تغمرني فرحة لاشك حين يمتليء فضاء الشباب بنقاش نقد
الدولة المركزية الحديثة، ذلك أني أتذكر نظرات الارتياع التي كنت أستقبلها حين كنت
أطرح هذا النقد منذ ثماني سنوات، كان الناس آنئذ يتخيلون أن هذا الطرح خارج الزمن
وخارج العقل وخارج المنطق، وتلك هي "آخرة الفلسفة" أن تكون "زي عمو
ده"!!
وكما قال أخي الكريم د. دسوقي أحمد فإن النقاش يجب أن
يأخذ سبيله نحو الحل والتركيب بعد أن أوسع الشباب نموذج الدولة الحديثة نقدا
وتفكيكا، ولمجرد الإسهام البسيط في هذا الطرح كانت تلك السطور..
وسنعتبر أن قراء هذه المقالة ممن استوعبوا ضرر وخطر
نموذج الدولة الحديثة، وممن استوعبوا منشأها وكيفية ظهورها، والفوارق بينها وبين
ماضي الدول بشكل عام، ثم بينها وبين الدولة الإسلامية كما ظهرت تاريخيا.
***
أهم ملامح الواقع:
1. أننا في دولة مركزية حديثة
2. هذه الدولة نشأت وتعمل تحت رعاية وعناية الهيمنة
الخارجية، وهي هيمنة الأعداء
3. الأعداء –بالفعل- يسيطرون على أخطر مفاصل الدولة:
المال والسلاح والمعلومات = الاقتصاد، الجيش والشرطة، المخابرات وأجهزة الأمن.
***
حقائق على الطريق:
1. لا يمكن بناء استقلال من أي نوع بدون مواجهة مع مركز
الهيمنة وأدواته (أمريكا وأتباعها في الداخل)
2. لا يمكن مواجهة نموذج الدولة المركزية الحديثة بغير
تفكيك، أو على الأقل، تحييد أهم هذه المفاصل الواقعة تحت سيطرة العدو الخارجي
3. ولا يمكن الانتقال من نموذج الدولة المركزية الحديثة
إلى نموذج أقل في السيطرة إلا عبر طريقين:
- مواجهة شاملة كما في الثورات على غرار النموذج السوري
والليبي (وهذا ما لا يريده أحد، ولعله إن وُجِد فإنه لا يستطيعه، وبشكل عام فإن
المشهد المصري يبدو أنه تجاوز هذا الاحتمال إلا أن يحدث انقلاب عسكري فج أو احتلال
خارجي فهذا قد يكون شرارة لمسار غير محسوب)
- صعود رئيس يعبر عن تيار شعبي على رأس هذه الدولة
المركزية، يستوعب خطرها وضررها، ثم يقوم هو بذاته وعبر المؤسسات المنتخبة بالتقليص
من سلطات الدولة مع منح صلاحيات ومساحات أوسع للمجتمع والعمل الشعبي (سيظهر هنا
تخوف الاختراق الخارجي لمنظمات المجتمع المدني والحركات الشعبية.. لكن لهذا حديث
آخر)
4. وباعتبار أن الجميع يريد الانتقال الآمن فإن أطراف
الفعل السياسي ستنقسم إلى طائفتين:
- الإسلاميون سيدركون عاجلا أم آجلا أن نموذج الدولة
المركزية الحديثة يجعلهم رهنا بالنظام العالمي وأسرى في دهاليزه، وبعيدا عن احتمال
الخيانة أو التفريط في المنهج، فسيكون أمامهم مساران: الأول ينتهي بهم ككلاب حراسة
للنظام العالمي، والثاني محاولة مجاهدة النظام العالمي هذا عبر بناء دولة مستبدة
قوية على غرار مشروع محمد علي أو الاتحاد السوفيتي أو النموذج الإيراني (وكل
المشاريع من هذه النوعية فشلت وسقطت تماما كالمشروع العلوي والسوفيتي أو في مرحلة
الأفول كالإيراني)
- العلمانيون يُدركون تماما أهمية نموذج الدولة المركزية
الحديثة بالنسبة لهم، يدركونها أكثر بكثير من الإسلاميين، ويعرفون أن وجودهم فرع
من وجودها وأن انتهاءها مقدمة لنهايتهم، فهم سيتشبسون بها إلى آخر ما في جعبتهم،
لا سيما بأقوى مفاصلها: الجيش والمخابرات، فإن فشلوا فأمامهم ثلاثة مسارات: أن
يتمسلموا (كما تحولوا وتلونوا تبعا للنظام.. وتلك سيرة المنافقين) أو أن ينزووا في
مجاهل النسيان حيث يتجاوزهم الواقع والتاريخ أو أن يغادروا تلك البلاد (المتخلفة
أهلها إلى حيث يعيشون الانسجام النفسي في الغرب: أرض العلمانية)
***
ماذا يفعل الإسلاميون؟
العقبة الوحيدة التي ظلت واقفة في حلق نموذج الدولة
المركزية هي "التماسك المجتمعي"، حيث عجزت الدولة الحديثة عن فرض
نموذجها على مناطق القبائل والعائلات، على المناطق ذات التماسك الإنساني والعادات
والتقاليد الراسخة.. وفي تلك البقاع اتخذت الدولة سبيل التصفية والمواجهات العنيفة
أحيانا ثم لم تنجح، أو سبيل التفاهم والتواصل مع الرموز والعائلات والمراضاة وفي
هذه الحالة تحقق استقرار أقل من أن يُرضي نموذج الدولة لكنه أفضل من أن يشعل في
وجهها صراعا!
الدولة المركزية الحديثة تريد مواطنا يسلم كل أوراقه لها،
إن أراد بناء بيت طلب منها التصريح، أو أراد التعلم ذهب إليها بأوراقه، أو أراد
معرفة العالم فتح قنواتها الرسمية وصحافتها الحكومية، فإن دخل في نزاع هرع إلى قسم
الشرطة وانتظر حكم المحكمة.. المواطن الصالح المسالم هو من يرى الدولة أمه وأباه
بل ربه ومعبوده يلجأ إليها إذا شيك بشوكة.
ما يقلق ذلك النموذج هو نفوذ خارج هيمنتها مثل تملك
الأراضي بوضع اليد، وتعليم خارج سياقها مثل الكتاتيب والمساجد، أو إعلام خارج
قنواتها مثل المنابر، أو قضاء خارج منظومتها مثل المجالس العرفية، أو ولاء خارج
دهاليزها مثل كبير العائلة وشيخ البلد وشيخ المسجد.. وهكذا!
والنظام الإسلامي هو أكثر الأنظمة سعيا في بناء شبكة
العلاقات الاجتماعية هذه، وهذا باب زاخر حافل فياض في النصوص الإسلامية، فعلاقة
الدين تؤسس لولاء أساسي كبير لا ينفصم ولا يجوز له أن ينفصم تحت أي ظرف، وصلة
الرحم تؤسس لبناء العائلة والقبيلة والعشيرة، وحقوق الجار تؤسس لبناء شبكات
جغرافية في الشوارع والأحياء والمناطق، ويظل المسجد –ذلك البناء الأول والحصن
الأخير- موجودا في كل بقعة يفرض على الناس أن يجتمعوا فيه كل يوم خمس مرات على
الأقل، وهو صالح دائما لأن يكون مركز تعليم ووسيلة إعلام وجمعية خيرية لحل مشكلات
المنطقة.. المسجد بحد ذاته نموذج إسلامي فريد استطاع بناء مجتمعات منسجمة وقد كانت
في غاية التنافر في وقت قياسي.
كما هو النظام الإسلامي أكبر الأنظمة سعيا في مقاومة
التسلط والاستبداد، فهو يعطي لكل أحد حق مقاومة المنكر الصادر عن أي أحد (بشرط
العلم والقدرة) حتى لو كان هذا المنكر صادرا عن رأس الدولة نفسه، بل إن سيد
الشهداء هو من قتله المستبد حين قام بواجبه، والشهادة هي غاية كل مسلم والجهاد هو
ذروة سنام الإسلام.
فالخلاصة من كل ما سبق هو أن واجب الإسلاميين استثمار
المساجد بأقصى الطاقة الممكنة، ففي المساجد تولد المجتمعات المتماسكة وتنشأ شبكات
العلاقات المفرغة، مع الاهتمام بشكل خاص بأمر الروابط هذا: كصلة الرحم وحقوق
الجوار والتعاون على البر والتقوى.. هذه المعاني ينبغي أن تكون الخطاب الإسلامي
العام في المرحلة المقبلة.
سيكون النجاح مرهونا بخروج هذا المجتمع من سلطة الدولة
طوعا، وأبسط مظاهر هذا النجاح هو لجوء المتخاصمين إلى الفقيه والشيخ ليقضي بينهم،
وانتشار جلسات القضاء العرفي، وازدهار العمل التطوعي في المساجد وخارج المساجد
تعليما وتثقيفا وتنمية وتعاونا على البر والتقوى، أن تكون المساجد ملجأ من لا ملجأ
له في المسرات والمضرات، أن يقوم المسجد بحل مشكلات الأحياء.. وهكذا!
الرئيس الإسلامي الرشيد سيرى في هذه الشبكات إضافة له لا
خصما من رصيده، لأن المجتمع سيرفع عن الدولة أعباء ضخمة: عن الشرطة والقضاء
والاقتصاد والبطالة.. مجهود المجتمع بشكل عام هو إضافة للحاكم الرشيد، وذلك الحاكم
يشجع هذا ويطوره من خلال إتاحة مساحات أوسع لعمل المجتمع، من خلال رعاية أنظمة
الأوقاف وتشجيع الأعمال التطوعية والمبادرات الشعبية، بل ويستفيد من هذا في مجالات
هي من صميم عمل الدولة كالدبلوماسية الشعبية والقوة الناعمة.
في لحظة قوة المجتمع يكون الخروج من نموذج الدولة
المركزية سريعا ولكنه بطريقة متدرجة وآمنة، وسيظل الشرط هو تحييد مؤسسات الدولة
المركزية الأقوى كما ذكرنا مع صلابة الحاكم في رعاية هذا التطور أمام الرفض
الخارجي الذي سينزعج إلى المالانهاية وهو يفقد السيطرة على كنز امتلكه قرونا، وصار
الحصان الاجتماعي جامحا هائلا من بعد ما استطاع الإمساك بقرونه طويلا يوم أن جعله
خروفا!
وأهم مما سبق أن المجتمع في سيره نحو الدولة اللامركزية
سيبتكر الحلول التفصيلية للمشكلات والعقبات اليومية، وهي تلك التفاصيل المفقودة في
نقد الناقدين للدولة الحديثة، والذي يشكو منه من يطالب بحل عملي بعدما سئم مجرد
النقد للنموذج القائم.
في الحقيقة ليس من أحد يمتلك تصورا متكاملا تفصيليا لما
يأمل أن يكون عليه الوضع، لأن الواقع يفرض جديدا وهذا الجديد يفرض على العقل أن
يبتكر حلا، ثم ينشئ هذا الحل واقعا جديدا بظروف جديدة (الجدلية المعروفة بين
الفكرة والواقع).. ولن يستطيع أحد إعطاء الكلمة الأخيرة في تصور نهائي.. وحده
الواقع العملي المتجه إلى ذلك المسار هو من يصحح نفسه في ذلك السير.
ولقد يصدق في هذا قول الشاعر:
من لي بمثل سيرك المدلل .. تمشي الهوينا
وتجيئ في الأول
وقبل هذا وبعده يظل قول الله تعالى خالدا (والذين جاهدوا
فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)