اللهم اجعل كلامى وكتابتى خالصة لوجهك الكريم، اللهم لا تجعل لأحد سواك فيها نصيبا، اللهم طهرها من الرياء والعجب، والغرور والكبر، والعناد والانتصار للنفس، وحب الشهرة وحب المدح.. اللهم إن كان فيها الخير فيسرنى لها ويسر نشرها وقراءتها، وإن كان فيها الشر فأبعدنى عنها وعسرها لى واكتب لها الموت والفناء.. إنك نعم المولى ونعم النصير.
الخميس، أغسطس 26، 2021
الاثنين، أغسطس 23، 2021
درس طالبان: هل يكون الجمود حلا؟!
يختلف الباحثون حول التوقيت الدقيق الذي تدخلت فيه أمريكا فمدَّت يد المساعدة للمجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفيتي.
لكن المؤكد أن هذه المساعدة لم تكن منذ البداية بل كانت بعدما تفاجأ العالم أن الإمبراطورية السوفيتية تتعثر في أفغانستان!! كان هذا مدهشا، ومن هنا فكّرت الأطراف السياسية في أن الدخول على خط هذه الحرب قد يسهم في هزيمة السوفيت.
لولا الصمود المرير والسنوات الطويلة التي صبرها الأفغان وحدهم، ما فكّر أحد في أن يراهن عليهم.
وهذه المساعدة الأمريكية تعرضت للفساد والسمسرة في أروقة الأنظمة المصرية والخليجية والباكستانية، وكانت لها قصة مريرة وحدها..
ومع هذا ترى كثيرا من المسلمين يُرجع السبب في نصر الأفغان وهزيمة الروس إلى الأمريكان وحدهم، كأنما لم يكن ثمة أفغان يحاربون ويصبرون ويلعقون الجراح ويكتمون الألم كالجبال!
وهؤلاء الناس تفاجؤوا أكثر فأكثر من النصر الحالي الذي حققته طالبان، فلئن صح أن لصواريخ ستنجر بعض النصيب في هزيمة السوفيت، فإن العالم الآن ليس فيه منافس لأمريكا وليس فيه مناصر لعدوها!!
لقد كان النصر أفغانيا خالصا.. وربما يصح القول "كان طالبانيا" خالصا، فإن قسما من الفصائل الأفغانية شاركت المحتل في جرائمه، وشكلت الحكومة العميلة التي وضعها فكان لها غطاء وسندا، وكانت له أداة وطليعة في قهر شعبها.
ولا يزال المرء يرى في كتابات هؤلاء وأقوالهم ما يعبر عن حيرتهم ومحنتهم.. لقد بلغت الهزيمة النفسية حدًّا لا يصدق فيها الواحد منهم أن المستضعف قد ينتصر.. كأنما لم يقرأ يوما قوله تعالى "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين".
كان بعض المشايخ والأصحاب في مصر، من الأزهريين يقولون: "سر قوة الأزهر في جموده".. ويستخدمون هذا اللفظ "الجمود" عامدين، يقصدون بذلك أن الضعف والهزيمة يبدأ من التشكك في التراث وفقدان الثقة فيه، وقلما جاء متشكك بنصر!
وفي كلامهم هذا وجاهة، ولولا أن المقام هنا ليس مقام تفصيل فيه، لرأيتني أجادل عن هذا الرأي حتى كأنني أتبناه.. ولكن المقصود هنا أن نموذج طالبان يمثل دليلا لصحة هذه المقولة.
طالبان -التي يحاول الجميع التأكيد على أنها تغيرت- يظهر لنا تباعا أن قياداتها لهم مؤلفات دينية في الفقه والأصول، يبدو من عناوين هذه الكتب وطبيعتها أنها من تلك التي تُوصَف بأنها "جامدة"..
أي أن القوم لا زالوا يشربون من المعين القديم! المعين الذي لم تكدره الحداثة! الحداثة التي دخلت على أفكار الإسلاميين العرب فأصابت منهم شطرا عظيما، حتى صار بعضهم الآن يعبد الدولة من دون الله! ويجاهد في سبيل الديمقراطية لا في سبيل الشريعة!
وبعض المقاطع المرئية التي خرجت عن بعض عناصر طالبان وقياداتهم الوسيطة تكشف عن هذا.. سُئل أحدهم هل ستسمحون بانتخابات سياسية تترشح فيها المرأة لرئاسة الجمهورية.. فلم يملك نفسه من الضحك وأوقف التسجيل!!
موقف يخبرك عن أن الرجل يحتفظ بالعزة الأولى والأفكار الأولى، حتى إن السؤال الحداثي يثير ضحكه!!
هذا السؤال الحداثي في عالمنا العربي أنتج الإسلاميون فيه تلالا من الكتب والأبحاث والدراسات، وسالت فيها بحار ومحيطات من التصريحات والحوارات، ووقف فيه الإسلاميون في قفص المحاكمة الفكرية ولطالما هتفوا أنهم يوافقون على هذا باعتباره من حقوق المرأة، بل باعتباره من دلائل انفتاحهم.
لست هنا بوارد المناقشة الفكرية للرأي الفقهي.. إنما أتحدث عن فارق النفسية التي يصدر عنها الطرفان!!
يخبرني أحد الأصدقاء أن متحدثا آخر لطالبان سُئل: ما رأيكم في الديمقراطية؟ فقال ببساطة: ما معنى الديمقراطية؟ فقالت له المذيعة: معناه أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. فقال بنفس البساطة: نحن أصلا نريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه!!
يبدو المشهد عبثيا، وكأنه حوار طرشان.. لا يفهم المسؤول حقيقة سؤال السائل.. وهذا عين ما أعنيه من أن القوم لم يتلطخوا بالحداثة بعد.. ولو صحَّ أن الرجل يفهم حقيقة السؤال واختار أن يجيب بهذه الإجابات فهو عندي أعزّ منه إن كان لم يفهم، فهو إذ ذاك يركل الأسس الحداثية للفسلفة السياسية دون أن تطرف له عين!!
بينما مثل هذا السؤال قد أجيب عنه بما لا يُحصى في عالمنا العربي.. ومع ذلك لم يغفر النظام الدولي لأحد ممن أثبتوا انفتاحهم على أفكاره بل وأثبتوا قدرتهم على تطويع الإسلام لها!
إن الانقلاب على الغنوشي في نفس الوقت الذي تنتصر فيه طالبان هو حكمة ربانية عظيمة غامرة.. إن المقارنة تفرض نفسها فرضا على كل متابع في هذه اللحظة!
ما أحسب العالم الإسلامي يمكن أن يخرج رجلا أكثر تنازلا من الغنوشي.. أصلا نحن إذا سألنا ماذا كان بوسع الغنوشي أن يفعل أكثر مما فعل ليرضوا عنه، لما عرفنا الجواب.
تثبت طالبان أن ممارسة التفاوض والسياسة والحرب لا تستلزم أبدا تقديم تنازلات فكرية أو شرعية.. ربما يمكن تقديم تنازلات سياسية لتحقيق مصلحة أعلى أو درء مفسدة أشد.. وهذا التنازل نفسه إنما يوزن بحقائق الأمور وموازين القوى.. هذه الحقائق وتلك الموازين يكون حسابها وتقديرها عند المعتز بنفسه مختلفا تماما عن حسابها عند المنهزم نفسيا!
يقول أحدهم -نسيت اسمه الآن- إن طالبان انتصرت لأنه ليس لديهم تلفاز، فلم يتكون عندهم الرعب من أبطال الأفلام الأمريكية.
فلئن كان هذا صحيحا.. فلكم نحن بحاجة إلى بذل مجهود ضخم ضخم ضخم في تنقية ما تشربته نفوسنا من الصور والأفكار والمشاعر التي ضخَّمت في نفوسنا هذا العالم الغربي وقائدته أمريكا.
ترى من أين نبدأ؟!
فكروا معنا في هذا السؤال عبر التعليقات.
السبت، أغسطس 21، 2021
عبادة الأصنام المكسورة
قالوا: السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه
يريدون بذلك أن العاقل يرى ما يحدث لغيره فيفهم ويتعظ
ويهتدي، وأما غير العاقل فلا يفهم العظة والعبرة إلا إذا وقع في المصيبة، فيتعظ
بنفسه!
وقد وصف النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المؤمن بأنه
"لا يُلدغ من جحر مرتين".. فعرفنا بذلك أن الذي يُلدغ من الجحر الواحد
مرتين لا يستقيم له وصف الإيمان.
إلا أن صنفا ثالثا من الناس حدثنا عنه القرآن
الكريم.. هو أعجب من الصنفين السابقيْن.. إنه صنف لا يتعظ أبدا.. وهذا الصنف لا
يستيقظ إلا في الآخرة.. في العذاب الأليم!
قال تعالى (إن الذين حقّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون *
ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)
هناك في العذاب ستذهب السكرة والغفلة والعناد
والإصرار، ثم تأتي الحسرات وترتفع النداءات:
نداء يطلب الموت: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك،
قال: إنكم ماكثون)
ونداء يطلب العودة إلى الدنيا وإعطاء فرصة أخرى:
(ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا
ظالمون)
إلا أن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا سرًّا خطيرا عن
هؤلاء، سرٌّ مُحَيِّر ومثير للدهشة.. ذكر أن هؤلاء إذا عادوا إلى الدنيا مرة أخرى
فسيفعلون نفس ما فعلوا ولن يتعظوا أبدا.. لن يتعظوا حتى بأنفسهم
(ولو ترى إذ وُقِفوا على النار فقالوا: يا
ليتنا نُردُّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا
يُخفون من قبل، ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهُوا عنه، وإنهم لكاذبون)
يستحق المرء منا أن يتسمّر أمام هذه الآية بالساعات
ليحاول تأملها وفهم هذه النفسية التي إذا أخرجت من النار عادت لما كانت عليه..
فحتى دخول النار لم يكن لها واعظا.. إنه أمر صاعق حقا.. يستحق أن يجعل كل واحد
فينا يقف متأملا في نفسه ومفتشا فيها متسائلا ما إن كانت نفسه تنطوي على تلك
البذرة الخبيثة التي تجعله غير قابل للاتعاظ ولا للتعلم مهما كانت الدلائل بل مهما
كانت التجارب!!
وقد ضرب الله لنا مثلا واقعيا على هذا الصنف في قصة
سيدنا إبراهيم.. ذلك أن قوم إبراهيم عادوا من حفلتهم فوجدوا آلهتهم كلها مكسورة
إلا كبير الآلهة لا يزال منصوبا وقد تعلق في رقبته الفأس!!
وبتلقائية عجيبة بحثوا عن الفاعل!! وبدؤوا عملية
التحقيق وتحديد المشتبه فيهم، فتوصلوا إلى إبراهيم.. فذلك هو الذي صدرت عنه
تصريحات سيئة في حق الآلهة!
لقد بحثوا عن الفاعل دون أن يتوقفوا لينظروا في حال
تلك الآلهة التي تحطمت حتى دون أن تقاوم.. ولا إلى هذا الإله الكبير الذي ظل
متفرجا ثم حاملا لسلاح "الجريمة"!!
لقد انصرفت عقولهم عن الأسئلة المنطقية التي يجب أن
تكون في تلك اللحظة أسئلة حاضرة وحارقة وخارقة: ماذا فعلت تلك الآلهة لنفسها أمام
من أرادها بسوء؟!
المهم، ذهبت دورية عسكرية وأحضرت إبراهيم، ووقف
أمامهم فسألوه: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟!)
لا يستطيع المرء أن يكتم ضحكته أمام هذه العبارة
المتناقضة، "فعلت هذا بآلهتنا".. من الذي يفعل بمن؟ الآلهة أم العبيد؟!!
المهم أن إبراهيم -عليه السلام- ضغط على الجانب الذي
يخفونه ويتهربون منه، (قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون)
ويبدو المشهد ساخرا تماما.. أبسط مبادئ المنطق أن هذا
الإله الكبير الذي لم يتحطم، والذي يحمل سلاح الجريمة، هو الذي كسَّر بقية هذه
الآلهة.. أو على الأقل: هو شاهد عيان على الجريمة.. فهو أولى الناس أن يكشف عما
حصل!!
ومع أن الأمر يبدو منطقيا تماما، إلا أنه كان بالنسبة
لهم كالمفاجأة المدوية، وهي المفاجأة التي أيقظت بعض أسلاك العقل (فرجعوا إلى
أنفسهم، فقالوا: إنكم أنتم الظالمون).
ما الذي يحملنا على القبض على الفتى، إن كان بالإمكان
سؤال شاهد العيان هذا، والذي يحمل سلاح الجريمة!!
لكن هذه الاستفاقة لم تلبث إلا لحظات، ثم انقضت عليهم
شهواتهم وتقاليدهم وعاداتهم وتعلقهم بآلهتهم (ثم نُكِسوا على رؤوسهم: لقد علمتَ ما
هؤلاء ينطقون).
فزاد إبراهيم -عليه السلام- في ضغطه وفضحه لحقيقة
آلهتهم الهشة، ولحقيقة خرافاتهم التي يتعلقون بها (أُفٍّ لكم، ولما تعبدون من دون
الله، أفلا تعقلون؟!)
ثم صدر قرار القضاء الشامخ: (قالوا: حرِّقوه، وانصروا
آلهتكم إن كنتم فاعلين)
هكذا حَكَموا على إبراهيم لا بالحرق، بل بالتحريق
(المبالغة في الإحراق).. وذلك أنهم يريدون الانتصار لآلهتهم!!
الانتصار.. للآلهة المكسورة..
وهكذا ترى -عزيزي القارئ- كيف أن بعض الناس لا يتعظ
أبدا.. فالآلهة التي تحطمت وتكسرت وانهارت.. وثبت بالدليل أنها لا تملك أن تدفع عن
نفسها شيئا، بل ولا تملك أن تُخبر عما فُعِل بها.. هذه الآلهة، وجدت من يدافع عنها
حتى بعد أن تكسرت وانهارت!
ترى، هل لا يزال بعضنا يعتنق أصناما مكسورة؟!
إن إغلاق العين والقلب عن الآيات البينات، وعن
التجارب والوقائع، والإصرار على عدم التعلم منها هو عكوف عند الأصنام.. بل عند
الأصنام المكسورة!!
إن الله يقيم حجته على عباده، وما من إنسان في هذه
الحياة إلا وتضخ له الأيام من الأحداث ما تقوم له به العظة والعبرة.
ولكن كثيرا من الناس يُعَطِّلون حواسهم: سمعهم وبصرهم
وفؤادهم.. يغلقونها على ما اعتادوا عليه.. فيهم شبه من الذين قالوا (بل نتبع ما
ألفينا عليه آباءنا) حتى لو كان الذي جاءهم (أهدى مما وجدتم عليه آباءكم).
فتش عن صنمك المكسور..
الاثنين، أغسطس 16، 2021
بين طالبان والحركات الإسلامية العربية
ربما تبلغ خبرتي الآن في مجال المتابعة والسجالات
السياسية ثلاثين سنة، لا أدري ما الذي جذبني لمتابعة الشأن العام منذ بواكير
الصبا، وُلِدت آخر 1983 لكنني أتذكر جيدا تسمّري أمام التليفزيون المصري وهو يعرض
مشاهد الجزائر مطلع التسعينات.. ثم جاء الانترنت مطلع الألفية ثم مواقع التواصل
الاجتماعي لتعطي هذه الخبرة دفقة قوية، إذ صار الكلام كثيرا، وصار الكل خبيرا..
ولهذا كله أكاد أتوقع ردود الأفعال على كل حدث، مع اعترافي بأن ثمة من يبدع أقوالا
غير متوقعة!
وبينما أنا في هذا الليل الهادئ، أحاول لملمة بحث، إذ
وقفت أمامي مسألة، فهربت منها إلى تويتر، فوجدتني أمام تغريدة تجمع ما تفرق في
غيرها، وأعطتني إغراء لحوحا بالتعليق عليها لأجل ما اجتمع فيها من المغالطات..
ولعل الشيطان زين لي هربي من البحث.
وأشدد تشديدا مؤكدا، قبل كل شيء، على أن النقاش هنا
متعلق بالفكرة، بعيدا عن شخص صاحبها.. فإن التشخيص يزيد الأزمة ويُقَزِّم المشكلة.
قال صاحبنا:
"المقارنة بين مقاومة طالبان للاحتلال
الأمريكي ونضال الحركات الإسلامية ضد الأنظمة القمعية في العالم العربي مقارنة في
غاية السذاجة والسطحية!
الانطلاق من بقايا دولة وجيش ليس كالانطلاق من واقع
سياسي/دعوي/خدمي.
ومقاومة غازٍ وجيش أجنبي، ليست كمواجهة طاغية محلي
يتحكم بجيش البلد.
كثيرون حملوا السلاح في مواجهة الأنظمة، لم يجلبوا
على بلادهم إلا الوبال!
المقارنة الصحيحة هي مع جبهة الإنقاذ في الجزائر لا
مع طالبان، فالشكر والتحية لا اللوم والتقريع لمن جنب بلاده عشرية سوداء"
انتهى كلامه.
وقبل البدء في التعليق على هذا الكلام يجب أن أؤكد
على مجموعة من المسلمات النخبوية لكي لا أبدو شعبويا جهولا ديماجوجيا سفيها :) ..
وهي تلك المسلمات التي تتحدث عن الخصوصية الجغرافية والخصوصية الثقافية والخصوصية
الاجتماعية... وأي خصوصية أخرى.
مع كامل مراعاة هذه الخصوصيات، فإن التجارب البشرية
وإن كانت لا تستنسخ إلا أنها دائما ما تحمل العبرة والعظة.. وإلا ما كان لأحد أن
يستفيد من تجربة أحد أبدا، إذ لم تتشابه تجربتان من كل وجه.
ولا شك أن هذه التجربة الطالبانية سيأخذ كل قوم منها
ما يرون أنهم افتقدوه، ففي عالم الثورات السلمية سيتألق العمل الكفاحي الطالباني،
وفي عالم الثورات المسلحة سيتألق العمل السياسي الطالباني، وسنجد كل قوم ينتبهون
في التجربة الناجحة إلى ما كان ينقصهم في تجربتهم التي تعاني الإخفاق.
نبدأ الآن في التعليق:
1. طالبان لم تكن تقاوم الاحتلال الأمريكي
وحده، بل إن الاحتلال الأمريكي أقام لهم حكومة أفغانية، لها رئيس ووزراء من
الأفغان، وأجرى بينهم انتخابات أيضا.. فالأمر لم يكن محض احتلال أجنبي.. بل كان
النظام القمعي "الوطني" بل ((والمنتخب)) حاضرا أيضا.
ولهذا فمحاولة تغييب هذه الحكومة "الوطنية"
بل ((والمنتخبة)) من المشهد خطأ في التحليل.
وهنا يجب أن نسأل: كيف تعاملت طالبان مع هذه
الحكومة؟.. هل سلكت معها مسلك الدعوة أو مسلك التوافق أو مسلك التعاون.. أم كانت
حريصة دائما على وصمهم بالخيانة والعمالة وقطعت كل طريق يمكن أن تلتقي فيه مع هذه
الحكومة؟!
إن الحركات الإسلامية في العالم العربي فضَّلت أن
تتعامل مع الحكومات العميلة باعتبارها "سلطة شرعية" أو "شركاء
الوطن".. ومن ثم فقد كان كل همها أن تحصل منهم على الاعتراف بالوجود الرسمي
أو التوصل لصيغة تفاهم تكون فيه الحركة الإسلامية هي اليد السفلى. وفي الغالب
أخفقت الحركات الإسلامية في مسعاها هذا، فأحسنها حالا من صار زينة للنظام الحاكم
يستعمله كمنديل في رغباته القذرة (التطبيع المغربي نموذجا) وأدناها حالا من صار بين
السجون والمنافي يردد رواية المظلومية.
ألم يكن ينبغي على الحركة الإسلامية أن تسعى جهدها في
تعرية الأنظمة الحاكمة وفضحها وكشفها، والضغط الدائم على أدلة خيانتها
وعمالتها؟!.. لن أهتم الآن بالإجابة على هذا السؤال.. القصد أن أقول: إن رد فعل
طالبان على الحالة عندها لم يكن ذاته رد الفعل الحركي الإسلامي على الحالة عندنا
مع تشابه الحالتين.
بل حتى الحركات الإسلامية التي تعاني من الاحتلال
الأجنبي، كما هي الحالة في فلسطين، لا تزال تتعامل الحركة الخضراء مع سلطة فتح على
اعتبارهم إخوة شركاء في الوطن بل وفي الكفاح والنضال. وليس قصدي هنا إدانة الحركة
الخضراء بل قصدي توضيح أن نفس الحالة (حالة الاحتلال الأجنبي) لم تؤد إلى نفس رد
الفعل الطالباني.. وبهذا فلا يصح قول صاحبنا بأن حالة طالبان مختلفة عن حالتنا من
كل وجه.
2. صحيح أن الانطلاق من بقايا دولة وجيش ليس
كالانطلاق من عمل دعوي وسياسي وخدمي..
لكن هذا الاختلاف في الانطلاق هو فرع عن اختلاف
الخيارات.. فالذين اختاروا توصيف الواقع على أنه احتلال أجنبي وحكومة عميلة
اختاروا في نفس اللحظة نوع الطريق الذي ساروا فيه.. بينما الذين اختاروا توصيف
الواقع باعتبار حكوماتهم سلطة شرعية وشركاء وطن وجدوا أنفسهم في نفس اللحظة أمام
مهمات دعوية وسياسية وخدمية!
وإذن، لم يكن الفارق ظرفا موضوعيا خارجيا متساميا..
بل كان نتيجة منطقية أفرزها خيار الحركة نفسها.
3. نعم، أتفق في أن كثيرين حملوا السلاح في
بلادهم ولم يجلبوا إلا الوبال.. صحيح، ما يستطيع أحد أن ينكر هذا!
السؤال دائما هو: هل كان الخطأ عندهم في مبدأ
المقاومة أم في طريقتهم فيها؟!
ولذلك إذا نظرت من الزاوية الأخرى ستجد من يقول: ماذا
فعل أصحاب البرلمانات والأحزاب والمشاركة السياسية؟! هل حققوا دولة الإسلام في
مكان ما؟! إن تجارب أولئك كثيرة ولم ينجح منها تجربة واحدة وحيدة بمحض السياسة..
حتى تجربتي تركيا وغزة اضطرتا لاستعمال القوة لمواجهة انقلاب عسكري وفتحاوي..
ولولا ذلك لكانوا مع إخوانهم الآخرين بين السجون والمنافي.
في واقعنا الإسلامي الحالي، يبدو مزعجا جدا أن يقف
أحد الطرفين ليعير الآخر بفشله، فالجميع في الإخفاق سواء، فلا فضل لأحدهم على
الآخر.. والأولى بكل منهم أن ينظر فيما أخفق فيه أو ليكمل أحدهما الآخر.
4. أما أطرف ما جاء في التغريدة فهو القول
بأن "المقارنة الصحيحة هي مع جبهة الإنقاذ في الجزائر لا مع طالبان، فالشكر
والتحية لا اللوم والتقريع لمن جنب بلاده عشرية سوداء"!
فهذه عبارة عجيبة اجتمعت فيها المتناقضات..
فأولا: إن بلد العشرية السوداء لا تزال أقوى من كل
جيرانها رغم مرورها بالعشرية السوداء ورغم أن جيرانها لم يمروا بها.. فتلك العشرية
لم تكن نهاية التاريخ!
وثانيا: فإن الذين تجنبوا العشرية السوداء منذ
الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله أدخلوا بلدهم في سبعينية سوداء مستمرة حتى الآن،
ولا نعرف متى ستنتهي.. فلم يكن تجنب العشرية السوداء حلا عظيما!
وثالثا: من المسؤول عن العشرية السوداء أصلا.. لا شك
أن لجماعات التكفير نصيب، ولكنه نصيب يتضاءل أمام إجرام السلطة المدعومة دوليا،
وها هي مذكرات ضباط العشرية السوداء تعترف بالجرائم التي ارتكبوها.. أي أن العشرية
السوداء كانت اختيارا للسلطة ولم تكن اختيارا للجماعات الإسلامية.
ورابعا: هذه العشرية السوداء انتهت بمصالحة وطنية،
نزل بها حملة السلاح مظللين بالعفو العام.. بينما الذين حاولوا تجنب العشرية
السوداء -كالأستاذ الهضيبي وصحبه- عاشوا عشرين سنة في السجن.. ثم خرجوا برحمة
الحاكم الجديد حين احتاج خروجهم.. ثم أدخلهم الحاكم الثالث السجون من جديد!!
يعني أكاد أتصور أن لو طُوِي التاريخ ووُضِع المستقبل
أمام الأستاذ الهضيبي ورهطه، فهل كانوا سيختارون الاستسلام لعبد الناصر؟!
وخامسا: وهي المفاجأة.. أن انتصار طالبان كان بعد
"عشرينية" سوداء، وليست عشرية واحدة!!!.. أي أن الانتصار الذي يحتفي به
الكاتب هو نفسه وليد عشرين سنة من الحرب.. والرجال الذين يتسلمون الحكم الآن قضى
بعض قياداتهم عشر سنوات في جوانتانامو.. وإنما خرج من خرج منهم في تبادل للأسرى،
نفذه من لم يفكر في تجنب العشرية السوداء.
فلو أنهم فكروا في تجنب هذه العشرينية السوداء لكانوا
الآن في السجون، ولعل بعضهم كان يعمل على تقديم المراجعات الفكرية!!
طالما يجري تخويفنا نحن بالعشرية السوداء فسيظل
الحكام يقتلوننا بلا رحمة ويهدمون علينا البلاد بلا تردد.. يساوموننا بين العشرية
السوداء في الجزائر أو سوريا أو العراق.. وبين أن نعيش عبيدا وكلابا نلحس نعالهم
ونهدي أعراضنا لهم!!
لو أن كل حاكم طاغية عرف ووقر في يقينه أنه مخير بين
الاستسلام للشعب أو مصير كمصير الخونة، لما تجرؤوا علينا كل هذه الجرأة.. وإنما
فعلوا ذلك لأن منا من يخوفنا من الموت، ويفلسف لنا الحياة الذليلة!!
ثم أختم بتأكيد جديد وتشديد جديد، أن نقاش الفكرة هو
الذي قصدت، وأن شخصنة الأمر لا يفعله مخلص يبحث عن حل، بل يفعله مغرض يبحث عن
معركة.
السبت، أغسطس 14، 2021
سنن تاريخية في ضياع بيت المقدس
قصة قصيرة قبل بدء المقال: مُنِع هذا المقال من النشر في مجلة المجتمع الكويتية، وأوقفت المجلة مقالي الثابت فيها منذ ثلاث سنوات أو أكثر، بقرار من رئيس التحرير محمد سالم الراشد. وسبب ذلك تغريدةٌ كتبتها أدين فيها موقف راشد الغنوشي البطئ الثقيل المستسلم من انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيد عليه.
فإذا بمحمد سالم الراشد يوقف التعامل معي بالمجلة، ولما سألتُه: زعم أن ذلك المقال يخالف "سياسات التحرير"، وهو يعرف أني أعرف أنه كاذب، وأوضح دليل على هذا الكذب أن المقال نُشِر بالفعل على الموقع الإلكتروني للمجلة كما يظهر في هذه الصورة، فلو كان مخالفا لسياسات التحرير لما نُشِر على الموقع. ثم ها هو المقال أمام القراء جميعا، ولهم أن ينظروا: هل يمكن أن يكون مخالفا لسياسة تحرير النشر في أي مجلة؟!
لم أكن أتوقع أن أُساوَم على رأيي وعلى ما أنشر في صفحاتي، من طرف رئيس تحرير لمجلة إسلامية تنتسب إلى جمعية الإصلاح الكويتية (الإخوان المسلمين)، ولا أدري كيف خطر له بالبال أنه يمكن أن يلوي ذراعي مثلا فأتوقف عن قول ما أؤمن به، إن الذي حفظنا من نفاق السيسي وابن زايد وابن سعود لن يسوءنا فننافق من لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا حتى بمقاييس الدنيا. ولكن حيث وقعت المساومة، فليهنأ بمجلته ومن يخضعون لمساومته.
وقد ذكرتُ له أني سأنشر مضمون هذا الذي حصل، والقراء يحكمون، فقال: افعل ما تريد. وأي محاولة لتكذيب ما قيل هنا فسأضطر لنشر صور المراسلات.
ذكرنا في
المقال الماضي أنه: من خلال مطالعة تاريخ بيت المقدس ستظهر لنا سنة مضطردة خلاصتها
أن بيت المقدس هو بمثابة القلب من الضلوع والتاج من المدن، وأنه لا يُوصل إليه إلا
من خلال العواصم المحيطة به، وتناولنا في المقال الماضي محطات الفتح العمري
والتحرير الصلاحي، وقد ظهر لنا منها أنه لم يمكن فتح بيت المقدس إلا بعد فتح دمشق،
ولم يمكن تحرير بيت المقدس إلا بعد تطهير دمشق والقاهرة من الأمراء الفاسدين،
وباتحاد مصر والشام صار تحرير بيت المقدس مسألة وقت.
في هذا المقال
نتوقف عند محطات ضياع بيت المقدس، وهي ثلاث محطات كبرى: ضياعه في الحملة الصليبية
الأولى، وفي الحملة الصليبية السادسة، ثم ضياعه قبل نيف ومائة عام في الاحتلال
الإنجليزي.
في محطات
الهزيمة سنرى أنه لم يتمكن الأعداء من الوصول إلى بيت المقدس إلا بعد أن ضرب
الفساد والخيانةُ أو الاحتلال العاصمتيْن المهمتيْن حوله: القاهرة ودمشق. وفي
مرحلة لاحقة: اسطنبول!
عشية الحملة
الصليبية الأولى انقسمت مصر والشام، فكانت مر تحت حكم العبيديين (الفاطميين) وهم
شيعة إسماعيلية، وكانت الشام تحت حكم السلاجقة وهم من أهل السنة، وقد انقسمت بلاد
الشام ودخلت في النزاع بين السلاجقة والعبيديين، وقد كانت كلا الدولتين قد فقدتا
أمراءها الأقوياء، فقد تفكك السلاجقة في الشام بعد السلطان القوي ملك شاه (ت 485ه
= 1092م)، ودخل العبيديون في ما يسمى بعصر الوزراء بعد ضعف الخلفاء، ثم زاد الوضع
سوءا حين تحالف العبيديون مع الفرنجة الصليبيين ضد السلاجقة، وهو التحالف الذي
استفاد منه الصليبيون في الاستيلاء على شمال الشام ثم سرعان ما غدروا بهم وانتزعوا
بيت المقدس الذي كان في حوزة العبيديين آنذاك!
وهكذا ضاعت
القدس حيث كانت العواصم القوية حولها في حال مزرية، فالخليفة الضعيف في بغداد،
والأمراء السلاجقة الضعاف المتنازعين في الشام، والخليفة العبيدي الضعيف في
القاهرة!! وستظل بعدها نحو مائة عام في ظل الاحتلال الصليبي والأقصى حظيرة
خنازير!!
ستبدو هذه
السنة التاريخية واضحة في مسيرة الحملات الصليبية التالية، فلئن كانت الحملة
الأولى قد نجحت في احتلال بيت المقدس، فلقد جاءت الحملة الثانية بعد تحرير الرها
على يد عماد الدين زنكي، لكنها لما وصلت كان عماد الدين قد رحل وتولى الأمر من
بعده ابنه نور الدين محمود الذي استطاع أن ينشئ تحالفا مع حاكم دمشق، ومع أن دمشق
كانت في هدنة مع الصليبيين إلا أنهم هاجموها أولا ناقضين للعهد بينهما، وهو ما
أجبر دمشق على الدخول في مواجهة الصليبيين، وأدى ذلك –مع أسباب أخرى- لإخفاق
الحملة الثانية.
وأما الحملة
الثالثة فقد جاءت بعد تحرير صلاح الدين لبيت المقدس، وكانت أضخم الحملات الصليبية
وأشرسها، ولكنها جاءت وقد توحدت مصر والشام، وكانتا تحت سلطان صلاح الدين، فانتهت
الحملة الكبرى إلى الإخفاق ولم تستطع أن تحتل بيت المقدس! وعاد ملوكها يجرون أذيال
الخيبة!
وأما الحملة
الرابعة فقد انحرفت –لظروف تخص الخلافات الأوروبية الداخلية- فبدلا من أن تأتي إلى
المشرق توجهت إلى القسطنطينية واستولت عليها.
وأما الحملة
الخامسة فهي الحملة التي تثبت بوضوح هذه السنة التاريخية التي نتحدث عنها، لقد
جاءت تلك الحملة بفكرة جديدة بعد قراءتها لأخبار الحملات السابقة، تلك هي السيطرة
على مصر أولا. لقد كان الدرس واضحا: لن يمكن الاستيلاء على بيت المقدس ولا
الاستقرار فيه دون السيطرة على مصر والاستيلاء على القاهرة. وقد نقل ابن واصل خبر
تشاورهم فقال: "اجتمعوا للمشورة في ماذا يبدءون بقصده، فأشار عقلاؤهم بقصد
الديار المصرية أولا، وقالوا: إن الملك الناصر صلاح الدين إنما استولى على
الممالك، وأخرج القدس والساحل من أيدى الفرنج بملكه ديار مصر، وتقويته برجالها،
فالمصلحة أن نقصد أو لا مصر ونملكها، وحينئذ فلا يبقى لنا مانع عن أخذ القدس وغيره
من البلاد"[1].
من المؤسف أن
صلاح الدين كان قد توفي، بل إن أخاه العادل سيف الدين توفي في أثناء الهجوم الذي
شنته الحملة الصليبية على دمياط، وصار الشام إلى عيسى بن العادل، وصارت مصر إلى
محمد بن العادل الملقب بالملك الكامل.
وفي واقعة لها
دلالاتها الكثيرة والقوية، عرض الكامل على الصليبيين أن يرحلوا عن مصر في مقابل أن
يسلم لهم كل ما حرره صلاح الدين من المدن بما في ذلك بيت المقدس، ما عدا الكرك
والشوبك، وانقسم الصليبيون أمام هذا العرض فمنهم من وافق ورآها فرصة لا تقدر بثمن،
ومنهم من رفض ورأى أنه لا يمكن الاحتفاظ ببيت المقدس دون الاستيلاء على مصر، وانتصر
الرأي الأخير!
لم يجد الكامل
إلا أن يقاوم، وبعد فصول طويلة استطاع جيشه وجيشا أخويْه اللذيْن قدما لنجدته أن
يهزموا الحملة الصليبية الخامسة! ولقد كان بإمكان الكامل أن يبيد جيش هذه الحملة،
إلا أنه لنفسيته المشبعة بالجبن والخور رفض أن يفعلها، وسمح لهم بالانسحاب سالمين.
يجب القول
أيضا إن سياسة الكامل والرفض الصليبي لعرضه يثبت ما نقول من أن القاهرة مفتاح بيت
المقدس، وأنها –من المنظور السياسي والعسكري- أهم من بيت المقدس، وليست الأهمية
هنا دينية وقدسية فالقدس أعظم لا شك، لكن ميزان القوة يُحسب من جهة الموارد
والنفوذ: المال والرجال!
ثم ما لبث أن
دبت الفرقة والخلاف بين الإخوة الثلاثة: الملك الكامل محمد في مصر وأخيه المعظم
عيسى في الشام والأشرف موسى في شمال العراق وديار الجزيرة، فتحالف المعظم عيسى
صاحب الشام مع جلال الدين الخوارزمي، فتحالف الكامل مع فريدريك الثاني صاحب الإمبراطورية
الرومانية المقدسة والذي نشأ يتيما في صقلية، وعرض عليه التنازل عن بيت المقدس وما
حرره صلاح الدين.
ومع أن المعظم
عيسى مات سنة 624، واستولى الكامل على مملكته بالفعل، ومع أن فريدريك محروم من قبل
البابا، وكان الصليبون في الشام ضده وعرضوا على الكامل أن يحاربوه معه، ومع قلة
عدده (600 فارس) إلا أن الكامل أعطاه القدس!! أعطاه إياها لمجرد الوفاء بالوعد
ولمجرد التحالف والصداقة!!
وهذا استلم
فريدريك بيت المقدس بستمائة فارس فقط، لم يحاربوا ولم يخسر منهم أحدا، وبمجرد
التفاوض، ودون أية مكاسب تعود على الكامل، في واحدة من أغرب قصص الخيانة في
التاريخ!!
ومجاملة
لفريدريك منع الكاملُ مؤذن بيت المقدس من الأذان حرصا على عدم إزعاج صديقه وحليفه
الملك فريدريك!! وأخبر الكامل صديقه فريدريك بأنه سَجَن أعظم علماء المسلمين الذين
عارضوه في هذا التسليم!! وقد وجد الكامل من يفتيه بجواز تسليم بيت المقدس
للصليبيين!!
وسجن الكامل
كذلك واحدا من قادة جيشه، سيف الدين بن أبي زكري، الذي قال له: اتحد مع أخيك وابن
أخيك على هذا العدو، ولا يُقال أعطى السلطان الفرنج القدس[2]!!
ثم إن الكامل فضّ اعتصاما أقامه أهل القدس عند خيمته وقد حملوا معهم قناديل الأقصى
وستائره!
وبعد وفاة
الكامل، وفي خضم اشتداد المنازعات بين أبناء الإخوة الذين ورثوا عداوات أبيهم
وتنقلت بينهم المعسكرات وتبدلت أحوالهم بصورة درامية بائسة ومثيرة للاشمئزاز،
استطاع الناصر داود بن المعظم (عيسى بن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب) أن يهاجم
بيت المقدس فيحررها (637ه)، ولكنه نكاية في ابن عمه الصالح أيوب (بن الكامل محمد
بن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب) سلطان مصر، وتحالفا مع عمه الصالح إسماعيل
(بن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب) سلمها للصليبيين مرة أخرى في عام 641ه..
بل وتعهد الصالح إسماعيل –قائد التحالف- للصليبيين بجزء من ديار مصر إذا انتصروا
على سلطانها الصالح نجم الدين أيوب.
ومع أن
المعاهدات بين هؤلاء الأمراء مع الصليبيين حين سلموا لهم بيت المقدس أن يحتفظ
المسلمون بالسيادة على المسجد الأقصى وأن تقام الشعائر، إلا أن الصليبيين لم يأبهوا
بهذا، حتى إن ابن واصل المؤرخ حين كان في سفارة ببيت المقدس نقل صورة الوضع هناك
فقال: "دخلت بيت المقدس ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها
قناني الخمر برسم القربان، ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرس معلق، وأبطل بالحرم
الأذان والإقامة وأعلن فيه بالكفر"[3].
وفي النهاية
استطاع الصالح أيوب، سلطان مصر، أن يقضي على خصومه من أبناء عمه، وأن يعيد توحيد
مصر والشام، وتحالف مع الخوارزميين، ثم استطاع تحرير بيت المقدس (642ه)، وذلك في
أعقاب انتصاره في معركة غزة على التحالف الذي ضم الأيوبيين الشوام مع الصليبيين،
وقد وصفهم سبط ابن الجوزي بقوله "(ساروا) تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم
الصلبان المسلمين والأقساء فِي الأطلاب يصلِّبون على ويقسقسون عليهم، وبأيديهم
كاساتُ الخمر والهنابات يسقونهم"[4].
ظلت بيت
المقدس في يد المسلمين حتى الاحتلال الإنجليزي المعاصر، أي لمدة سبعة قرون، وفي
هذه القرون السبعة كانت مصر والشام دولة واحدة، إما تحت السيادة المملوكية، أو تحت
السيادة العثمانية، فكانت مسؤولية بيت المقدس –ومعها الحرمان الشريفان أيضا- تقع
على عاتق القاهرة ودمشق في العصر المملوكي، وعلى عاتق اسطنبول في العصر العثماني،
واستطاعت الدولتان أن تقوما بالمهمة خير قيام، فظلت بيت المقدس وظل الحرمان
الشريفان في حصن منيع!
ولم تضع بيت
المقدس في التاريخ المعاصر إلا عندما ضعف اسطنبول وضربها الفساد والوهن، وهي
اللحظة التي استطاع فيها الاحتلال الإنجليزي أن يستولي منها على القاهرة –المدينة الثانية
في الإمبراطورية العثمانية بعد العاصمة- ومن القاهرة تحرك الجيش الإنجليزي الذي
احتل بيت المقدس!! لقد كان الجيش الذي أسسه الإنجليز في مصر، والمعروف خطأ باسم
الجيش المصري، هو الذي قاتل العثمانيين في الشام وفتح الطريق لاحتلال بيت المقدس.
وقبل الإنجليز
كانت نفس المحاولة قد جرت على يد نابليون، احتل القاهرة أولا، ومنها خرج بجيشه إلى
الشام يريد بيت المقدس، لكن الظروف السياسية لم تساعده على إنجاز مهمته.
لقد جرى
احتلال بيت المقدس بعد خمس وثلاثين سنة من احتلال القاهرة، واستعمل الإنجليز في
احتلالها كل موارد مصر من مال ورجال بل حتى الخيول والحمير انتزعوها من المصريين
ليخوضوا بها الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن غروب الدولة العثمانية وغروب بيت
المقدس معها.
وأدنى نظر في
مذكرات هرتزل، مؤسس المشروع الصهيوني، سيخبرنا بذات السنة التاريخية التي نتحدث
عنها، والتي يبدو أن هرتزل فقهها جيدا، لقد كان هرتزل حريصا للغاية على أن يؤسس
دولة للصهاينة في بيت المقدس من خلال التأثير على قرار العواصم المهمة المتحكمة في
مصيره من خلال نفوذها المباشر عليه مثل اسطنبول، أو من خلال نفوذها على اسطنبول
مثل لندن وبرلين والفاتيكان وموسكو.. ولكن هذا حديث طويل ومهم، ولعلنا أن نفرده في
مقال قادم إن شاء الله تعالى.
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، على الموقع الإلكتروني فقط، أغسطس 2021