هذا هو المقال الخامس والأخير من سلسلة "معجزة
الفتوحات الإسلامية"، والتي التزمنا فيها بإثبات كل عناصرها من كلام
المستشرقين والمؤرخين الغربيين، ومنهم من كان متعصبا مبغضا للإسلام وأهله.
ولهذه السلسة أكثر من غرض، إلا أن غرضها الرئيسي في
وقتنا هذا أن نؤسس لحقيقة أن أحدا من الناس لم يكن له مثل رحمتنا وحلمنا بالبشر،
وأن نبينا كان رحمة للعالمين وكانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس، وها نحن نعيش في
عصر استضعاف يأكل فيه الجميع من لحومنا ويشربون من دمائنا ولا ثمة مغيث ولا ناصر،
بل ولا أغاثتنا شعارات الإنسانية والحرية في شيء، وليس الحل –كما يسوق أعداؤنا
وعملاؤه في بلادنا- أن نلقي السلاح وننبذ الإرهاب ونؤمن بالتعايش ونطلب السلام..
لم يكن هذا يوما حل ولن يكون، بل الحل في أن نمتلك القوة ونشهر السيوف ونقتص ممن
ظلمنا ونقاوم من احتل ديارنا أو استبد بنا. ونحن حين نفعل لن نكون مثلهم ولن نتخلق
بأخلاقهم، فكذلك كنا حين امتلكنا القوة وكنا على رأس الحضارة، ولم يستطيعوا عبر
تاريخهم أن يُلزمونا أخلاقهم وطباعهم، فكنا أحلم منتصر وأشرف غالب.
لو كنا مثلهم لما نطق هؤلاء بشيء مما سردناه عبر
المقالات الماضية، إنما أجبرتهم أخلاقنا والحقيقة التاريخية على أن يعترفوا بما
كرهوا، وأول طريق عودتنا لما كنا فيه أن نثق بأنفسنا ورسالتنا ونفقه طبيعة ديننا
وسنة أجدادنا الفاتحين، أولئك القوم الذين لم يقبلوا العار والقهر والضعف، فلما
غلبوا لم يكونوا طغاة جبارين.
لن ننتصر إن غلبتنا الهزيمة النفسية وشاع فينا قول من
يدعونا نحن إلى ترك الإرهاب أو يدعونا إلى السلام والتعايش ونحن المقتولين في كل
مكان! مثل هذا هو نفسه نتيجة الاحتلال الغالب على النفوس والعقول حتى صار يرى الحق
باطلا والباطل حقا!
في هذا المقال الأخير سنختم بذكر بعض عجائب الفتوحات
الإسلامية، وهي جديرة أن تكون حاضرة في الأذهان دائما، وإن كلا منها ليستحق أن
يفرد ببحث خاص، إلا أن المقام لا يتسع لغير الإشارة السريعة العابرة، كلٌ منها
إعجاز تاريخي في نفسه، خرق بها العادة التاريخية في توسع الأمم وانتشارها وأخلاقها
إن غلبت وانتصرت.
1. انهيار ميزان القوة لصالح الخصوم
أجمل هذا الأمرَ المستشرقُ الأمريكي اليهودي المتعصب،
وأحد المعروفين بالعداء للإسلام، برنارد لويس[1]، إذ قال: "خلافا لبناة الإمبراطوريات الآخرين، لم
يكن لدى العرب أي وسيلة خاصة تكتيكية أو فنية من شأنها أن تعلهم يتفوقون على
خصومهم، فلم يكن عندهم ما يشبه الكتيبة المقدونية أو الفيلق الروماني أو جياد غزاة
أمريكا الـ conquistedores أو القوة النارية للمستعمرين (الغربيين). بل
إنهم، باعتبارهم دخلاء جاءوا ليهاجموا الإمبراطوريتين العظيمتين في ذلك الوقت،
كانوا –على العكس- يعانون من نقص في المهارات والتسلح، وكذلك في العدد، ولم تكن
لديهم خبرة قتالية في تشكيلات كبيرة. وفي الأيام الأولى لم تكن لديهم معدات الحصار
ولا أسلحة الحصار، ومن ثم كان كل ما يمكنهم هو أن يطوقوا المدن المحصنة لا أن
يحاصروها. ولم يكن لديهم أي أسطول. وحتى في البر لم يكن يوجد لديهم ما يقابل سلاح
الفرسان المدرع والكتائب cotophracts الموجودة لدى بيزنطة وبلاد الفرس"[2].
فتح في التسامح
كانت الفتوحات الإسلامية آية في رحمة الغالبين، ويعدُّ
كتاب "الدعوة إلى الإسلام" للمستشرق الإنجليزي الشهير توماس أرنولد[3] وثيقة تاريخية كبرى في شأن انتشار الإسلام في كافة
أنحاء الأرض، على أخلاق المسلمين وسماحتهم ورحمتهم بأهل البلاد المفتوحة في كل الأنحاء
شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، وقد تمكن المؤلف لإجادته العديد من اللغات –ومنها
لغات قديمة- من الرجوع إلى وثائق قديمة على ألسنة زعماء الشعوب المفتوحة تشهد بأن
الفتح الإسلامي كان خارقا للعادة التاريخية في سائر التوسعات الإمبراطورية الأخرى
التي تزخر بأنباء المذابح أثناء الفتوح ثم بأنباء الإذلال والاستعباد بعد تمكن
السلطان.
وقد استخلص أرنولد بعد تطواف طويلة وأمثلة عديدة هذه
الخلاصة، يقول: "من هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن ذلك التسامح، الذي بسطه
المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال
المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما
فعلت ذلك عن اختيار، وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين
جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"[4].
وعزا كثير من المستشرقين انتشار الإسلام ورسوخه في
البلاد المفتوحة إلى هذا التسامح، منهم الكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي،
يقول: "خير دليل على العلاقة الطيبة السلمية بين المسلمين وأصحاب البلاد المفتوحة،
أن جميع هذه البلاد (ما عدا إسبانيا) ظلت أمينة للإسلام من القرن السابع إلى القرن
الرابع عشر"[5].
وذلك أمر يخالف تماما سيرة الغالبين في المغلوبين! على
نحو ما يقول جوستاف لوبون: "كان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن
يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على
اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم... فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين
متسامحين مثل العرب، ولا دينا مثل دينهم"[6].
المفتوحون الفاتحون
وهذا من أعجب ما وقع في الفتوحات الإسلامية، ولم تعرفه
سير الأمم الأخرى، إذ سجل التاريخ أن أقواما من أهل البلاد المفتوحة ساعدوا عن
طواعية واختيار ومودة الفاتحين في استكمال فتوحهم، بل –وهذا هو المدهش- أن بعضهم
قد تحول إلى الفاتح الذي يقود الجيش الإسلامي لفتح البلاد التي تليه.
ولا بأس أن نأخذ دليليْن فقط: دليلا من الشرق، وآخر من
الغرب. فأما دليل الشرق فهو ما فعله أهل بخارى وخوارزم –وهم من الترك- وما بذلوه
من مساعدة وعون حربي للقائد قتيبة بن مسلم الباهلي[7]. وأما دليل الغرب فهو أن فاتح الأندلس (طارق بن زياد)
مغربي من الأمازيغ! وهو أمر لا نعرفه في غير التاريخ الإسلامي.
الفتح بالدعوة والبيان
كذلك فإن رقعة
الإسلام ليست هي الرقعة التي فُتِحت بالجهاد والسيف، بل ما تزال مساحة عظيمة من
ديار الإسلام تدين به ولم تبلغها جيوشه، وقد أفرد المؤرخ المعروف د. حسين مؤنس
دراسة لهذا الأمر فجعل عنوانها "الإسلام الفاتح"، وقال
فيها: "أعدت النظر في المصور الجغرافي (للأرض) لأرى ما فتحنا
بجهادنا وما فتح الإسلام بنفسه بالحكمة والموعظة الحسنة فخشعت نفسي، لأنني وجدت أن
الإسلام فتح بنفسه أضعاف ما فتحنا، وأن دعوة الحق في تاريخنا كانت أمضى من كل سلاح،
حتى البلاد التي خضنا المعارك لندخلها كان الإسلام هو الذي فتح قلوب أهلها واستقر فيها،
وجعل بلادهم دياره"[8]، ثم ينتهي إلى القول "أصدق وصف يُطلق على الإسلام
في هذا المقام هو أنه دين طيار، ينتقل من إنسان إلى إنسان ومن أمة لأمة في سهولة
ويسر كأن له أجنحة قدسية تحمله وتجري به مجرى الريح، وإنك لتنظر إلى خارطة الأرض
وتتأمل مدى انتشار الإسلام فتتعجب من سعته، ويزداد عجبك عندما تتبين أن ثلث هذه
المساحة فحسب هي التي فتحتها الدول ودخلت الجيوش فيها بالإسلام، أما الباقي فقد
دخلها الإسلام وملأ قلوب أهلها دون جهد منظم أو سياسة مرسومة لذلك"[9].
وإن قيمة دراسة د. مؤنس في كونها تفصيلا لما هو معروف
بالإجمال، وهو ما شهد به عدد من المستشرقين من قبله، منهم جوستاف لوبون الذي قال: "لم
ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب
التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم
يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس
فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يوما فيوما مع أن الإنجليز، الذين هم سادة الهند في
الوقت الحاضر، يجهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعا إلى الهند لتنصير مسلميها
على غير جدوى. ولم يكن القرآن أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء
منها قط... ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر"[10].
وهكذا نخلص من هذه السلسلة إلى حقيقة تاريخية لا مراء
فيها، وهي أن الفتوحات الإسلامية إنما كانت واحدة من مظاهر الإعجاز التاريخي لهذه
الأمة الإسلامية، وهي ظاهرة خارقة لما جرت عليه عادة التاريخ في انتشار الأمم، وهو
أمر لم نستدل على شيء منه إلا بأقوال المؤرخين والمستشرقين من غير المسلمين.
[1] برنارد
لويس (1916 - ... ) مستشرق أمريكي يهودي متعصب، ومن أبرز خبراء الاستشراق، ويعده
الكثيرون آخر جيل الاستشراق القديم، وقد طال عمره حتى تجاوز الآن مائة عام وواحد،
وكان من أساتذة جامعة برنستون عش الاستشراق، وله دراسات كثيرة مشهورة في حقل
التاريخ والسياسة الإسلامية.
[3] توماس
أرنولد (1864 - 1930م) من أشهر المستشرقين البريطانيين، أمضى في الهند عشر سنوات،
وعمل أستاذا للفلسفة بجامعة لاهور، وكان من خبراء وزارة الخارجية البريطانية وعضوا
بتحرير دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت في ليدن، وعمل أستاذا زائرا بالجامعة
المصرية، وعرف بكتابه "الدعوة إلى الإسلام" لما فيه من مجهود ضخم هائل
وإثبات لانتشار الإسلام بالدعوة وتسامح الفاتحين المسلمين.
[4] تومارس
أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، (القاهرة: مكتبة
النهضة المصرية، 1980م)، ص70.