تلك الرحلة
السماوية العجيبة، لا يحرمنا طول النظر إليها من عوائد وفوائد، وهذه أربع شذرات
خطرت لي من قراءة حديث الصحيحين عن الإسراء والمعراج، لم أر من ذكرها، وأحسب أنها
تستحق التوقف.
(1) رحلة التهيئة للدولة
من أشدّ المواقف التي يرى المرء فيها
كم تعب النبي ﷺ موقفه حين عاد من الطائف، وهو يقول عن نفسه "فانطلقتُ وأنا
مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب"[1]،
والمسافة بين الطائف وبين قرن الثعالب 48 كم، أي أن النبي ظل ماشيا لثماني ساعات
وهو لا يشعر بنفسه من شدة الهمّ والكرب الذي هو فيه!
ثم إنه ﷺ لم يدخل مكة إلا في جوار
المطعم بن عدي كما هو معروف، وهذا دليلٌ على شدة الضعف الذي صار فيه، من بعد وفاة
عمه أبي طالب، وقد كان يحوطه ويمنعه.
لهذا اشتهر بين العلماء والناس أن رحلة
الإسرائ والمعراج كانت تسلية للنبي ﷺ عما رآه من أهل الأرض من الأذى، فرأى في هذه
الرحلة ما أعدّ الله له من الكرامة والنعيم في أهل السماء، فما كان يمرُّ بنبيٍّ
إلا ورحب به واستبشر وسلَّم عليه: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح!
ولكن بعض الأمور تدفعنا إلى التأمل من
جديد في غاية هذه الرحلة وحكمتها:
فإنه يقع بالنفس أن لو كان الغرض مجرد
التسلية والتكريم، لكان الأنسب لذلك أن تكون رحلة معراج من مكة إلى السماء، فما
معنى حضور بيت المقدس في وسط الرحلة؟
كذلك فلو كان الأمر لغرض التسلية
والتكريم فحسب لكان الأنسب ألا تُفْرَض فيها عبادة جديدة على النبي ﷺ وأمته، ذلك أنها
رحلة تسلية وتكريم! فكيف إن كانت هذه العبادة ثقيلة: خمسين صلاة!
ثم حديث سيدنا موسى عليه السلام مع
نبينا ﷺ، وطلبه أن يراجع ربه في عدد الصلوات، حتى استقر الأمر على خمس صلوات من
بعد ما كانت خمسين، وقوله في ذلك: "أمتك لا تطيق ذلك، وإني والله قد جرَّبت
الناس قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشدّ المعالجة".. فإن موسى هنا لا يتكلم عن
الأذى الذي وجده من فرعون وقومه، وإنما عن العنت والشدة التي لقيها من أتباعه بني
إسرائيل!
فضلا عن موعد الرحلة نفسه، إذ سبق
الإسراء والمعراج حادث الهجرة بشهور أو سنة وبضعة اشهر!
هذا كله يأخذ بأنظارنا إلى غرض آخر
أصيل من هذه الرحلة، وهو أنها، فوق ما فيه من التسلية والتكريم، كانت تهيئة
وإعدادا للنبي ﷺ إلى مرحلة الدولة والحكم وقيادة الناس وسياسة الأتباع، هذا الذي
يفسره أن الرحلة سبقت الهجرة بقليل، ويفسره أن تُفرض فيها عبادة الصلوات الخمس على
الأمة، ويفسره حرص موسى على وضع خلاصة تجربته أمام نبينا: "جربت الناس
قبلك"، فتأمل هنا أنه تحدث عن تجربته في قيادة الأتباع لا في مواجهة الكافرين!!
ويزيد في الدلالة على ذلك أمورٌ أخرى:
فإن النبي ﷺ عُرض عليه في هذه الرحلة إناء
خمر وإناء لبن وإناء عسل، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: "هي الفطرة، أنت عليها
وأمتك".. فقوله "أمتك" في هذا المقام يلفت أنظارنا إلى أن الرحلة
كانت فوق التسلية والتكريم للنبي في نفسه، وإلا لاقتصر على قوله "هي الفطرة،
أنت عليها"، فأما ذِكرُ الأمة هنا فأمر يتعلق بالأمة التي سيبعثها ويُنشئها
هذا النبي بعد قليل.
كذلك فإن النبي وقع له شقّ الصدر وهو
صغير في بني سعد، وفيها أن جبريل "استخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا
حظ الشيطان منك". ثم وقع له شق الصدر مرة أخرى قبيل الإسراء والمعراج، وهو قد
جاوز الخمسين من عمره، ووصف النبي هذا الشق الثاني بقوله: "فاستُخْرِج قلبي،
فغُسِلَ ماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حُشِيَ إيمانا وحكمة".
إن التأمل في هذين الحدثين يلفت نظرنا
إلى أن الشق الأول كان لغرض أن يهيئ النبي ﷺ لتلقي الوحي والرسالة ولأن يكون داعية
صالحًا في نفسه، ليس للشيطان عليه سبيل. وأما الشق الثاني، فقد امتلأ به النبي
إيمانا وحكمة، وهذه الحكمة أنسب لقيادة الأتباع وسياسة الرعية ومعالجة شأن الناس!!
إن الحكم والسلطان والرئاسة هي منتهى
الذائذ والغرائز، أو بعبارة ابن خلدون: "إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على
جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنيّة والملاذ النّفسانية"[2]،
وفي ذلك قيل: "آخر ما يخرج من قلوب الصالحين: حب الرئاسة"، وأشد شئ
يحتاج إليه من كان حاكما أن يمتليء إيمانا يعصمه من شهوات المنصب، وأن يمتلئ حكمة
تعينه على القيام بواجبات هذا المنصب وتكاليفه.
(2) أمة الفطرة
قال رسول الله ﷺ: "ثم أُتيت بإناء
من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذتُ اللبن، فقال: هي الفطرة أنت عليها
وأمتك".
لعل زماننا هذا هو أشدُّ ما نرى فيه
مصداق هذه العبارة، هذه الأمة الإسلامية تقف وحيدة أمام موجة انتكاس الفطرة، لقد
صارت ممارسة قوم لوط في زماننا الآن من حقوق الإنسان، بل صار الذي يرفضها مصابا
برهاب المثلية وينطوي على مشاعر الكراهية ويحتاج إلى عقاب قانوني!!
حتى المسيحية واليهودية، هُزِمتا أمام
هذه الموجة، فقد شرعنت كثير من الكنائس الغربية زواج هؤلاء، وصار القس يباركهما في
قلب كنيسته!! وحتى هذه الدولة اليهودية التي قامت على دعاوى دينية بحتة يتولى الآن
رئاسة برلمانها رجل شاذ، متزوج من رجل مثله!!
ونحن الآن في مرحلة جديدة؛ فقد صار من
حقوق الإنسان أن يجعل نفسه كلبا أو خنزيرا أو أفعى، وقد أقيمت لهذا مراكز وأندية
يتدرب فيها هؤلاء كيف يرتدون ويتصرفون كالكلاب والخنازير!
ثم نحن على أبواب مرحلة أخرى يجري فيها
الترويج الحثيث لانتهاك الأطفال الصغار، وجعل الزنا أو اللواط بهم من الأمور
المقبولة بل من الحقوق الطبيعية طالما هو يجري بالتراضي!!
ومنذ زمن بعيد، صار التعرّي حقا من
حقوق المرأة، وصارت الصداقة بين المرأة والرجل أمرًا طبيعيا ومقبولا، وقد جرَّ هذا
إلى أمور شنيعة مثل المساكنة، حيث يعاشر الرجل المرأة حتى ينجب منها أطفالا ثم
يكبرون، دون أن يتزوجها.. وقد رأيت قبل أسابيع مقطع فيديو لشاب يسأل بعض الفتيات
في الغرب: هل تقبلين من حبيبك إذا قال لك إنه لن يمارس الجنس إلا بعد الزواج؟
فكانت أغلب الإجابات: لا أقبل!!
هذا الطوفان من انتكاسة الفطرة، لم يبق
صامدًا له حتى الآن سوى هذه الأمة، سواءٌ أكان ذلك في مجتمعها العلمي الذي لم يفرط
في حدود الحلال والحرام، أو في مجتمعها البشري الذي لا يزال يرفض الزنا والمساكنة
وعمل قوم لوط، فضلا عن حق التصرف كالكلاب والخنازير!!
فالحمد لله، نحن أمة الفطرة..
(3) التحقيقات الأمنية
"فكربْتُ كربًا ما كربتُ مثلَه
قطُّ"
هكذا وصف النبيُّ حاله حين أخبر قريشا
بنبأ الإسراء والمعراج، وإذا بهم يقلبون الأمر تحقيقًا، كما هي نوعيات التحقيق في
الأجهزة الأمنية، صاروا يسألونه عن تفاصيل في المسجد الأقصى لم يكن ﷺ مشغولا بها
ولا مهتما بتثبتها، لقد خرج في ليلة على البراق إلى المسجد الأقصى ثم إلى السماء
ثم نزل إلى الأقصى وصلى بالأنبياء.. تلك المشاهد الكبرى الخارقة تصرف النظر والقلب
عن التفتيش في تفاصيل المكان!
ثم أتمّ الله عليه المعجزة، فرفع إليه
صورة الأقصى، فصار يراه، وصاروا لا يسألونه عن شيء إلا أجابهم عنه.
هنا يتكرر المشهد الدائم، القديم
الجديد المستمر، مشهد الداعية صاحب الرسالة وهو مكروب.. مكروب يريد لقومه
الهداية.. ومكروب يريد أن يخبرهم بالمعجزة الشاهدة والدليل العظيم.. ومكروب حين لا
يصدقونه فيقلبون اللحظة إلى تحقيق سخيف وسؤال عن التفاصيل الصغيرة التافهة.. (وهم
الذين لَقَّبوه بالصادق الأمين من قبل)!
ثم ينفكّ الكربُ، ويثبت الصدق، ويظهر
الدليل..
ثم لا يؤمنون..
أحاول أن أتخيل أحيانا، كم ضابطا في
أجهزة الأمن رأى من الدلائل ما يحمله على الإيمان والتوبة.. ولم يفعل!
كم مرة رأى بريئا، وثبتت لديه براءته،
ثم استمر في تعذيبه وسجنه واضطهاده؟!
ولكن.. كيف يبلغ الكرب بذلك المُعَذَّب
المُضَّطَهد الذي لا يستطيع أن يثبت ما ينجيه من العذاب؟!.. إن التحقيقات الأمنية
تسأل عن تفاصيل التفاصيل التي لا يهتم أحدٌ في العادة بالتفكير فيها أو الالتفات
إليها!
فتأمّل كيف يجتمع الكرب الشديد، مع
الجحود الشديد في الموقف الواحد؟!
لكن.. هل هذا الأمر خاصٌّ بأجهزة الأمن
والمجرمون فيها؟!
لا، أبدا.. إنه يمتد إلى الموظف الصغير
الذي يستطيع عرقلة مصالح الناس وإيقاف أرزاقهم وقلب حياتهم جحيما، مهما وقر في
ضميره أن الواقف أمامه محتاج إليه!
بل يمتد إلى عالم النقاشات الفكرية.. مواقع
التواصل الاجتماعي تكشف عن بعض أولئك، عن هذا الذي يتمحك في تفاصيل التفاصيل،
ويطلب تلال الأدلة والبراهين، حتى إذا جاءت إليه لم يتغير موقفه أيضا!!
لئن كنتَ قد مررتَ في حياتك بشيء من
هذا، فستعلم كم هو الكرب الذي لقيه حبيبك رسول الله ﷺ.
فتأمل في رجل شهد الملكوت واحتفت به
الملائكة وفتحت له السموات وصلى إماما بالأنبياء.. ثم إذا هو بعد ساعة أمام مجلس
التحقيق القرشي الذي يسأله عن البناء والجدار، ويستقبله بالسخرية والاستهزاء.. بل
إن بعض من أسلموا لما سمعوا بهذا ارتدوا عن الدين!!
وتأمل في الرجل الذي أقام دولة، ووحَّد
أمة، وخاض المعارك والمشاهد، واضطر إلى الهجرة وعانى من النفاق.. تأمل فيه كيف
يتذكر مشهدَ هذا التحقيق القرشي ليقول فيه "كربت كربا ما كربت مثله
قطّ"!!!
كل كربٍ دون كربك هيِّن يا رسول الله!
(4) عصر الهزيمة
إن الهزيمة خطيرة جدا في التأثير على
عقول الناس وأحكامهم، حتى قيل عن حق:
يُقضى على المرء في أيام محنته .. حتى
يرى حَسَنًا ما ليس بالحسن
من دلائل هذه الخطورة وأمثلتها
البليغة، ذلك المسلم الذي تشكك في الإسراء والمعراج، ولا أقصد بهذا الآن سفلة
الإعلاميين المعاصرين، فهؤلاء أدنى وأضأل وأحقر من أن يكون لهم شأن نتكلف النقاش
فيه، وإنما أقصد بعض أولئك الكاتبين والمؤلفين ممن كان يشار إليهم بالبنان، لا
سيما في النصف الأول من القرن العشرين.
في ذلك الوقت أثير كثير من النقاش
والتشكيك في الإسراء والمعراج، ومال العديد من هؤلاء إلى أن يكون الإسراء والمعراج
قد حصل على طريقة الرؤى المنامية، فهو بالروح لا بالجسد، وهو في النوم لا في
اليقظة، يدفعهم إلى هذا سطوة الإيمان بالعلم، وما أدراك عزيزي القارئ بسطوة العلم
في ذلك الوقت؟! لقد كانت فتنة أي فتنة، ومحنة أي محنة!
كان الغرب يبدو أشد بريقا ولمعانا مما
هو اليوم، وكان العلم هو دينه وشعاره ودثاره، فظن المهزومون الواقعون تحت الاحتلال
أن الحياة كلها علمٌ ماديٌّ تجريبي محسوس، يُلمس بالأيادي ويُحسب بالعقول! وكانت
الهجمة على الإسلام وعلمائه وتراثه، أولئك الذين تعلقوا بالخرافة والكرامات وأخبار
الأولياء، وتلك الأمور التي أوصلتنا –في ظنهم- إلى الهزيمة والذل أمام هذا الغرب
المتفوق!
ما من شك في أنهم استندوا إلى بعض
الحق، فكثرة مظاهر الخرافة والتعلق بالكرامات كانت حاضرة موجودة، ولكن ما من شك
كذلك في أنهم قد استولت عليهم هذه النظرة بأثر الهزيمة وتقليد الغالب.
هذا الإسراء والمعراج، لم يكن المسلم
يشكّ فيه، ولم تكن مسألة الروح والجسد تثير جدلا محموما وتبعث تعصبا ونكيرا بين
الناس، فإن كان لها أن تثير هذا فيجب أن يكون ذلك في عصور الماضي، وأما في العصور
التي اكتشفت فيها وسائل الطيران والبرق والهاتف والصاروخ وغزو الفضاء، وأجريت فيها
عمليات القلب المفتوح، فيجب أن يكون الناس في هذه العصور أكثر تقبلا وتعقلا لمعجزة
الإسراء والمعراج، ولمعجزة شق الصدر!
هذا هو منطق العقل، لكن منطق الهزيمة
مختلف!
منطق الهزيمة يحملك على الشك وضعف
الثقة في كل تراثك وما أنت عليه، ويحملك على قبول سائر ما يأتي من الغالب المتفوق
مهما كان غريبا عجيبا!
منطق الهزيمة يحملك على تكذيب البخاري
ومسلم والطعن في الأئمة والصحابة وإنكار المعجزات لأنها فوق العقل، ولكنه يحملك
على القبول ببعض الصور التي تنشرها ناسا ووكالات الأنباء لتصيح في انبهار: ما أعظم
العلم والتقدم العلمي!!
المهزوم أعشى ضعيف البصر، لا يرى ولا
ينظر إلا بعين الهزيمة! وهذا هو أشد الخطر!
نشر في مجلة أنصار النبي، فبراير 2023