يتميز النظام السياسي الإسلامي على غيره من النظم، بأنه يقوم على أمريْن متوازييْن: تحديد صلاحيات السلطة، وتقوية المجتمع وتكتيله وشدّ روابطه.
إن الأزمة
الأساسية في أي نظام سياسي تكمن في تفاوت ميزان القوة والقدرة بين السلطة
والمجتمع، وهو ما يؤدي إلى تغول السلطة وميلاد الاستبداد والفساد، فكلما زاد
الفارق بين قوة السلطة والمجتمع كلما كان هذا دليلا على نظام حكم طغياني، وكلما
قلّ هذا الفارق كلما كان هذا مشيرا إلى مجتمع متوازن لا يعاني من بطش الحُكْم.
وبغض النظر عن
كون النظام ملكيا أو جمهوريا، فحقيقة الأزمة ليست في الشكل وإنما في جوهر قدرة
السلطة على الاستبداد بالمجتمع مع عجزه عن صدِّها وإيقافها عند حدِّها، فقد توجد
أنظمة جمهورية أشد بطشا وطغيانا من أنظمة ملكية، ويمكن لهذه الأنظمة الجمهورية أن
تمارس بطشها بفارق القوة العسكرية الخشنة وحدها، أو بمزيج من القوة العسكرية
الخشنة والقوة الناعمة المتمثلة في الإعلام والثقافة والاقتصاد، حيث يجري في تلك
المجالات تنظيم وترتيب النخبة الحاكمة وتدبير أمور الانتخابات ونتائجها.
ومن وجه آخر،
فلربما كانت الأنظمة الملكية أنسب لبعض المجتمعات من أخرى، كأن يكون ذلك امتدادا
لطبائع عريقة أو ثقافة سائدة أو ضرورات اجتماعية، فالمسألة الجوهرية والهمّ
الأساسي في السعي إلى إيجاد النظام العادل ليس متعلقا بالشكل والأسلوب، وإنما يتعلق
بكفاءة النظام السياسي في تحقيق العدالة والرشاد.
وإذا تجاوزنا
طبيعة الأشكال والأساليب فسنجد أنفسنا أمام هذه الحقيقة، وهي: مدى قدرة السلطة على
الانفراد بالمجتمع والطغيان فيه، ومدى قدرة المجتمع على إيقاف هذا التغول والتصدّي
له.
لقد جاء
الإسلام بالحل العظيم لهذه المعضلة، والذي يتمثل –كما أسلفنا- في تحديد صلاحيات
السلطة ومجالات عملها، ويتمثل أيضا في تقوية المجتمع وتكتيله. بحيث يكون تجاوز
السلطة لمساحات عملها تغولا يثير القلق والمقاومة وليس أمرا طبيعيا، وبحيث تكون
لدى المجتمع القدرة الكافية على التصدي لهذا التغول والبطش.
وهذا الحل ليس
مجرد وثيقة فكرية أو قانونية، بل هو نصوص قرآنية ونبوية تتمتع بالقداسة، ولها
تأثيرها الروحي الهائل في مجتمع المؤمنين، فهي تتمتع بما لا يتمتع به دستور ولا
قانون من القوة العملية في نفوس المجتمع. كما أن الأمر لم يتوقف عند مجرد النصوص
وإنما تحول إلى منهج حياة، فقد رسم الإسلام طريقة حياة المسلمين بما يزيد دائما من
قوتهم الاجتماعية وترابطهم المستمر.
وإذا نظرنا
إلى شهر رمضان ضمن هذه الصورة، وما فرضه الله فيه من الصيام، وما سنَّه النبي من
القيام، وما ندب إليه من عمل الخير، فسنجد أنفسنا أمام موسم عظيم لتقوية المجتمع
وشدّ روابطه وتمتين أواصره.
إن الحالة
الروحية التي يُغمر فيها المسلمون في شهر رمضان تقوي من قدرتهم على إصلاح أنفسهم،
فالمسلم يرى نفسه كيف يستطيع أن يتخلص من أرسخ عاداته وأقواها، وهي عادات طعامه
وشرابه، فإذا به يستطيع أن يقضي طيلة النهار بغير طعام ولا شراب مهما كانت قسوة
الظروف. وهو ما يبعث فيه الثقة بالنفس واليقين بقدرته على أن يتغير لما هو أفضل،
فإن القادر على كسر أقوى عاداته أقدر على ما دون ذلك من أسباب ضعفه وتراخيه.
كذلك فإن
المسلم الذي يمتنع عن الطعام والشراب في السرّ والخلوة، يتذوق من جديد معنى مراقبة
الله، فحتى الطفل الصغير في بيوت المسلمين تجده يتعرف على معنى مراقبة الله في شهر
رمضان، فيمتنع من تلقاء نفسه عن أن يفسد صومه وإن أَمِنَ مراقبة الكبار. ولو تمكنت
قيمة مراقبة الله والخشية منه في نفوس المسلمين فإنها تكون من أقوى عُدَّتهم في
مواجهة أي ظلم أو فساد.
تلك الحالة
الروحية التي تسود هذا الشهر، والتي يتذكر فيها المسلم الدار الآخرة، والتي يهون
عليه فيها شأنُ الدنيا، هي التي تُعِدُّه إعدادا خاصا لكي يعيش في الدنيا وقلبه
معلق بالآخرة، وما أوسع الفارق بين رجل انكبّ على الدنيا لا يفكر في غيرها، وبين
رجل يعمل في الدنيا وهو يرجو الآخرة. إن هذا الرجل الثاني أصعب شيء يمكن أن تواجهه
السلطة الظالمة!
هذا بعضُ ما
يناله المسلم في نفسه إن هو أحسن العمل لله في هذا الشهر.
وفوق ذلك،
يأتي ما يستفيده المجتمع كله، ذلك أن اجتماع المسلمين في وقت الصيام والإفطار
والسحور والتراويح، يغرس فيهم هذا الشعور القوي بالأمة الواحدة، وبانتمائهم إلى
نبيهم –صلى الله عليه وسلم- لتظل هذه الوحدة حقيقة قائمة مهما استطاعت أحوال
السياسة تقسيمهم إلى دول وأقطار مختلفة. وهذا الشعور تزيد قوته في المجتمعات
القريبة حيث يرى الناس بعضهم البعض في الصلوات وفي التراويح وفي إفطار العائلات،
وفيما يتجدد من صلة الأرحام والزيارات المتبادلة، ومن محاولات الصلح بين
المتخاصمين، وفي خروج الناس إلى الطرقات لبذل الإفطار للعابرين والعالقين، وفي
تفقد الأيتام والأرامل والمساكين، وفي غير ذلك من المشاهد.
في كل تلك
المشاهد تنبعث آفاق جديدة من التعاون على البر والتقوى، ومن نَظَرِ الناس في
مصالحهم وأوجه تشاركهم، وهو ما يثمر في النهاية أعمالا ومؤسسات وروابط عائلية
وثقافية واجتماعية وغيرها. وأدنى الثمرة هي ما يوجد من التعارف والتقارب والتصافي
بين من لم يكن برنامجهم اليومي يسمح لهم لا باللقاء ولا بالتعارف.
قبل أن تغزونا
الحداثة ومنتجاتها الفاسدة، كان الناس يجتمعون في ليل رمضان على تلاوة القرآن
والمدائح النبوية، وعلى إطعام الطعام، وكان الأغنياء والعائلات والقبائل يتنافسون
في عقد تلك المجالس وتزيينها بالقراء والعلماء والوُعَّاظ. ولئن كان الجيل القديم
قد أدرك شيئا من هذه المظاهر فمن المؤسف أن الجيل الجديد قد فتح عينه ورمضان هو
شهر الغزارة في المسلسلات والبرامج الضاحكة والعروض الفاسدة لقضاء رمضان في ضدِّ
ما جعله الله له. وتلك من وسائل الشياطين –شياطين الجن والإنس- لمقاومة أثر هذا
الشهر في نفوس المسلمين.
كان الأزهر
الشريف يعطي إجازته للطلاب في شهر رمضان، فكان طلاب الأزهر يعودون إلى قراهم
وبلدانهم ليكونوا نجوم الدعوة والعلم بين أهليهم، وكان اللصوص والمفسدون يتأدبون
ويتهذبون في هذا الشهر فتراهم يصلون ويصومون ويمتنعون عما كانوا يفعلون مراعاة
لحرمته، بل كان الذمّي من اليهود والنصارى يمتنع عن الجهر بالطعام والشراب مراعاة
للذوق مع مجتمع المسلمين. فلما جاءت تلك الحداثة قلبت حال الناس فضغطت بثقلها على
المتدينين بحيث صاروا ينتزعون أنفسهم بصعوبة من إغراء متابعة البهارج البراقة من
البرامج والمسابقات والمسلسلات.
لماذا يُعَدُّ
ويُخَزِّن كل هذا الفساد لإطلاقه في رمضان على وجه الخصوص؟ لماذا هذا الشهر وحده
من بين الشهور جميعا؟!
إن هذا
التركيز الخاص على إفساد هذا الشهر، جب أن ينبهنا إلى ما يخشاه المفسدون من آثار
هذا الشهر على الفرد وعلى المجتمع، تلك المفاسد التي قيَّدت الناس أمام التلفاز
وعرقلتهم عن الانطلاق إلى دروس العلم ومجالس الوعظ، بل وعرقلتهم عن تفقد أحوال
عائلاتهم ومجتمعاتهم، وقبل ذلك وبعده أفسدت عليهم الروحانية الشاملة التي يمكن لها
أن تقلب حياتهم لتصوغهم من جديد!
لا، ليست
الحرب في هذا الشهر عبثية، بل هي مقصودة.. وإن الشياطين التي صُفِّدَت في رمضان قد
أوحت إلى أوليائهم من شياطين الإنس، ماذا عليهم أن يفعلوا! وما أجدر شياطين الإنس
أن يخافوا ويفزعوا، إنهم لأشد الناس رعبا من أن يتحرر الناس من الشهوات، وأن
يجتمعوا فيزداد تكتلهم وترابطهم وتعاونهم، فحتى الذئب ذو الناب والمخلب لا يجرؤ على
مهاجمة القطيع، وإنما يأكل الشاة القاصية.