لنفسه النبوة إلا وقد
ابتغى بذلك أن يكون زعيماً وقائداً وسيداً في قومه، وهذا الرجل الذي يريد ذلك إنما
يندفع إليه تحت ضغط نزعة نفسه المترعة بالتعاظم والعجب واستحقاقه الرئاسة.
(1)
مثل هذه النفس حين تزعم لنفسها النبوة
فإنها تُقَرِّب ما بينها وبين الإله، لتأخذ من قداسة الإله ما يرفعها فوق البشر، وتمنح
لنفسها من العصمة ما لا يزعمه لنفسه البشر.. فأما محمد ﷺ فعلى العكس من ذلك..
فمع أن القرآن والسنة كلامٌ نطق به
النبي ﷺ في قومه، إلا أنه كان حريصاً وواضحاً في التفريق بينهما، وأن الكلام الأول
هو كلام الله بلفظه ومعناه، وأنه يتحداهم به، ويكرر عليهم التحدي أن يأتوا بكلام
مثله.. وأما الكلام الثاني فهو ألفاظه هو -وإن كانت معانيه وحياً- وهذا قسم هو لا
يتحداهم به، ولا يستغرب عليهم إذا أتوْا بمثله!
ولا يقع الشك عند من له أدنى معرفة
باللغة العربية أن الأسلوبين مختلفان، والفارق بينهما واضح! كذلك لم يقع الشك لدى
من حاولوا حفظ القرآن والسنة في أن حفظ القرآن أسهل كثيراً كثيراً من حفظ الحديث!
فلئن كان محمدٌ ﷺ يطيق أن يأتي بالكلام
الأبلغ، والأيسر في الحفظ والتذكر، وإذا كان محمد ﷺ يطيق أن يصدر عنه أسلوبان
مختلفان في الكلام والبيان.. فلماذا لم يجعل كل كلامه قرآناً ينسبه إلى الله
ويتحداهم به؟!
لماذا قبل أن يجعل كلامه الأبلغ المعجز
كلاماً لله، وجعل كلامه هو في الدرجة الأدنى، حيث لا يتحداهم به، ولا يستغرب عليهم
أن يأتوا بمثله؟!
لقد ظل القرآن يكرر من الألفاظ
والمعاني ما يُثَبِّت به منزلة محمد ﷺ:
1.
فهو بشر لم يجاوز هذه المرتبة: ﴿قُلْ
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [الكهف: 110]
2.
وهو يتلقى الوحي ولا يخترعه: ﴿أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الكهف: 110]، ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا
الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]
3.
وهو لا يملك تبديل شيء فيه ولا تغييره:
﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ
بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ
أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: 15]
4.
ومثله في هذا مثل الأنبياء السابقين: ﴿قُلْ
مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 9]
5.
وأنه لا يعلم الغيب: ﴿وَمَا أَدْرِي
مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: 9]، ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 20]
6.
وأنه كان في غفلة عن هذا كله طوال عمره
السابق: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ
بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس:
16]
7.
وأنه لا يملك إعطاء الثواب، ولا يملك
كذلك إنزال العقاب. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ
وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ
يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 46، 47]، وكذلك ﴿لَا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي
مَلَكٌ﴾ [الأنعام: 50]
8.
ولا يملك حتى إجراء المعجزات التي تجري
على يده ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ
لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ
أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 109]، ﴿وَقَالُوا لَوْلَا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ
وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [العنكبوت: 50].
9.
ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا: ﴿قُلْ
لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ
كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ﴾ [الأعراف: 188].
10.
وهو نفسه مُخاطب بهذا الوحي ويخاف إذا
عصى ربه أن ينزل به العذاب: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
[البقرة: 120]، ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾ [الرعد: 37].
(2)
كذلك، فمثل هذه النفس الممتلئة بحب
الزعامة والصدارة والرئاسة، والتي تتصدر لدعوى النبوة، لا تقبل أن تسجل على نفسها
خطاباً لأتباعه فيه ما حفل به القرآن الكريم.. لقد جاء في القرآن أنواع من الخطاب
للنبي ﷺ لا يمكن معها الشكُّ في أن هذا من كلام النبي نفسه!
1.
فقد جاء في القرآن العتاب للنبي ﷺ: ﴿عَفَا
اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ [التحريم:
1]، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس: 1 - 3].
2.
وجاء فيه التخطئة له ﴿مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ
عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال: 67]، ﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ
خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 105 - 107].
3.
وجاء فيه الامتنان عليه بتعليمه ما كان
يجهله، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
عَظِيمًا﴾ [النساء: 113]، ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ
مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ﴾ [هود: 49].. وجاء فيه الامتنان
عليه بتنبيهه إلى ما كان في غفلة عنه ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ
بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3].
4.
وجاء فيه نسخ وإزالة أمور كان قد فعلها
النبي بنفسه، فنزل في التبني: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5]، ونزل في المؤاخاة والتوارث بها ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75].
5.
وجاء فيه الكشف عما يكتمه ويستحيي منه:
﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37]، ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ
فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب: 53].
6.
وجاء فيه الأمر الشديد له، والنهي
الشديد كذلك ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا﴾
[هود: 112]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: 1]، ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ﴾ [آل عمران: 60]، ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾
[السجدة: 23]، ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 108]، ﴿وَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ﴾ [يونس: 95].
7.
وجاء فيه القطع والجزم بأن الأمر ليس
على ما يهوى، ففي أشد لحظة مرت عليه حيث أصابه قومه وأدموه، قال: "كيف يفلح
قوم شجوا وجه نبيهم؟"، فنزل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾
[آل عمران: 128]. ويوم رأى عمه الحبيب ممثلا بجثمانه فأقسم على الثأر له بسبعين
نزل قول الله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾
[النحل: 126]
8.
بل وجاء فيه الوعيد له: ﴿وَلَوْلَا
أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا
لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ
عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 74، 75]، وكذلك ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا
مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة:
44 - 47]
9.
وانقطع عنه في مرات احتاج إليه فيها، حتى
عرف ذلك المشركون يوما فقالوا: إن ربَّ محمد قد قلاه، فنزل القرآن بسورة الضحى ﴿مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ [الضحى: 3]. وانقطع كذلك عندما اتهم المنافقون أم
المؤمنين عائشة في حادث الإفك، وهذا أخطر موقف يتعرض له رجل زعيم في قومه، وانقطع
فيه الوحي شهرًا، فلو كان ﷺ يكذب في موقف واحد في حياته لاصطنع قرآناً في هذا
الموقف! وحاشاه ﷺ!
10.
وتحدث القرآن عن زوجات النبي ﷺ حديثاً
طويلاً، ما كان للعربي في ذلك الوقت مع شدة الغيرة العربية، ثم ما كان لنفسية
الزعيم المتطلع للسيادة والرئاسة أن تقبله فضلاً عن أن تخترعه وتؤلفه: ﴿يَانِسَاءَ
النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا
الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: 30]، ﴿يَانِسَاءَ
النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا
تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا
مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: 32، 33]، ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى
بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ
مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم: 3].
(3)
وتكاد كل صفحة في المصحف يُستخرج منها
شيء كهذا في خطاب الله لنبيه، يثبت به أن هذا الكلام ما كان ليكون أبداً، كلام رجل
كتبه بنفسه، ليؤيد به دعواه في النبوة!
ومن الآيات ما لا يوضع تحت عنوان مما
سبق، لكن التأمل فيها يقطع أنها لا يمكن أن تصدر عن رجل يكذب، إذ هي خطاب لا يؤلفه
أحد يخاطب به نفسه، فمنها:
﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ
لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾
[يونس: 94].. فما من كاذب يزعم لنفسه النبوة والوحي، يلقي على نفسه هذه الشبهة، أو
يضع نفسه تحت هذا الاحتمال!
ومنها: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ
الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا
هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 106، 107].. فما
من كاذب يزعم لنفسه النبوة يوجّه إلى نفسه هذا الكلام!
ومنها: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ
الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ [يوسف: 110]..
فما من كاذب يزعم لنفسه النبوة، يريد بذلك السيادة، يصوِّر نفسه في هذه اللحظة من
الضعف والوصول إلى حافة اليأس!
وثمة أمور أخرى تدخل أيضاً في هذا
الباب، ولكن نتركها لمن يتوسع فيها.. مثل: لئن كان محمد ﷺ زعم النبوة لنفسه رغبة
في السيادة والزعامة، فلماذا اهتم بالطبقات والفئات التي لا يرجى منها كثير نفع في
هذا المشروع الطموح، بينما تثير قضاياها مزيداً من المشكلات؟!
لماذا كل هذا الكلام عن النساء وحقوقهن
في الميراث والمهور والزواج والطلاق، في مجتمع قد استقر فيه الأمر على امتهان
المرأة.. إن إثارة هذا الموضوع، ووضع هذه الأحكام لا يأتي إلا بالصعوبات والعراقيل
في مشروع الزعامة والسيادة المأمول!
وذات هذا الكلام يقال عن فئة العبيد
والموالي، فإنهم في ذلك المجتمع لم يكونوا ركناً يلجأ إليه في حال الضعف، أو قوة
يستعان بها في حال الاستعانة! وما تأتي إثارة موضوعهم ولا إعطائهم حقوقهم ولا الحث
على تحريرهم إلا بالمزيد من النافرين!
بل أشد من هذا الكلام يقال عن تعاليم
النبي في معاملة الحيوان والنبات.. إن الثروة الهائلة في نصوص النبي للرفق
بالحيوان ورعاية النبات لا محل لها من الإعراب إن كان النبي رجلاً زعم لنفسه
النبوة لكي يتوصل بذلك إلى السيادة والزعامة والرئاسة!
وكذلك لهجة التحدي التي تحداها النبي
لبني إسرائيل، وهم أهل علم وكتاب وفيهم بقية آثار النبوات السابقة، فمثلما تحدى
العرب أهل الفصاحة بأنهم عاجزين عن مشابهة القرآن، فقد تحدى أهل الكتاب بأنه يكشف
لهم ما يخبؤونه من الأحكام أو من قصصهم مع أنبيائهم، أو قصص عقوباتهم كالذين سخط
الله عليهم فجعلهم قردة وخنازير.. إلخ!
إن لهجة التحدي الحافلة التي ينطق بها
القرآن، والتي تحرج الخصم إحراجا هائلا، وتضربه في أعمق ما يتميز به.. تلك اللهجة
هي مخاطرة لا يقدم عليها كاذب يزعم لنفسه غير الحقيقة!!
فهل يبقى بعد ذلك شكٌّ في أن النبي ﷺ
هو رجل الصدق، وأن القرآن هو كلام الله حقا؟! وأنه المعجزة الخالدة!