مذكرات الشيخ رفاعي طه (8)
من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية
كنت عضوا في طلائع الاتحاد الاشتراكي
·
كان الاتحاد
الاشتراكي ينبي تنظيما أخطبوطيا يمنع الدولة من الانهيار لمئات السنين
·
كان خطاب
السادات ضعيفا ومستكينا لكنه صار بالتدريج يجد له أنصارا بين الشعب!
سجلها
عنه وحررها: محمد إلهامي
لقراءة
الحلقات السابقة:
الحلقة السابعة: قصة ثورة في المدرسة
عندما كنا صغارا في المدرسة الإعدادية كانوا
يختارون الطلاب الخمسة الأوائل على كل فصل، ويُحفِّظونهم خطب جمال عبد الناصر،
ويحدثونهم عن الاشتراكية، ويشرحون لهم الميثاق، ثم كانوا يعقدون لهم لقاءات دورية –لا
أتذكر الآن إن كانت شهرية أم نصف سنوية- بالإضافة إلى معسكرات صيفية في الإسكندرية
ورأس البر، وأما بالنسبة لنا في مركز إدفو فقد كان معسكرنا في أسوان، ننزل هناك في
نزل الشباب، التي كانت ضمن ما كان يسمى "بيوت الشباب" وهي تتبع وزارة
الشباب والرياضة، وكان لها في ذلك الوقت أنشطة ضخمة. وهذه المعسكرات مختلطة بين
الأولاد والبنات، لكن الأنشطة نفسها منفصلة حيث ينزل الذكور في مكان والإناث في
مكان آخر. لم يبلغ الأمر كما كان في تركيا –مثلا- حيث يبيت الشباب والفتيات في
مكان واحد. واستقر الوضع على هذا الشكل في المرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية.
وبموازاة هذا، كانت ثمة مسابقات في ذلك الزمن تسمى
مسابقات أوائل الطلاب، وكان يتسابق فيها الطلاب الخمس الأوائل الذين هم بطبيعة
الحال أعضاء البراعم والطلائع في الاتحاد الاشتراكي، وفيها يتعارف ويتنافس أولئك
الطلاب الذين يجري إعدادهم ليكونوا نخبة الدولة. وللحق، فلقد كان الاتحاد
الاشتراكي يعمل جيدا على هذا الملف، فحين يستخلص من كل فصل –لا من كل مدرسة- أفضل
خمسة طلاب فيه، ثم يتعهدهم بالتكوين والإعداد والدعم، ثم يفتح لهم بعد التخرج
أبواب الوظائف المهمة في مناصب الدولة.. فعندئذ فإن النخبة الجديدة الحاكمة ستكون
قد جرى إعدادها وتربيتها منذ أول النشأة، وسيكونون قد تعارفوا عبر هذه السنين من
خلال اللقاءات الدورية والمعسكرات والمسابقات، هنا سيكون الناتج نخبة حاكمة ذات
نظام أخطبوطي يضمن للدولة أن تستمر على هذا لمئات السنين دون أن تنهار.
كانت هذه صورة ونظام الاتحاد الاشتراكي كما
رأيتها، وكانت تلك الفترة حافلة بالمشاعر الوطنية الملتهبة المرتبطة بجمال عبد
الناصر الذي هو في روحنا "الزعيم"! ولم تتفكك هذه البنية العقدية القوية
إلا حين طرح السادات فيما بعد فكرة تطوير الاتحاد الاشتراكي، فطُرِحت ورقة بهذا
العنوان "تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي"، وقد حضرتُ مناقشات هذه
الورقة.
وبهذا أستطيع أن أُجْمِلَ صورة أيامي في المرحلة
الثانوية في هذه المسارات: الصوفية، وزعامة المدرسة ونشاطها الطلابي، وعضويتي في
طلائع الاتحاد الاشتراكي، والاستدعاءات المتتالية لقسم الشرطة وحديثي المتكرر مع
ضابط المباحث الذي كان يحرص على أن يكون حديثه وديا وأخويا وفي مكان غير المدرسة
أو قسم الشرطة.
وأما المشهد العام في تلك المرحلة فأول ما فيها
أني لم أعِ جيدا حرب الاستنزاف، ربما لكوني وقتها في السنة الثالثة الإعدادية أو
لأننا لم نكن نشعر بها، كذلك لم يشغلنا كثيرا مبادرة روجرز سنة 1969 في أواخر حكم
عبد الناصر والتي كانت قبل وفاته بشهور، إلا أن الحدث الذي لا يُنسى من تلك الفترة
هو استشهاد الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان، وكان ذلك في مارس 1969، فقد كان
لهذه الحادثة تأثير ضخم، وكان له جنازة حافلة مهيبة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة
وحضرها جمال عبد الناصر وبكى فيها، وقد أخرجونا نحن –طلابَ المدارس- في مظاهرات
وجنازات رمزية.
كذلك فقد نفذت القوات الإسرائيلية عدة ضربات في
العمق المصري، ومن أشهر هذا قصف مدرسة بحر البقر التي استشهد فيها عدد من الأطفال
في مدرستهم، وعندنا في جنوب مصر وقع قصف أيضا لكوبري (جسر) إدفو في أسوان، وكان
هذا الجسر يبعد عن مدرستنا كيلو مترا واحدا فقط، وقد ذهبنا إلى هنا ورأينا آثار
القصف والقنبلة وما أحدثته من دمار.
وهنا بدأ ينتشر في مصر نظام المدارس العسكرية،
وكان يجري تدريبنا عسكريا في المدرسة، كما انتشرت التعليمات ببناء جدران أمام المداخل
والأبواب، وخصوصا أبواب المدارس بعرض 3 أمتار وارتفاع 3 أمتار أيضا، وكانت لا شك
مهمة باهظة التكاليف، ولم أكن أدري حينها لماذا يبنون هذه الجدران؟ كذلك فقد تم
تحديد عدد من الأماكن بمثابة المخابئ والملاجئ التي ينبغي على الناس الذهاب إليها
وقت حدوث الغارات.
لم يكن الشعب يخشى الحرب مع إسرائيل، بل كان يفور
حماسة حقيقية، وكان مشحونا بأثر القوة الإعلامية المتواصلة، وفي الواقع لقد صنعت
هذه القوة الإعلامية من جمال عبد الناصر زعيما حقيقيا، وإذ كان يحتكرها وليس ثمة
صوت غيره فقد مَكَّنَتْه بحق من أن يكون محبوب الجماهير، ولقد رأيتُ أبي يبكي بكاء
حقيقيا يوم إعلان عبد الناصر تنحيه، ورأيته يبكي مثل ذلك يوم وفاته، ولم يكن أبي
إلا رجلا بسيطا فلم يكن مؤدلجا ولا صاحب فكر وتوجه، إنما هو كعموم الناس، ومع هذا
فقد كان في غاية الانفعال والتأثر.
بينما كان الأمر على العكس من هذا حين جاء
السادات، لقد بدا السادات ضعيفا مهزوزا لا يستطيع أن يكرر زعامة عبد الناصر القوية
ولا أن يملأ ثوبه المهيب، خصوصا في السنوات الثلاث الأولى (1970 – 1973م) حتى قامت
الحرب. ولم يكن الناس يرونه صالحا ليكون رئيسا للجمهورية، وعلى ما يبدو فإن طاقم
الرجال الذين أداروا هذا الملف تعمدوا توصيل هذه الصورة عنه، وإن كنا عرفنا فيما
بعد أنها لم تكن صورة صحيحة، وأنه تعمد أن يكون بهذا المظهر الضعيف ليعالج بها
معاركه الداخلية في أروقة الدولة التي يتنفذ فيها رجال عبد الناصر الأقوياء. كان
عبد الناصر يخطب بقوة وعنده ذلك الحس الجماهيري الذي يجذب به الأسماع والأنظار
فيؤثر فيها، بينما كان خطاب السادات هادئا مستكينا، تكثر فيه اللهجة العاطفية ولغة
القرية، يتحدث كثيرا بالعامية.
لكن الذي يلفت النظر هنا أن هذه اللهجة في الخطاب
بدأت بالتدريج تجذب بعض الناس وتجد لها أنصارا، كان السادات ضمن هذه الصورة
الهادئة المستكينة يتحدث عن مبادرات سياسية تتجنب دخول الحرب (على العكس من موقف
وسياسة عبد الناصر التي تتوعد إسرائيل)، فقد حاول البناء على مبادرة روجز ووافق
على مدِّ الهدنة ووقف إطلال النار، ثم طرح مبادرة عام 1971م، وكان يبرر هذا بأنه
إنما يفعله ليحافظ على أبنائه لأقصى درجة وليحافظ على البلاد ويجنبها متاهات
الحرب. وقد وجد هذا النوع من الخطاب أنصارا وبدأ يتشقق الموقف في المجتمع المصري
من خوض حرب التحرير مع إسرائيل، فخصوصا كبار السن كانوا يقدرون هذا الشعور الأبوي
ويتعاطفون مع السادات، ويتحدثون عن الحرب التي لا تأتي بالخير. فيما بعد عرفنا أن
هذه اللهجة نفسها كانت من وسائل السادات التي استعملها لإيهام إسرائيل بأننا لن
ندخل الحرب أبدا.
فيما قبل الحرب لم تكن الجماهير مع السادات أو
ضده، حتى ما سماه ثورة التصحيح (مايو 1971م) والتي أقصى فيها رجال عبد الناصر لم
يتعامل معها الشعب بالحفاوة أو بالإنكار، كأن هؤلاء المغلوبين لقوا جزاء طبيعيا،
فحيث لم يكونوا من اختيار الشعب فليس للشعب منهم موقف، ولعل قائلهم يقول أيضا:
وحيث كانوا من رجال عبد الناصر وقد رحل كبيرهم فلا تثريب أن يرحلوا مثله، ثم لم
يكن منهم أحد معروفا بزعامة ولا له في قلوب الناس مكانة. ولو شئنا أن نقول إلى أي
الجانبين كان الشعب يميل فسنقول بوضوح: إلى جانب السادات، ولعلها كانت عند بعض
الناس من حسناته ومن بشائر عهده.
إلى هنا تنتهي المرحلة الثانوية، ليبدأ الحديث عن
المرحلة الأكبر والأخطر: مرحلة الجامعة..