حين بدأ الجغرافي العلامة د. جمال حمدان موسوعته
عن "شخصية مصر"، عقد فصلا في أولها ليتحدث عن علم الجغرافيا وعلاقته
بالشخصية الإقليمية، قال: "ليس هدفنا أن نشرح المكان لنقدم عن أعضائه وأجزائه
موسوعة كتالوجية وصفية، إن تكن ضافية وافية إلا أنها خاملة راكدة. ولكن الهدف أن
نعتصر "روح المكان" ثم نستقطره حتى يُستقطب في أدق مقولة علمية مقبولة
ويتركز في أكثف كبسولة لفظية ممكنة. ولمثل هذا فنحن بحاجة إلى جغرافية تركيبية في
المقام الأول، جغرافية علوية رفيعة، قل "سوبر جغرافيا"، لا تقف عند حدود
وصف المكان بل تتعداه إلى فلسفة المكان"[1].
هذا الذي قيل هو ما نحتاجه من كل ذي تخصص في
تخصصه، أن يبذل المجهود في وَصْلِنا بالروح ما استطاع، فتكون المعلومات بمثابة
الغذاء المهضوم والرحيق المختوم، لا قِطَعًا جامدة يعسر هضمها ويتطاير شذاها فلا
يُفاد منها.
إن حقيقة العلم وثمرته لا تكمن في حشد التفاصيل
بل في استخلاص الخلاصات منها، وقد أطال علماؤنا في شرح هذا المعنى، فقال مالك:
"إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب"[2]، وقال ابن
تيمية: "من نَوَّر الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك (العلم)، ومن أعماه لم
تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالا"[3]،
وقال ابن رجب: "فليس العلم بكثرة الرواية ولا كثرة المقال، ولكنه نور يقذف في
القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة
للمقاصد"[4]. وعلى عظيم
ما استفادت الأمة من الحفاظ إلا أن استفادتها كانت أعظم من ذوي العقول التي جمعت
هذا الحشد العظيم في أصول وثوابت، وقد جاء في الحديث تقديم الفقهاء على الحفاظ
فقال r: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا،
فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء
فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما قيعان[5] لا تمسك ماء
ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم،
ومَثَل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به"[6].
ينبغي على الدارس أن يذهب وراء التفاصيل ويبحث
في الأعماق، وعليه أن يجتهد فهي عملية شاقة، حتى تصير له هذه الملكة، فيلتقط من
التفاصيل المغزى المكنون، أو يضعها في نظام يفضي إلى نموذج تفسيري منضبط.
وكلما تعمق الباحث في دراسة تاريخ المنطقة أو
الموضوع محل البحث، كلما كان أحسن إدراكا لثوابته ومتغيراته، فما تكرر في التاريخ
والواقع أدعى أن يكون من الثوابت والأصول، وما تغير في الواقع عما كان في التاريخ
أدعى إلى أن يكون من المتغيرات والفروع.
ولا ريب أن من عرفوا الغرب وعاشوا فيه طويلا أو
اهتموا بتراثه هم المقدمون في هذا الجانب، وكلمتهم فيه هي المقدرة، ومثلهم -وربما
أهم منهم- من نشأوا في الغرب ثم اعتنقوا الإسلام، بل ولا نرى بأسا في أن نستفيد
بالتحليلات الغربية للروح الغربية في هذا الباب، فالقوم في النهاية أقدر على تعريف
أنفسهم بدقة من غيرهم على تعريفهم وإن افتقدوا نظرتنا للأمور وقواعدنا في الحكم
على الأشياء، فكم في الكتب الغربية من تفسيرات قوية قادرة على حل الإشكاليات
البحثية المطروحة وتقديم نماذج تفسيرية ممتازة ومتميزة.
ولنضرب بعض الأمثلة على ما نريد قوله من البحث
وراء التفاصيل أو جمعها في تفسير واضح، ولا يعنينا الآن أكانت مدحا أم ذما:
1. من الجغرافيا إلى الوطنية إلى العنصرية: "الوطنية من لوازم الطبيعة الأوربية،
بينما تخف في آسيا، وذلك من آثار الطبيعة الجغرافية، فآسيا تتمتع بجغرافيا متسعة
وخصب وفير، أما في أوربا فالتنازع على البقاء شديد، والكفاح للحياة دائم مستمر، لتزاحم
العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة، وقد حصرت الجبال والأنهار الأجناس الأوربية
في نطاق طبعي دائم، وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون منشأ لممالك ضيقة صغيرة، لذلك
كان التصور السياسي في أوربا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها
على أميال مستقلة استقلالا تاما، وأكبر مظهر لهذا التصور أرض اليونان حيث وُجدت من
فجر التاريخ عشرات من مدن صغيرة مستقلة، فلا عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونها،
وكانت الفكرة العالمية التي نادى بها بعض حكمائهم كسقراط وانكساغورس شاذة لم تنل أنصارا
في يونان، فكان نظام أرسطو مبنيا على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني، وكان حب
الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان، ولم يكتفِ أرسطو بحب
وطنه فحسب بل قال: إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب كالبهائم. وراجت هذه
الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية حتى لم يقبل اليونانيون قول فيلسوف
منهم يعلن أن بِرَّه سيكون لجميع اليونانيين وليس لأهل وطنه فحسب، فتعجبوا ونظروا إليه
شزرا"[7].
2. الداروينية في الفن: "لنضرب مثلا بالكارتون المسمى توم وجيري،
الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل
(التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقيا، فهي لذيذة وذكية وناجحة) للقضاء على خصمه القط
الغبي ثقيل الظل، وليلاحظ أن القيم المستخدمة هنا قيم نسبية وظيفية برجماتية، لا
علاقة لها بالخير أو الشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، ولا تفرق بين الظاهر والباطن.
كما أن الصراع بين الاثنين لا ينتهي، يبدأ ببداية الفيلم ولا ينتهي بنهايته،
فالعالم حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التي
تلبس ثياب القط والفأر: توم وجيري"[8].
3. سمات التراث الغربي: "هناك سمات عامة مشتركة تتخلل كل هذا
النتاج التراثي (الغربي) بالرغم من تعدده، لا فرق في ذلك بين تراث الغرب الرأسمالي
وتراث الغرب الاشتراكي، فكلاهما تراث سيطرة وهيمنة، بين تراث الطبقة المسيطِرة والطبقة
الـمُسَيْطَر عليها، فكلاهما تراث عنصري. وهي السمات المشتركة التي توجد في أعماق
اللاوعي الأوروبي الحضاري بل وفي وحدة شعور الأوروبي"[9].
4. أول حضارة ملحدة: "وحينما سئل فاكيلاف هافل (رئيس جمهورية التشيك)
عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، أجاب قائلا: هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش
في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري، فلم يعد الناس يحترمون ما يُدعى القيم الميتافيزيقية
العليا، والتي تمثل شيئا أعلى مرتبة منهم، شيئا مفعما بالأسرار، وأنا لا أتحدث هنا
بالضرورة عن إله شخصي، إذ إنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز، هذه الاعتبارات الأساسية
كانت تمثل دعامة للناس وأُفقا لهم؛ ولكنها فُقدت الآن، وتكمن المفارقة في أننا بفقداننا
إياها نفقد سيطرتنا على المدنية، التي أصبحت تسير من دون تحكم من جانبنا، فحينما أعلنت
الإنسانية أنها الحاكم الأعلى للعالم، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده
الإنساني"[10].
نشر في الخليج أون لاين