كتب مايكل هارت عن أعظم مائة في
التاريخ فوضع نبينا محمدا (ص) في مقدمتهم، لأنه ما من أحد نجح دينيا ودنيويا مثلما
كان محمد (ص)، فالعرب الذين تشتتوا في صحرائهم وتنازعوا على مواطن الكلأ حتى عجزوا
أن يُكَوِّنوا حكومة بدائية تجمعهم ظهروا على مسرح التاريخ في ذات لحظة تحت قيادة
محمد وأتباعه، ليسوا وحدة واحدة فحسب، بل غيروا وجه التاريخ وأزالوا امبراطوريتي
فارس والروم معا في أقل من نصف قرن، ولهذا يقول توماس أرنولد: "إن دخول الإسلام
في المجتمع العربي لم يدل على مجرَّد القضاء على قليل من عادات بربرية وحشية فحسب،
وإنما كان انقلابًا كاملاً لِمُثُل الحياة التي كانت من قبل"[1].
وما كان للنبي أن يخوض صراعه مع قوى
العدوان العالمية إلا بإنشاء الكيان المتماسك، أو بتعبيره هو (صلى الله عليه وسلم)
"الجسد الواحد" الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى
والسهر.. فكيف صنع النبي من المجتمع المتشتت المتنازع أقوى مجتمع متماسك عرفه
التاريخ؟! مجتمع ما زال بعد خمسة عشر قرنا، وبعد كل ما نزل به، يحتفظ ببذور عودته
أمة واحدة من جديد، ويكاد يفعلها مرة أخرى؟.. ذلك حديث السطور القادمة.
***
حين دخل النبي (ص) إلى المدينة كان
المجتمع فيها زاخرا بمشكلات كثيرة هذه خلاصتها:
على المستوى الديني ثمة ثلاث طوائف:
المسلمون، واليهود، والمشركون ممن لم يؤمنوا، ثم ظهرت طائفة جديدة هي المنافقون،
فصار لدينا أربع طوائف منها ثلاث طوائف معادية لهذا الوافد الجديد وراغبة في فشله
وانهيار بنائه؛ فاليهود قد حددوا موقفهم مبكرا من عداوة النبي ودينه وما لديهم من
علم الكتاب جعلهم أكثر قدرة وقوة في الطعن على الدين، والمشركون قوم يجمعون بين
رفض الدين ورفض حُكْمَ الغريب الطارئ عليهم من خارج بلدهم وقبائلهم كلها،
والمنافقون تكمن خطورتهم في أنهم مجهولين يمارسون الطعن في الظهر ويثيرون الإشاعات
والبلبلات تحت غطاء إسلامهم، وفي المسلمين سماعون لهم[2].
وعلى المستوى الاقتصادي تبرز ثلاث
مشكلات: اقتصاد المدينة يحتكره اليهود وتعاملهم بالربا يستنزف أموال أهلها،
والمدينة ذاتها فقيرة الموارد تعتمد على الاستيراد، ثم هذا الفائض البشري الذي جاء
مع الهجرة بما صنع ضغطا إضافيا، لا سيما وأهل مكة –وهم غالب المهاجرين- أهل تجارة
لا زراعة بينما المدينة أرض زراعية لا تجارية[3].
وعلى المستوى الاجتماعي: ينقسم
المسلمون إلى مهاجرين وأنصار وهم غرباء على بعضهم في الطباع والعادات وأسلوب
الحياة، والمهاجرون أنفسهم هم مجموعات من آمنوا من كافة قبائل العرب كما أن
الأنصار أيضا حديثو عهد بالنزاع الطويل بين الأوس والخزرج، كما ينقسم اليهود إلى
قبائل تسري بينهم العداوة والبغضاء ويستعلي بعضهم على بعض، ثم بين أهل المدينة
وبين اليهود اضطرابات ونزاعات لما لليهود من ديون ربوية ولاحتكارهم اقتصاد المدينة
وسعي اليهود في إيقاع الحروب بين العرب، وهذا العداء نتج عنه إيقاع باليهود ولهذا
كانوا يتوعدون العرب بنبي قد أطل زمانه ينتقمون به منهم[4].
ثم أظهرت الهجرة مشكلات أخرى؛ سياسية
وهي انهيار العلاقة بين المدينة ومكة حتى لقد منع القرشيون زعماء المدينة من الحج
والعمرة كما في موقف سعد بن معاذ وكذلك الاضطراب المكتوم بين المدينة وما حولها من
قبائل العرب التي تنظر بتوجس لهذه التغيرات القريبة، وأمنية كتتبع قريش للنبي
ومحاولتهم اغتياله وهو ما جعل النبي في حراسة مسلحة دائمة أوائل فترة المدينة، وصحية
حيث أصابت الحمى المهاجرين الذين لم يعتادوا على أجواء المدينة، ونفسية إذ أصاب
المهاجرين الشوق إلى مكة وأوديتها ومواطن الحنين فيها[5].
باختصار: كان النظر إلى مجتمع المدينة
آنذاك يستخلص استحالة تحوله إلى مجتمع متماسك!
***
تتبع القرارات الأولى التي اتخذها النبي
(ص) أول قدومه المدينة تفيد منهجه في بناء المجتمع الذي رأينا كيف كانت أحواله،
سيبدو مذهلا أن أربعة قرارات استطاعت صناعة المعجزة، تلك هي: بناء المسجد، الإخاء
بين المهاجرين والأنصار، إصدار وثيقة المدينة، إقامة سوق المسلمين.
وتتبع السر في نجاح المعجزة بهذه السرعة
يعود إلى عنصر وحيد، أنها لم تكن مجرد قرارات إدارية بل دينٌ!
القرار الأول: بناء المسجد
قبل أن تطأ قدم النبي أرض المهجر أمر
ببناء المسجد في قباء –قبل المدينة- ولم ينزل في المدينة قبل أن حدد موضع المسجد،
لقد كان المسجد هو المؤسسة الأولى والمركزية في الدولة الإسلامية، لم يكن فقط دار
عبادة، بل هو مدرسة تعليم الدين، ووسيلة الإعلام، وهو قصر الرئاسة الذي يستقبل فيه
الوفود وتتخذ فيه القرارات، وهو بعد ذلك مأوى من لا مأوى له من المسلمين الفقراء،
وقد تكون أحد جوانبه مستشفى لعلاج الجروح، أو سجنا للأسرى[6]!
وكان الإسلام يدفع المسلمين للالتقاء
في هذا المسجد خمس مرات يوميا على الأقل، ويرغبهم في كثرة الترداد عليه وإقامة
مجالس الذكر فيه فهي من أسباب رفع الدرجات وغفران السيئات ومن أسباب نزول الملائكة
والرحمة والسكينة، ومن موجبات النور التام في ظلمات يوم القيامة، حتى الخطوة إلى
المسجد لها أجر، وبلغ اندفاع المسلمين في هذا حتى كان "ما يتخلف عن الصلاة إلا
منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف"[7].
ولهذا تم التلاحم بين القيادة (النبي)
والأتباع، وبين الأتباع بعضهم بعضا بأسرع وقت ممكن، لقد عرف الجميع بعضهم بعضا
واختلطوا ببعضهم فعرفوا أخبارهم وأحوالهم وفقراءهم وأغنياءهم، فمن كان لديه فضل
مال أو طعام ذهب به إلى الفقراء في المسجد، فعم التكافل هذا المجتمع الصغير وصاروا
بعد الاغتراب والانقسام كتلة واحدة.
ولا نكاد نعرف عبر التاريخ وسيلة أسرع
في اندماج المجتمعات من التقائهم يوميا خمس مرات على الأقل!
القرار الثاني: الإخاء بين المهاجرين
والأنصار
فقد آخى رسول الله بين المهاجرين
والأنصار بحيث صار أخو الإسلام مقدما على أخي النسب، وظهرت في هذا الإخاء عجائب لا
سوابق أو لواحق لها، فلقد استقبل الأنصار إخوانهم بكل ترحاب، فأحبوهم وأنفقوا
عليهم من أموالهم وإن كانوا في حاجة، وآثروهم على أنفسهم، واقتسموا معهم أملاكهم،
وتسابقوا على استضافتهم حتى ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، ومثلما ظهرت
عجائب الأنصار في الإيثار ظهرت عجائب المهاجرين في النبل والتعفف، وبادلهم المهاجرون
الحب والاعتراف بالفضل حتى كانت خشيتهم أن يذهب أجرهم في الجهاد والتضحية أمام
عظمة الأنصار وقالوا للنبي (ص) "ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في
قليل وأحسن بذلا في كثير، لقد كفونا المؤونة، حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله"[8].
وهذه المؤاخاة كانت مؤاخاة خاصة، بعد
إقرار المؤاخاة العامة بين المؤمنين جميعا (إنما المؤمنون إخوة)، وأنه (لا يؤمن
أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، و(لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) وأن
(كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) وأنه يكفي المرء شرا أن يحقر أخاه
المسلم[9].
فكانت هاتان الأخوتان –العامة والخاصة-
مزيد تشديد لأواصر العلاقات بين فصائل المجتمع الوليد، فزادته ارتباطا وتماسكا
وقوة، وبهما انتهت مشكلة اغتراب المجتمع وانقسامه إلى فئات، وظهر هذا أكثر ما ظهر
في اجتماع الأحزاب لاجتياح المدينة بعد خمس سنوات فحسب من بداية هذا البناء،
ونتوقع أن من نتائج هذا الإخاء تصفية معسكر المشركين في المدينة خلال عامين إذ
"أسلم أكثر مشركي المدينة بعد بدر"[10].
ولا نستطيع أن نفهم جوهر الإخاء وآثاره
الهائلة على حقيقتها إلا حين نقارن اليوم مشكلات اللاجئين في العالم، وكيف يمثلون
مأساة إنسانية دائمة.
ويزداد الفهم –ومعه الحسرة والأسى- حين
نرى أوضاع اللاجئين المسلمين اليوم وكيف لا يجدون من إخوانهم المسلمين سندا ولا
نصرة، بل إن قضية اللاجئين الفلسطينيين تحت الحكومات "العربية" تعد
وحدها مأساة إنسانية بالغة المرارة، حتى صار الدم الفلسطيني شركة بين بني صهيون
وبين أذيالهم من أهل العروبة!!
***
بقي
في الحديث القرارين الأخيرين.. ونترك هذا للمقال القادم إن شاء الله تعالى.
[1] مايكل هارت: الخالدون مائة أعظمهم محمد ص13 (ط6 المكتب المصري الحديث)،
وتوماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص61 (ط مكتبة النهضة المصرية).
[2] (النساء:51)، البخاري (125 – ترقيم البغا)، ومسلم (2794 – ترقيم فؤاد
عبد الباقي)، (التوبة: 47)، (الأحزاب: 60)، (المنافقون: 4)
[3] د. جواد علي:
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 2/270، 4/106، 7/132 (ط4 دار الساقي)، د. أكرم العمري: السيرة النبوية
الصحيحة 1/229، 241، 242 (ط6 مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة).
[4] (المائدة: 45)
وتفسيرها، مثلا: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/121 (ط2 دار طيبة)، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 516 وما
بعدها (ط1 دار الكتب العلمية، بيروت)، د. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل
الإسلام 7/129، 130، 9/251، 10/155.
[5] البخاري (3734)، (6804)، (1790)، ومسلم (2410)، (1376).
[6] د. علي الصلابي: السيرة النبوية ص306 وما بعدها (ط7 دار المعرفة،
بيروت).
[8] د. أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/241 وما بعدها، د. إبراهيم
العلي: صحيح السيرة النبوية ص138، 139. (ط1 دار النفائس، الأردن).
[10] محمود شيت خطاب: الرسول القائد ص163 (ط6 دار الفكر، بيروت).