كتبه: د. محمد بريك - هذَّبَه: محمد إلهامي
المتون القوية والكتابات النافعة هي التي تجد لها عناية
بين الباحثين، فثمة من يشرحها، وثمة من يختصرها ويهذبها، وثمة من يكتب حواشيه
عليها، وثمة من ينظمها شعرا لتخلد مادتها ويسهل هضمها.
وقد كانت كتابات الأخ الكريم والأستاذ الفاضل محمد بريك –وهو
الباحث في العلاقات المدنية العسكرية بجامعة ريدنج من أنفس ما كُتِب في الموضوع
منذ أعقاب الثورة المصرية وحتى اللحظة، وقد استأذنته في تبسيط ما أراه نافعا منها
بتخليصها من المصطلحات الأكاديمية ومن الإسهاب فأذن لي مشكورا، وهذا هو التهذيب
الأول لمقاله "ملاحظات عاجلة حول مسودة الدستور" الذي نشره على جزأين،
وهو مقال قيّم نحب أن تنتشر فكرته بأوسع مما تقتضي صياغته البحثية الرصينة.. فإلى
نص التهذيب.
***
لا يُنشئ الدستور وضعا سياسيا جديدا بقدر ما يكشف عن
موازين القوى السياسية، ولهذا فإن التحليل السياسي للواقع ضروري لإدراك مدى جودة
الدستور وتلبيته لمتطلبات الوطن من حيث الأولويات والمخاوف التي تفرضها المرحلة
الحالية والخبرة التاريخية.
على أننا سنتجاوز هذا التحفظ لنقدم قراءة لمسودة الدستور
في شقين؛ الأول: النظام السياسي وصلاحيات الرئيس، والثاني: وضع المؤسسة العسكرية.
باعتبارهما مجال تخصصي الذي أملك ما أكتبه فيهما!
(1)
أولا: النظام السياسي
ثمة ثلاث أنواع من الأنظمة: النظام الرئاسي الذي يكون
رئيس الجمهورية صاحب الصلاحيات الأوسع، والنظام البرلماني وفيه تكون الصلاحيات
لرئيس الحكومة، والنظام المختلط (البرلماسي) حيث يتقاسم الرئيس ورئيس الحكومة
الصلاحيات، وعادة ما يكون الرئيس مختصا بالسياسة الخارجية والأمن القومي بينما
يختص رئيس الحكومة بالتنمية والسياسة الداخلية.
وفي هذا السياق نرصد ملاحظتين على مسودة الدستور:
1. لا يوجد بالمسودة توزيع واضح للاختصاصات: إذ يظهر أن
الرئيس هو المسؤول الأول بالدولة وله تفويض غيره، لكن اختصاصاته غير واضحة خصوصا
والمادة (156) تزيد الأمر غموضا وهي تنص على "يضع الرئيس السياسات العامة للدولة،
ويشرف على تنفيذها، بالاشتراك مع الحكومة".
2. صلاحيات الرئيس قريبة جدا من النظام الرئاسي: وذلك من
خلال أربع مواد
أ. مادة (145) التي تعطي الرئيس حق تشكيل الحكومة دون أن تلزمه
باختيار واحد من حزب الأغلبية البرلمانية، فإن رفض البرلمان برنامج الحكومة يحاول
الرئيس مرة أخرى، فإن رُفِض فإما أن يقبل باقتراحات من مجلس الشعب أو يقوم هو بحل
البرلمان ودون استفتاء في هذه الحالة (!!) [وهذه المادة تناقش حالة مختلفة عن
الحالة التي تناقشها المادة (129) والتي تُلزِم الرئيس باستفتاء شعبي قبل إقدامه
على حل البرلمان، بدليل أن المادة (145) لا تناقش ما إذا جاءت نتيجة الاستفتاء
بالرفض]
ولا يمكن اعتبار هذه المادة بهذا الشكل نظاما مختلطا
(برلماسيا) بل هي نظام رئاسي، فهي تجعل البرلمان (وحزب الأغلبية) أضعف موقفا من
الرئيس في حال الخلاف.
ب. مادة (149) التي تنص على أن "للرئيس حق تعيين الموظفين العسكريين
بالدولة وحق عزلها"، وهو أمر مخالف للعرف الديمقراطي ومخالف للنظام
البرلماسي، فالوظائف العسكرية تحديدا يجب أن يمنع الرئيس من الاستفراد بها لئلا
يصبغها بلونه السياسي (كما في تجربتنا المصرية)، فيمتلكها إن كانت المؤسسة ضعيفة
أو يرضخ لها وتفرض نفسها عليه إن كانت قوية (كما في باكستان)، والنظام الأمريكي
(وهو برلماسي أقرب للرئاسي) يفرض ضرورة تصديق مجلس الشيوخ على الترقيات العسكرية
دون القيادية.
جـ. مادة (183) التي تعطي للرئيس حق تعيين أعضاء ورئيس المحكمة
الدستورية العليا ولاتشترط تصديق البرلمان! وهذه تحاكي صلاحيات مبارك ولا يوجد حتى
في النظام الأمريكي (الرئاسي) الذي يشترط موافقة البرلمان.
د. مادة لم أجدها في المسودة ولكن تحدث عنها رئيس لجنة الأمن القومي بالجمعية
التأسيسية في برنامج يسري فودة (حلقتان متتاليتان) عن أحقية الرئيس في استدعاء القوات
المسلحة لحفظ الأمن الداخلي بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني. (فإما أنها غابت عن
ناظري فأرجو من يرشدني إليها، وإما لم تُكتب في هذه المسودة وستكتب لاحقا، وإما
أُلْغِيت.. وإلغاؤها هذا أخطر ما في الموضوع لأن هذه المادة هي موطن الاستبداد
ومفتاحه وهي مما يجب أن تكتب في الدستور ولا تترك للقانون –فالقانون تغييره سهل-
أو للمزاج، فهي التي تسمح للرئيس باستعمال الجيش في ضبط الوضع الداخلي لصالحه، ولا
بد أن يكون مثل هذا القرار مناصفة بين الرئيس وبين أغلبية برلمانية مريحة وليس
توافقا بينه وبين الجيش كما تقول المادة، بل ربما يجب اشتراط موافقة رأس السلطة
القضائية (وخصوصا في حالة غياب البرلمان) كي لا نصطدم باستبداد جديد خصوصا
ومؤسساتنا لم تتدرب بعد على التمييز والفصل بين ماهو مهني وماهو سيادي.
واعتبارا لما سبق فإنه من التدليس والتحريف وصف هذا
النظام بالبرلماسي، بل هو رئاسي صريح، ولا بأس أن تضع التأسيسية نظاما كهذا شرط أن
تكون صريحة في وصفه وأن تشرح منطقها في هذا، فالفصائل السياسية في مصر تكاد لا
تتفق على شيء إلا على أن يكون النظام برلماسيا.
(2)
وضع المؤسسة العسكرية
ثمة أربعة أمور مهمة يجب لفت النظر إليها قبل الخوض في
هذه المسألة:
أولا: أنتجت حالة
الجهل بـ "علم العلاقات المدنية العسكرية" في بلادنا حالة من التشوش على
التصور نفسه حتى ظهر في بلادنا من يرى ضرورة استقلال القوات المسلحة أو ضرورة
انفرادها بميزانيتها وسريتها وما إلى ذلك.. وهذه أمور منقرضة في الدول التي تخلصت
من الحكم العسكري منذ عقود.
ثانيا: أن مرحلة
التحول الديمقراطي هي أكثر المراحل خطورة وحساسية بالنسبة للعلاقات المدنية
العسكرية، ولهذا يجب أن نفهم أربعة قواعد حاكمة وأساسية في النظام الديمقراطي:
1. حتمية الفصل التام بين العسكريين وبين المنافسة على
أي سلطة.
2. أي تدخل للعسكريين في الحياة المدنية –حتى في غير
مجال السلطة- ممنوع، اللهم إلا في حالة طارئة ومؤقتة (ليست كوتة ثابتة مثلا في التعيينات
المدنية، أو وضع اقتصادي مستقل ودائم) وتحت إشراف مدني كامل وباتزان بين السلطات (التنفيذية
والتشريعية والقضائية) حتى لاتستخدم الجيش إحدى السلطات أو الفصائل لتحقيق أهداف سياسية.
3. تشترك
المؤسسة العسكرية –مع بقية مؤسسات الدولة- في صياغة الأمن القومي بتعريف التهديدات
ووضع الاستراتيجيات تحت سيطرة كاملة للمدنيين.
4. تنفرد
المؤسسة العسكرية بإدارة الشؤون التفصيلية والفنية الخاصة بالجيش باعتبارها مؤسسة
مهنية محترفة وليست سلطة، ولذلك فهي كمؤسسة خاضعة للسلطة المدنية التي يجب أن تحقق
التوازن بين السلطات الثلاث (تشريعية وتنفيذية وقضائية) بحيث لا يمكن نشوء أجنحة تحالف
وصراع تكون المؤسسة العسكرية حاضرة فيها.
وفي مراحل التحول الديمقراطي تظهر مشكلة أن المؤسسة
العسكرية تعيق هذا التحول وتحافظ على مصالحها القديمة وفسادها الذي استقر في العهد
القديم ويكون لديها تصور بالاستقلال والوصاية على الدولة، وبالتالي فهي تمثل طرفا
في الصراع السياسي، كما أنها لو استسلمت للتحول الديمقراطي فإن إعادة الهيكلة
وبناء الأعراف الجديدة –خصوصا في ظل سيطرة فصيل- قد يضر بها لنقص الخبرة الفنية.
والعلاج يكون عبر مرحلتين؛ الأولى: الانتقال حيث تُفرض
السيطرة المدينة بوضوح تام في الدستور باعتباره وثيقة حاكمة وممتدة وتُمنع المؤسسة
العسكرية من أي تدخل في صناعة السياسة. والثانية: التثبيت حيث يُعاد تشكيل الأدوار
والعقيدة القتالية وضبط المعايير السائدة.. وهكذا.
وتعتبر حالة الثورة مفيدة في كونها تسمح بفرض الهيمنة
المدنية بشكل أسرع.
ثالثا: لقد ساهمت
كثير من العوامل في منع الاصطدام المباشر بين الجيش والثورة، منها طبيعة الجيش
المصري غير الطائفي ولا المرتزق، ومنها موقفه هو من النظام والتوريث، ومنها الموقف
الأمريكي صاحب المعونة المؤثرة والذي حسم موقفه بالتخلي عن النظام، ولهذا كان
المسار متجها لاحتواء الثورة لتنتج شكلا ديمقراطيا مع الإبقاء على جوهر سياسة
مبارك، وفي هذه الحالة يكون الجيش هو الوصي والحارس على استمرار هذه السياسة، ويكون
محتاجا لوضع دستوري مناسب يمكنه من الانقلاب كلما مست السلطة المدنية هذه الخطوط
الحمر كما كان نموذج "مجلس الأمن القومي التركي" الذي كان وصيا وحارسا
على علمانية تركيا. ومن المهم أن نعلم أن 30% من حالات التحول الديمقراطية (من 74 حتى
99) وقعت في هذا الفخ، وأصبحت الديمقراطية مجرد شكل بينما جوهر النظام بيد العسكر..
لهذا، فبالرغم أن إزاحة طنطاوي وعنان خطوة إيجابية إلا أنها لا تعني خضوع العسكر
للدولة المدنية، بل الأهم هو وضع المؤسسة العسكرية في الدستور، وهنا تكمن المفارقة
للأسف!
رابعا: النقاش حول
وضعية المؤسسة العسكرية في الدستور ليس إلا عنصرا مهما في قائمة طويلة تشمل مدى
تماسك هذه المؤسسة وشبكة علاقاتها ورغبتها في الخضوع للسلطة المدنية وارتباطاتها
الخارجية وحالة السلطة المدنية والتوجهات الشعبية والعامل الخارجي، ويجب أن ندرك
أن المؤسسة العسكرية قد تكون ذات نفوذ بالغ ولو لم يُكتب ذلك في الدستور ولو لم
يكن ثمة مجلس للأمن الوطني كما هي حالة باكستان، وهي الحالة المُفَضَّلة أمريكيا!
لكن لا بد من انتهاز اللحظة الثورية والضغط ما استطعنا في سبيل تقرير الهيمنة
المدنية، وفي هذه اللحظة يكون واجب الوقت هو مناقشة هذا الشق الدستوري.
وفي الشق الدستوري ينبغي أن يفعل الدستور ثلاثة أمور:
1. إقرار تبعية العسكريين للسلطات المدنية؛ فالسلطة
التنفيذية هي بمثابة قيادة سياسية، والسلطة التشريعية هي التي تضع التشريع وتراقب
الموازنة وتشارك في تعيين القيادات، والسلطة القضائية هي المهيمنة على النظام
القضائي في الوطن بحيث أن القضاء المدني هو الأعلى والمهيمن على القضاء العسكري.
2. منع أي وصاية للمؤسسة العسكرية في الحياة المدنية،
سواء بشكل مباشر أو عبر مجلس دفاع وطني ذي أغلبية عسكرية له قرارات إلزامية على
الرئيس أو البرلمان.
3. إخضاع شؤون العسكريين للسلطة المدنية، فإن لم يكن هذا
ممكنا في الوقت الحالي فلتُتْرك للقانون ولا تُكْتَب في الدستور، فتغيير القانون
فيما بعد أسهل من تغيير الدستور، فلا نكون وضعنا عقبة كبرى أمامنا في المستقبل
بتحصين هذه المواد دستوريا.
تجربتان عمليتان:
1. مقارنة مسودة الدستور بالدساتير المصرية السابقة، وسيتضح أنها الأكثر انتكاسا وكارثية من
بين الدساتير المصرية فيما يخص العلاقات المدنية العسكرية، وهذا على النحو التالي:
[دستور 1954] مادة (185) - "ينشأ مجلس للدفاع الوطني
ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويبين القانون نظامه واختصاصه، ويستشار هذا المجلس في
اتخاذ التدابير الدفاعية وفي إعلان الحرب وعقد الصلح".
[دستور 1971] مادة (182) - "ينشأ مجلس يسمى "مجلس
الدفاع الوطني" ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويختص بالنظر في الشئون الخاصة
بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، ويبين القانون اختصاصاته الأخرى". {لاحظ
التطور من كونه مجلسا استشاريا إلى كونه –وحده- الناظر في شؤون الأمن القومي،
وبهذا صار سلطة مستقلة}
[مسودة الدستور 14 أكتوبر] مادة (196) - "ينشأ مجلس
للدفاع الوطنى ، يتولى رئيس الجمهورية رئاسته ، ويضم فى عضويته رئيسى مجلسى البرلمان
ورئيس الوزراء ، ووزراء الدفاع والخارجية والمالية والداخلية ورئيس المخابرات العامة
ورئيس أركان القوات المسلحة وقادة القوات البحرية والجوية والدفاع الجوى ورئيس هيئة
عمليات القوات المسلحة ومدير إدارة المخابرات العسكرية والاستطلاع. و(يختص بالنظر)
فى الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها ، ومناقشة موازنة القوات المسلحة على
أن تدرج رقما واحداً فى ميزانية الدولة ، ويجب أخذ رأيه فى مشروعات القوانين المتعلقة
بالقوات المسلحة".
وليس صعبا أن ندرك حجم التحول الهائل في المادة، وكيف
يُراد لوضع بعينه ولتشكيل بعينه أن يظل مُحَصّنًا دستوريا (لمدة عشر سنوات على
الأقل كما تقول المادة 220).. وسنناقش تفصيل هذا الوضع الكارثي ولكن بعد التجربة
الثانية.
2. مقارنة ما جاء في المسودة بوثيقة السلمي المُعَدَّلة
وقانون مجلس الدفاع الوطني (الذي أصدره طنطاوي
في نفس يوم الإعلان الدستوري المكمّل ولم يلغه مرسي حين ألغى الإعلان!)
[مسودة السلمي المعدّلة] "وأن ينشأ مجلس يسمى مجلس الدفاع
والأمن القومي الوطني ويتولى رئيس الجمهورية رئاسته، ويختص بالنظر في الشئون الخاصة
بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، كما يختص بنظر ميزانية القوات المسلحة، على أن يتم إدراجها
رقما واحدا في موازنة الدولة، ويحدد القانون تشكيل مجلس الدفاع والأمن القومي واختصاصاته
الأخرى، ويعلن رئيس الجمهورية الحرب بعد أخذ رأي مجلس الدفاع والأمن القومي وموافقة
مجلس الشعب"
قانون مجلس الدفاع
الوطني الصادر بتاريخ 18 يونيو 2012
http://www.masrawy.com/news/egypt/politics/2012/june/18/5117654.aspx
سنجد تقاربا يصل لدرجة المطابقة
في بعض التعبيرات. وتقارب من تشكيل مجلس الدفاع الوطني لطنطاوي مع تخفيض العسكريين
قليلا!
وبهذا يحصل العسكر على ما أرادوه بالفعل منذ وثيقة
السلمي وأقل قليلا جدا مما أراده طنطاوي في الإعلان الدستوري المكمل، وصار ما
يريدونه موجودا كدستور محصن لمدة عشر سنوات!!
ثم نأتي للملاحظات التفصيلية:
* المادة (198) بالمسودة تقرّ الجمع بين القيادتين العسكرية والسياسية
في شخص وزير الدفاع الذي هو منصب سياسي وفي ذات الوقت القائد العام للقوات
المسلحة، وهذا الجمع نشأ مع مجاملة عبد الناصر لعبد الحكيم عامر وهو ما أورثنا
النكبات العسكرية المتتالية، فالأصل ألا يؤثر الوضع السياسي على العسكري.
فإن كان الرئيس أقوى من وزير الدفاع، فإن التداخل بين
السياسي والعسكري يؤدي إلى انحراف الجيش وتأثره بالتقلبات السياسية بل وأحيانا يفرض
الرئيس تقديرا عسكريا على الجيش (كما حدث في الثغرة 1973 – الخلاف بين السادات
والشاذلي).
وإن كان الرئيس أضعف من وزير الدفاع، فهذا يؤدي إلى
عسكرة الدولة سواء على مستوى التفكير البعيد وصياغة الأمن القومي (تسمى عسكرة
الاستراتيجية)، أو على المستوى القريب بحيث يسود النمط العسكري في إدارة السياسة
وهو ما يخصم من قدرة الدولة على الاستخدام الأمثل للجيش (تكتكة الاستراتيجية).
إننا نحتاج أن تدرك المؤسسة العسكرية بذاتها أهمية الفصل
بين المدني والعسكري، ونحتاج فترة يكون الحل العملي أن ينشأ وزير دفاع مدني (عسكري
سابق) حتى تتوافر القدرات الفنية عند المدنيين، وستبقى وزارة الدفاع ذات العنصر المدني
فترة من الزمن تحاول أن تطوّر نفسها وهيمنتها على القوات المسلحة وقد تصل الفترة لعقد
كامل (كما في تجارب أسبانيا وأمريكا اللاتينية) .. ولكن - إن لم تقبل المؤسسة العسكرية
الآن فقد تقبل غدا أو بعد عام حين تدرك أهمية الفصل في ظل نظام سياسي ديمقراطي متقلب..
أما الكارثة فهي أن نثبت الوضع القائم البائس ونحصنه دستوريا فنقطع الطريق على
محاولات الإصلاح.
* مجلس الدفاع الوطني - مادة 196 ، ومادة 152
نشأت فكرة مجلس الأمن القومي في العالم حين بات ضروريا
وجود متخصصين يقدمون الخبرة الفنية لصانع القرار السياسي ويضعون أمامه الخيارات
المتاحة ليختار من بينها، ولهذا فثمة شروط ثلاثة لهذا المجلس في النظام
الديمقراطي:
1. أن يكون استشاريا.
2. وتكون أغلبيته من المدنيين.
3. وغير مرتبط بسلسلة القيادة العسكرية أو السياسية (أي
ليست له سلطة إصدار أوامر).
ومنذ تشكل مجلس الدفاع الوطني المصري (1968م) كان صوريا
مشكلا من: الرئيس ووزراء الوزارات السيادية والخدمية الهامة (ليس فيه محل لرئيس البرلمان
لأنه معين للسلطة التنفيذية) ووزير الدفاع ومدير المخابرات، ويمكن للرئيس توسيع قاعدة
حضوره.
وفي نص المسودة نجد أن التشكيل عبارة عن:سبعة عسكريين، ستة
مدنيين منهم الرئيس، مدير المخابرات (عسكري في الحالة المصرية)، وزير الداخلية (مسئول
أمني). ولئن كانت بعض التجارب (تركيا مثلا) استطاع فيها العسكريون قهر السلطة
المدينة رغم التعادل بين المدنيين والعسكريين في مجلس الأمن القومي التركي، فكيف
يكون الحال في مصر خصوصا وأغلب ما يناقشه المجلس هي أمور عسكرية بما يجعل العسكر
أعلى يدا حتى ولو كانوا بذات العدد؟!
إن صلاحيات مجلس الدفاع الوطني في المسودة هي أسوأ من الصلاحيات
التي نصت عليها وثيقة السلمي المعدّلة، فقد زاد فيها أخذ رأي المجلس في بعث القوات
للخارج، وتحصين هذا التشكيل دستوريا.
وأما صلاحيات المجلس فهي:
- اختصاصه وحده بالنظر
في شئون تأمين البلاد وسلامتها.
- لا رقابة برلمانية على الموازنة (الاحتياجات المالية
لعام قادم) ولا الميزانية (إنفاق العام الماضي)، وحين تذهب الموازنة رقما واحدا للبرلمان
فهو لايستطيع أن يناقشها ولا أن يحدد كونها مناسبة وعادلة أو شملها الفساد في
التقدير والإنفاق.
- أن يؤخذ رأي المجلس في التشريعات الخاصة به، ويؤخذ رأيه
في الحرب وإرسال القوات المسلحة للخارج.. ولأن "أخذ الرأي" أمر يجري
بطبيعة الحال، فإن النص على "أخذ الرأي" يفضي إلى الوصاية، كما كان في
الحالة التركية.
وبعد كل هذا لا بد من التذكير بخطورة احتكار الرئيس
لتعيين القيادات العسكرية في معزل عن البرلمان، كما ناقشناه في أول المقال، والخطر
الثاني هو هذه "المادة الكارثة" في حضورها وغيابها معا بخصوص حق استدعاء
الجيش لحفظ الأمن الداخلي.
كذلك فإن ثمة مادة لم أعلق عليها لأنها مبهمة ونحتاج أن نرى
المذكرة التفسيرية لها: مادة أن هناك مجلس أعلى للقوات المسلحة، والغامض هو من يكون
(رئيس) هذا المجلس، لأنه لو كان القائد العام ووزير الدفاع فهذا كابوس! ولا أدري ما
فائدة النص على هذا دستوريا إن كان رئيس الجمهورية هو رئيس هذا المجلس، لأن القيادة
العامة للقوات المسلحة تتسمى تلقائيا باسم (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) حين يحضرها
الرئيس!
الخلاصة
وضعية المؤسسة العسكرية
بالدستور هي عثرة ديمقراطية ضخمة في سبيل تحول ديمقراطي، ومسودة الدستور للأسف هي نتاج
تفاهمات بائسة واعتبارات فئوية سقيمة.
ربما يكون موقف الإخوان مفهوما من هذه الوضعية منذ عام كامل،،
ولكن لماذا تقبل بعض القوى والرموز المدنية بهذه الوضعية؟! أقول لكم - خوفا من سيطرة
الإخوان على الجيش. ولكن الفقر المعرفي في هذه المساحة حرم هذه القوى من إدراك وسائل
أكثر ديمقراطية لمنع تسييس الجيش واختراقه، كجعل المسائل الهامة (سواء قرارات أو سياسات
أو تعيينات) يشترط لها أغلبية ثلثي البرلمان، وإشراك السلطة القضائية في مسألة استدعاء
الجيش للوضع الداخلي، أو في فترة غياب البرلمان.