اقرأ أولا:
الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة (1)
الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة (2)
أول ما بدأتُ الكتابة في هذه السلسلة كان المشهد الإسلامي في مصر وكأنه تَابَعَ قرار جماعة الإخوان المسلمين بعدم الترشح للرئاسة، فالسلفيون اختلفوا على ما دون ذلك من تشكيل الأحزاب ودرجة المشاركة السياسية، لكن الوضع قد اختلف الآن وصار لدينا أكثر من مرشح إسلامي قوي على رأسهم: د. سليم العوا، ود. حازم صلاح أبو إسماعيل، ود. عبد المنعم أبو الفتوح، حتى إن الساحة الإسلامية تشهد رغبة في التوحد خلف مرشح واحد وتخشى من تفتت الأصوات، وهو كل حال أمر سابق لأوانه!
حين اعتزم د. أبو الفتوح الترشح للرئاسة كانت النغمة العلمانية تعزف أنه يمثل رأس الحربة الماكر للمؤامرة الإخوانية الخبيثة في "الانقضاض – القفز – القنص – السيطرة - ..." على الوطن، عبر مسلسل توزيع الأدوار بين الجماعة وأبو الفتوح، فلما بدا واضحا أن قرار الإخوان صادق وجاد وتم فصل د. أبو الفتوح، تحول الرجل بين عشية وضحاها إلى الرمز المعتدل المستنير ضحية الإرهاب الإخواني وأُسبِغت عليه مدائح ومناقب ممن لم يقف بجواره مرة واحدة في أي محاكمة أو اعتقال أو تضييق.. إلا أن الوقت فاجأهم بالمصيبة الأخرى؛ إذ أعلن د. سليم العوا ترشحه للرئاسة، وهو الترشح الذي قلب كل استطلاعات الرأي على الانترنت، حتى تهدد موقف البرادعي (الذي يصفه البعض عن حق بمرشح الانترنت) لصالح العوا، فبدأت وصلات الهجوم على العوا سرا وجهرا، تلميحا وتصريحا، غمزا ساخرا أو غمزا في ثوب نصيحة!.. إن هذا يؤكد لمرة أخرى الحقيقة اليقينية في خطورة أن يُترَك مصير البلاد إلى مثل هذه الفئة التي يصفها الشيخ حازم أبو إسماعيل عن حق بأنها ليست إلا "ظاهرة تلفزيونية".
***
المهم في سياقنا الآن، أن الوتيرة قد زادت بشأن تعداد تجارب الحكم الإسلامية على أنها جميعا وعن بكرة أبيها تجارب فاشلة، وتستعرض هذه التجارب غزيرة التفاصيل في سطر أو بضع سطر، وبأسلوب يمثل نموذجا للتسطيح والاختزال، مع كثير من الجهل والافتراء.. على أن الرد لم يعد مجديا، المُجدي في السياق الإسلامي أن نرى هذه التجارب في ضوء بعض الأسئلة:
1. إلام انتهت التجارب التي خلت من الإسلاميين، أو التي ترك فيها الإسلاميون السلطة طوعا أو كرها؟
2. ما هي التجارب التي فشلت بالفعل؟ وما هي التجارب التي يُسَوَّق أنها فشلت؟
3. وهذه التجارب الفاشلة.. لماذا؟ وهل أسبابها قَدَرٌ سيطارد الحالة المصرية؟
4. ما هي التجارب التي نجحت؟ وهل أسباب نجاحها مستبعد في ظل الحالة المصرية؟
إن لدينا تجارب كثيرة منذ نصف القرن الماضي الذي شهد موجات من الثورات العربية التي خلعت الاحتلال، غير أنها -وبكل أسف- ثورات لم تكتمل، إذ قفز الخارج في المشهد الداخلي وتحالف مع طبقة العسكر التي قامت بانقلابات سرقت بها الثورات الحقيقية، وعملت النخب التي زرعها الاحتلال كإسناد يوالي ويشرعن لهذا الوضع الجديد.
أما التجارب التي خلت من الإسلاميين أو تركوا فيها السلطة طوعا أو كرها فهي تمثل صلب المشهد العام في العالم العربي، منذ انقلابات سوريا في أواخر الأربعينات حتى انقلاب موريتانيا الأخير في 2008م، فإلى أين صار المشهد العربي في هذه السنوات الستين؟ أليس حال العالم العربي كله دليلا ولا أوضح على فشل وبؤس وسقوط التجربة العلمانية؟!
بالكاد تم إسقاط النظام في تونس ومصر بعد أعوام من القهر والفساد (وما زال يُخشى على ثورتيهما)، ومشهد دموي فاجر في ليبيا وسوريا، ووضع قلق مضطرب في اليمن، وقهر سائد مطبق في الجزائر التي تحولت لغرفة عمليات إفشال الثورات العربية ودعم الأنظمة المستبدة، ومن قبل هذا: سقوط العراق تحت الاحتلال، واستقرار القوات الأجنبية في الخليج والبحر الأحمر والمتوسط، وانفصال جنوب السودان، ودخول القضية الفلسطينية في متاهة المفاوضات التي يديرها مجموعة من العملاء.. وبالجملة، فالعالم العربي بعد ستين سنة من ثورات حلمت بالتحرر والحرية والتقدم صار بين محتل ومقهور وممزق ومجاهد ينفذ ثورة جديدة فإما وصل ويخشى على ثورته وإما ما زال يجاهد لإنجاح ثورته.
***
إيران، أفغانستان، السودان، غزة .. هذه هي الأسماء التي يحفظها المطالع لإعلام النخبة العلمانية في سياق تشويه الحكم الإسلامي، ومما يثير الدهشة أن جبل الخوف الرهيب تمخض بعد الضغط والفحص فولد أربعة أسماء فقط!!
وقد كانوا من قبل يضيفون "تركيا" فالآن يتجنبون ذكرها خِزْيًا وتزويرا!
أما غزة فهي في الحقيقة تجربة نجاح أسطورية لا مثيل لها، وهي وحدها كافية تماما للدلالة على أن الحكم الإسلامي هو أفضل النماذج، فهذا القطاع الصغير المخنوق جغرافيا، والمحاصر من جميع الجهات، والذي تآمرت عليه القوى العالمية والإقليمية، واجتمع عليه شرار العرب والعجم، يستطيع مواصلة الحياة بدون ديون خارجية وبشفافية شهدت بها التقارير الدولية، وتصدى وحده للوحش الإسرائيلي القادر على اكتساح محيطه العربي كله بسهولة، ويدير علاقاته العربية والدولية بقدر غير متوقع من الكفاءة والمهارة، فيم تتراكم الديون واتهامات الفساد وتجارب الفشل السياسي على جماعة رام الله!!
وأما إيران، فهي بعد ثلاثين سنة من ثورتها أفضل من جميع الدول العربية بعد نصف قرن من ثورتها، وهي قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها، ولها نفوذها الواسع، وتحقق تقدما اقتصاديا جيدا، وأوضح منه تقدمها العسكري الذي يجعلها بالنسبة للقوى الأخرى موضع تهديد.. ولئن كان لا يعجبنا من إيران استبدادها الداخلي أو محاولتها نشر التشيع ودعم بشار في سوريا، فهذا أمرٌ سيئ بلا شك غير أنه دليل على سوء السياسة لا على فشل تجربة الحكم الإسلامي، على أن كثيرا من هذا السوء راجع إلى طبيعتها كدولة تعتمد المذهب الشيعي وولاية الفقيه وهو الأمر الذي لا وجود له في الحالة المصرية ولا في أي حالة إسلامية أخرى.
وإذن، فقد بقيت لدينا من التجارب الفاشلة: أفغانستان والسودان، ولا بأس أن نعترف بأنهما تجربتان قد فشلتا، حتى لو تجاوزنا كل الأسباب من حصار دولي ودعم لحركات التمرد والمعارضة، ثم تحالف القوى الدولية لاحتلال أفغانستان الفقيرة الضعيفة (مشهد نموذجي للتوحش)، وتحالف دولي آخر لفصل جنوب السودان الفقير المتهالك هو الآخر!
في كلا التجربتين كثير من الأعذار والمبررات، ولكن، لا بأس.. لنعترف جدلا ودون دخول في تفاصيل بأنهما تجربتين قد فشلتا، مقابل تجارب إسلامية أخرى ناجحة، ومقابل تجارب علمانية كلها فاشلة!
***
على أن ما يهمنا في السياق المصري أن كثيرا من أسباب الفشل في تجربتي أفغانستان والسودان لا تتوفران في الحالة المصرية، فليس في مصر مناطق تمرد كجنوب السودان أو شمال أفغانستان، وليس في مصر تمايز عرقي أو لغوي أو ديني كالذي فيهما، والعمق الجغرافي لمصر آمِنٌ ومتسع على خلاف السودان وأفغانستان، كما أن مصر أفضل من أفغانستان في الموارد وأكثر قدرة على استغلال مواردها من السودان.. إلى غير هذا من الأمور التي تصب كلها في صالح الحالة المصرية.
إن اللحظات الفارقة تصنع أوضاعا فارقة، فبعد عشر سنوات يمكن أن نتحدث عن سبل تحسين الأداء في المرحلة القادمة، كما يمكن أن نؤرخ للمذبحة التي كانت فيها ويكون أقصى الأمل هو الخروج بأقل الخسائر والبحث في متاهات الوضع القانوني والسياسي عن مجرد التواجد الشرعي.
إن الأتراك يتحدثون عن المستقبل الأفضل، فيم يتحدث المصريون والتونسيون عن بداية المستقبل، فيم يظل آخرون يجاهدون في سبيل الخروج من الماضي البغيض، وثمة أناس ما زالوا يبحثون عن بداية للخروج من هذا الماضي.. فأي هؤلاء نود أن نكون بعد نصف قرن آخر؟
ليس الأمر سهلا، هذه حقيقة معروفة، إلا أن الأمر لن يكون ذات يوم سهلا، بل الخشية ألا يكون –إذا أفلتت هذه الفرصة- بمثل ما هو الآن عبر جيلين أو ثلاثة.. لابد من دراسة المخاطر والمحاذير وسبل التعامل معها، وهذا بإذن الله ما نتركه للمقال القادم والأخير في هذه السلسلة.
نشر في شبكة رصد الإخبارية