اقرأ أولا: معجزة الفتوحات الإسلامية
جرت عادة التاريخ في الفتوحات العظيمة أن تكون على طريقة
من اثنتيْن: فتوحات قوية تُسفر عن حكم راسخ لكنها تتم في زمن طويل، أو فتوحات
سريعة صاعقة تهيمن على مساحة كبيرة في وقت قصير لكنها ما تلبث أن تزول دون أن تترك
أثرا كبيرا في صفحة التاريخ. ويُضرب المثل على الفتوحات القوية الطويلة بالدولة
الرومانية، كما يضرب المثل بالفتوحات السريعة الزائلة بالحروب المغولية.
لقد خرقت الفتوحات الإسلامية هذه العادة التاريخية، فقد
حققت الطريقتيْن معا: فتوحات قوية وسريعة هيمنت على أجزاء واسعة في وقت قصير، ثم
إنها ظلت راسخة مكينة لمئات السنين، فمثلت بهذا لحظة تاريخية فارقة، بل إن بعض المؤرخين
-كالبلجيكي هنري بيرين- رآها "النقطة التي تميز النهاية الحقيقية للحقبة
القديمة في التاريخ" فيما رآها مؤرخون آخرون كالألماني فلهاوزن والأمريكي بيكر
والإيطالي كايتاني على أنها "العامل الرئيسي في تاريخ العالم"[1].
بنى هؤلاء
المؤرخون أقوالهم لما رسخته الفتوحات الإسلامية من واقع جديد، ذلك أن ثبات الخرائط
بعد عصر الفتوح هو أبلغ دليل على الرسوخ والتمكن، وفي هذا يقول المستشرق النمساوي
جوستاف جرونيباوم[2]: "كانت السرعة الفائقة التي فتح الإسلام بها ما
فتح من البلاد، ولم يُضف إليها بعد ذلك أو يفقد منها شيئا كبيرا، كانت هذه السرعة
نفسها هي التي جعلت توزيع العالم المتحضر نهائيا ثابتا منذ زمن باكر يرجع إلى
منتصف القرن الثامن"[3].
رسمت الفتوحات الإسلامية مصائر التاريخ، أو بعبارة إليسكي
جورافيسكي[4]: "ظهور الدين الإسلامي وترسخه السريع والقوي على أراض آسيوية
وإفريقية واسعة في أثناء مسيرة الفتوحات العسكرية الدينية للعرب، حدَّد بصورة
حاسمة مصائر المسيحية الشرقية التي قابلت الدين الجديد (الإسلام) دون أي مقاومة،
بل وبالترحاب في كثير من المناطق"[5].
وذات المعنى يصوغه بعبارة أجمل إدوارد بروي إذ يقول:
"ظهر الإسلام كالشهاب الساطع، فحيَّر العقول بفتوحاته السريعة القاصمة،
وباتساع رقعة الإمبراطورية التي أنشأها. نحن أمام شعب كان للأمس الغابر مجهول
الاسم، مغمور الذكر، فإذا به يتحد ويتضامّ في بوتقة الإسلام، هذا الدين الجديد
الذي انطلق من الجزيرة العربية، اكتسحت جيوشه ببضع سنوات الدولة الساسانية وهدت
منها الأركان، ورفرفت بنوده فوق الولايات التابعة للإمبراطورية البيزنطية في آسيا
وإفريقيا، باستثناء شطر صغير منها يقع غربي آسيا الصغرى، ولم تلبث جيوشه أن استولت
بعد قليل على معظم إسبانيا وصقلية وأن تقتطع لأمد من الزمن، يقصر أو يطول، بعض
المقاطعات الواقعة في غربي أوروبا وجنوبيها، ودقت جيوشه بعنف شديد أبواب الهند
والصين والحبشة والسودان الغربي وهددت غاليا والقسطنطينية بشر مستطير. وقد تهاوت
الدول أمام الدفع العربي الإسلامي كالأكر، وتدحرجت التيجان عن رؤوس الملوك كحبات
سبحة انفرط عقدها النظيم، وهذه الأديان التي سيطرت على الشعوب والأقوام الضاربة
بين سيرداريا والسنغال، ذابت كما يذوب الشمع أمام النار"[6].
ويتابع جوستاف جرونيباوم وصفه للفتوحات فيقرَّ بأنها تمت
في سرعة لا يصدقها عقل، يقول: "استطاع الإسلام أن يقتطع رقعة دولته في مدى
قرن واحد بالضبط، وذلك بين وفاة النبي [صلى الله عليه وسلم] في 632 ومعركة تور
وبواتييه (بلاط الشهداء)، وكان النبي قد أسس في السنوات العشر الأخيرة من حياته
دولة حاضرتها المدينة، قوية الهيمنة على الحجاز وبعض أجزاء نجد وتفرض سلطانها
بدرجة أقل، على الأجزاء الأخرى من الجزيرة العربية ذاتها. وكأنما كانت وفاته
إيذانا بردة الأعراب الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم. حتى إذا سُحِقَتْ هذه
الحركة النافرة عن مركز الإسلام، بدأ في التوسع في سرعة لا يكاد يصدقها عقل"[7].
لذلك وصفها ويلز[8] في تاريخه الموجز للعالم بأنها "أعجب قصص الفتوح التي
مرَّت على مسرح تاريخ الجنس البشري"[9]، وتعجب كذلك مؤرخ الحضارة الأشهر ول ديورانت[10] فقال: "أصبحت الفتوح العربية -التي كانت أسرع من الفتوح
الرومانية، وأبقى على الزمان من الفتوح المغولية- أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ
الحربي كله"[11]، ويتابع: "لقد علم الإسلام الناس أن يواجهوا صعاب الحياة،
ويتحملوا قيودها، بلا شكوى ولا ملل، وبعثهم في الوقت نفسه إلى التوسع توسعا كان أعجب
ما شهده التاريخ كله"[12].
وذات العجب يردده الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرو[13] في قوله: "المدهش حقا أن نلاحظ هذا الشعب العربي -الذي
ظل منسيا أجيالا عديدة، بعيدا عما يجري حوله- قد استيقظ فجأة ووثب بنشاط فائق أدهش
العالم، وقلبه رأسا على عقب، وإن قصة انتشار العرب في آسيا وأوربا وإفريقيا، والحضارة
الراقية، والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم، هي أعجوبة من أعجوبات التاريخ! إن الإسلام
هو الباعث والفكرة لهذه اليقظة العربية؛ بما بثه في أتباعه من ثقة ونشاط"[14].
مثل هذه الأقوال، وكثير غيرها سنعرض لبعض منه في
المقالات القادمة إن شاء الله، تمثل مادة يتزود منها الخطيب إذ يقف على المنبر،
والكاتب إذ يسطر للصحيفة، والمتحدث إذ يرسل صوته عبر الإذاعة والشاشة. فالمؤسف
أننا نجد بعضا من أولئك يقف موقف المدافع المتردد ذي الخجل وهو يتحدث عن الإسلام
فيما حقه أن يقف موقف الفخر والاعتزاز، كيف وهو يستطيع أن يسوق حجته كلها من أقوال
قوم ليسوا بمسلمين وبعضهم من أعدائه.
لئن كانت الحروب ظاهرة طبيعية في التاريخ، فإن الفتوح
الإسلامية هي الظاهرة الخارقة، ليست فقط خارقة بما حققته من إنجاز بل بما أثمرته
من نتائج مدهشة، هذه الدهشة سنتناولها بإذن الله تعالى في المقال القادم.
نشر في مدونات الجزيرة
[1] فرانشيسكو
جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام"
بإشراف: جوزيف شاخت وكليفورد بوزوروث، ترجمة: د. محمد زهير السمهوري وآخرون، سلسلة
عالم المعرفة 11 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987م)، 1/88، 89.
[2] جوستاف
جرونيباوم (1909 – 1972م) مستشرق نمساوي هاجر إلى أمريكا بعد ضم ألمانيا للنمسا،
وهناك حصل على الجنسية الأمريكية وترك ديانته اليهودية إلى الكاثوليكية، وكان
أستاذا لقسم الدراسات الشرقية بجامعة كاليفورنيا.
[3] جوستاف
جرونيباوم، حضارة الإسلام، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: الهيئة
المصرية العامة للكتاب، 2014م)، ص15.
[4] أليسكي جورافيسكي:
متخصص في تاريخ العلاقات الحضارية بين الشعوب، يعمل في معهد الاستشراق التابع
لأكاديمية العلوم الروسية.
[5] أليسكي
جورافيسكي، الإسلام والمسيحية، ترجمة: د. خلف محمد الجراد، سلسلة عالم
المعرفة 215 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نوفمبر 1996م)، ص149.
[6] إدوارد
بروي، القرون الوسطى، ضمن "تاريخ الحضارات العام" بإشراف:
موريس كروزيه، ط2 (بيروت: منشورات عويدات، 1986م)، 3/109.
[8] هربرت
جورج ويلز (1866 – 1946م) روائي ومؤرخ بريطاني رغم أن دراسته في مجال العلوم، أصدر
عددا من الروايات ثم اتجه إلى التاريخ وأصدر عددا من المؤلفات، ثم اتجه إلى التنبؤ
بما يكون في المستقبل.
[9] هـ. ج. ويلز،
موجز تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: مكتبة النهضة
المصرية، 1967م)، ص204.
[10] ول
ديورانت (1885 - 1981م) مؤرخ الحضارة، أمريكي، بدأ حياته صحفيا، وشغف بالفلسفة ثم
عكف على دراسة تاريخ الحضارة حتى أخرج موسوعته الأشهر "قصة الحضارة"
بعدما أمضى في تأليفها أربعين عاما، وصدرت طبعتها العربية في 32 مجلدا، بالإضافة
إلى كتب أخرى مثل "قصة الفلسفة" و"مباهج الفلسفة".
[13] جواهر لال
نهرو (1889 - 1964م) أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند وأول رئيس وزراء بعد
الاستقلال، ومن مؤسسي حركة عدم الانحياز، أنجب ابنة وحيدة هي أنديرا غاندي التي أصبحت
بعد ذلك رئيسة للوزراء.
[14] جواهر لال
نهرو، لمحات من تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز عتيق، دار المعارف، القاهرة،
1958م. ص23، 24.