كالعادة، فاجأت الشعوب تخبتها وقيادتها ودعاتها وعلماءها، وأثبتت لهم أنها أفضل مما يتوقعون.. وكالعادة أيضا ثبت للنخبة الفاشلة المفروضة إعلاميا أنهم منفصلون عن الشعب وأن تأثيرهم مجهري ضئيل فالشعب واجه دعوتهم لمقاطعة الانتخابات بإهمال تام!
أما النخبة المفروضة إعلاميا فلن تفهم ولا أرى محاولة إصلاحها إلا تضييعا للوقت والجهد، فهي بالأساس إما تنطق بلسان صاحب التمويل أو ارتضت أن تبتعد عن نبض الناس ثم اكتسبت كبرا وعجرفة وصدَّقَتْ أنها نخبة فصارت ترى نفسها معصومة لا تخطئ.. وأما العلماء والدعاة وأشباههم فما زلنا نرجو أن تتغير نظرتهم للشعوب، للأمة التي وصفها ربها بأنها خير أمة أخرجت للناس، ما زلنا نرجو أن يعلموا أن سنوات الاستبداد قد صنعت لديهم صورة شائهة قاسية مظلمة، فالاستبداد بطبيعته يخرج أسوأ ما في الناس من أخلاق، ولله در الرائع الكبير الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الذي شرح هذا خير شرح في رائعته الخالدة "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"..
***
الثورة المصرية في أزمة، أو هما أكثر من أزمة في الحقيقة؛ الأولى: أنها ثورة بلا رأس ولا قائد، صحيح أن هذا حماها من الإجهاض، لكن في المقابل لم يستطع أحد تطويرها وتصعيدها والاستناد إلى القوة الشعبية في الوصول إلى أهدافها. والثانية: وهي مترتبة على الأولى، إذ سارعت الأطراف المختلفة تحاول سرقتها، فالمجلس العسكري –ومن ورائه الخارج- يحاول إجهاضها والتخلص منها بأقل الخسائر، والقوى المتضخمة إعلاميا تريد سرقتها ونسبتها إلى نفسها والمتاجرة بها (يسري فودة الذي وصف شفيق وعمر سليمان بأنهما من أفضل رجالات مصر يمارس دعارة إعلامية يومية لحساب الليبراليين المجهريين، ويمارسها في قناة ساويرس الذي كان من محاولات إطفاء الثورة ومن رجال المخلوع ومعارضي تنحيه.. هذا مجرد مثال)..
كل الناس يتكلمون الآن باسم الثورة، حتى أركان النظام المخلوع، حتى من عارضها وهاجمها وشوهها، كل التيارات تتحدث عن الثورة، المخلصون والطيبون والمتمولون والأشرار.. حتى أمريكا تعلن عن سعادتها بالثورة وجاءت وزيرة خارجيتها تمشي في ميدان التحرير!!
ولذا، وفي هذه الأجواء تحديدا، تصير الانتخابات أفضل شيء لهذه الثورة، ليس فقط على مستوى الشرعية الشعبية، بل على مستوى الحديث باسم الثورة، بعد الانتخابات "النزيهة" يستطيع ممثلوا البرلمان وحدهم أن يقولوا "الشعب يريد.."، وهم يستندون بالفعل إلى قاعدة شعبية لا يمكن تجاهلها!
لا بد من الانتخابات لنعرف لمن يعطي هذا الشعب قياده ويرضى باختياره، هذا الشعب الذي ثار والذي ظل تسعة أشهر يرى الكل يتحدث بالنيابة عنه هو أحوج ما يكون إلى اختيار ممثليه، فإن اختارهم على مستوى اللحظة فبها ونعمت، وإن لم يكونوا كذلك فقد دفع ضريبة اختياره الخاطئ.
إن صورة العجائز والمرضى والمقعدين الذين ذهبوا للتصويت، وصور من وقفوا في الأمطار وغطوا رؤوسهم للوقاية من المطر انتظارا للتصويت، ومن وقفوا ملتصقين بالحائط لأن الشارع تغرقه المياه انتظارا للتصويت.. هذه الصورة يجب أن تصحح نظرة البعض لمن أسموهم "حزب الكنبة"!.. فهاهو "حزب الكنبة" قد غادرها ليقول رأيه!
***
وعلى الجانب الآخر يجب أن نذكر الصورة المقابلة، هذا من الإنصاف الذي أُمِرْنا به..
لم يسقط حكم مستبد أبدا عن طريق الانتخابات! يجب أن نفهم ونعتبر بهذا، فالحقيقة هي أن: الانتخابات وحدها لا تكفي!
وهذه الانتخابات التي تعيشها مصر الآن هي الأوضح في إثبات هذا، فهي بالأساس لم تأت إلا بثورة، ثورة ضاعت فيها أرواح ودماء وأعضاء، وخرج منها شباب وقد فقدوا عيونهم وأيديهم وأرجلهم، هؤلاء هم من أوصلوا البلاد إلى هذه النقطة، ولن نستطيع أن نجازيهم فثوابهم محفوظ عند الله تبارك وتعالى.
كذلك فإن الانتخابات التي تتم في أجواء ثورة غير التي تتم في أجواء تغول السلطة.. فالأولى يُعْمَل لها حساب والأخرى تُزَوَّر رغما عن الأنوف، فالميدان صاحب الفضل على البرلمان دون شك، لا سيما في هذه الهبة الثورية التي انطلقت في 18 نوفمبر قُبَيْل الانتخابات.. فإن يقظة الشعب وعافيته هي الضمان الوحيد لحراسة الانتخابات.
***
الخلاصة أن الميدان يحتاج إلى البرلمان، والبرلمان يحتاج إلى الميدان، والمعادلة لا ينبغي أن تضعهما متعاكسين، بل الميدان لا يُغني عن البرلمان ولا البرلمان يُغني عن الميدان.. المعادلة المطلوبة ينبغي أن تكون لمصلحة "البرلمان الثائر".. لنقل إن الميدان صانع الألعاب والبرلمان هو من يحرز الأهداف.
***
من كثرة ما سُرقِت الثورات في تاريخنا أصبحنا نحفظ طرقا كثيرة لسرقة الثورات، لذلك لن نطمئن إلى نجاح الثورة إلا حين نرى بأنفسنا أن السيادة يملكها من اخترناه على الحقيقة.. إن ثمة نماذج كثيرة في عالمنا العربي والإسلامي لديها الديمقراطية الشكلية، بينما السيادة الحقيقية في غير يد الشعب؛ خذ لديك: الكويت والأردن والمغرب والجزائر وباكستان وغيرها، حيث تكمن السلطات والسيادة الحقيقية في يد الملك أو العسكر، ويمارس المجتمع ديمقراطية شكلية لتحسين ظروف المعيشة (التي لا تتحسن بالمناسبة) فيم يظل القرار الوطني مرهونا بإرادة الخارج.
لذا فأمامنا مسيرة طويلة للاطمئنان على ثورة مصر، وكافة ثورات الربيع العربي عموما، المسيرة تبدأ من تزوير الانتخابات (انتخابات المرحلة الأولى ليست معيارا، فلقد أجرى حسني مبارك انتخابات نزيهة في المرحلة الأولى ثم انقلب عليها في الثانية والثالثة) وتنتهي بالعلاقة بين السلطة المدنية المنتخبة وبين المؤسسة العسكرية التي تملك قوة السلاح والمتمتعة بامتيازات سيادية واقتصادية كبرى ( وكم من انتخابات وديمقراطيات انقلب عليها العسكر وعادت البلاد إلى الاستبداد مرة أخرى، وهل تاريخ العرب الحديث إلا تاريخ انقلابات عسكرية؟!)..
لا نتشاءم، ولكن يجب أن ننتبه ونتيقظ ونحذر، وفي النهاية، فحتى لو استقرت البلاد كما نريد فأمامنا معركة البناء والنهضة ومواجهة الخارج وعملاءه في الداخل.. إن خلاصة الدنيا كلها في قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وهو ما فقهه الإمام أحمد بن حنبل –الذي عاش في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وفي بغداد عاصمة الدنيا وسيدة البلاد ذلك الوقت- حين سُئِل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة!
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك..