اقرأ أولا: فقه اختيار الرجال للأعمال (1).
لما انتقل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفيق الأعلى كان منهجه في اختيار الرجال على أساس الكفاءة قد استقر كنظام معمول به، ولهذا لم تكن إلا أياما معدودات حتى تجاوزت الدولة الإسلامية -بعد وفاة النبي- فتنة الردة، وقهرت المرتدين، وأقرت الأمن في الجزيرة العربية، بل انطلقت إلى الفتوح الإسلامية خارج الجزيرة، تلك الفتوح التي يصفها المؤرخ الأمريكي ول ديورانت بأنها: "أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله".
لقد قام هذا المجد على أيدي رجال أكفاء بلا ريب، كانوا على مستوى المهمة المطلوبة.
حتى إن الفتوح في جبهة الروم لما واجهت بعض الصعوبات قال أبو بكر: "والله لأُنْسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، وقد كان، فاستخلف خالد على فتوحات العراق رجلا على مستوى المهمة وهو المثنى بن حارثة الشيباني فأكمل العمل على خير وجه، وانطلق هو يحقق الانتصارات في الشام، بل لقد حقق خالد من الانتصارات ما جعل عمر (رضي الله عنه) يخشي من أن يُفتن الناس بخالد كقائد شجاع، فاقترح على أبي بكر عزله إلا أن أبا بكر لم يوافق.
وحين تولى عمر بن الخطاب ورأى أن مصلحة المسلمين في عزل خالد عَزَلَه، إلا أنه كان مستعدًا لهذا القرار برجل آخر على مستوى المهمة، ذلك هو أبو عبيدة بن الجراح، واستمرت الفتوحات في ثلاث جبهات: فارس، والشام، ومصر وما بعدها من الشمال الإفريقي.. ذلك وحده دليل على أن الدولة كانت غنية بالرجال الأكفاء، وكانت تضع كل كفاءة في مكانها.
في ذلك العهد المجيد، كانت القاعدة المستقرة هي قاعدة الكفاءة على حساب الثقة بل وعلى حساب التقوى أيضا!!
فهذا عمر بن الخطاب يقول كلمة عظيمة في شأن المجاملات في المناصب والمسؤوليات: "من وَلِي من أمر المسلمين شيئاً فَوَلَّى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين". بل إنه يجعل الخيانة تنسحب أيضا لتشمل تولية الكفء في حالة وجود من هو أكفأ منه، قال (رضي الله عنه): "من قلد رجلاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين".
وبشكل عملي: فقد تعرض الخليفة إلى صنفين من البشر وهما الكفء القليل الدين، أو التقي غير الكفء، وكان هذا الوضع يحزنه ولا يرضيه، ويتمنى أن لو تجتمع الكفاءة والتقوى، فمما حُفِظ عنه قوله: "اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر، وعجز الثقة".
إلا أنه كان يقدم ذا الكفاءة ممن هو أهل للمهمة، وهكذا شرحبيلَ بن حسنة وعين بدله معاوية. فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا إنك لكما أحب ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل. قال: نعم، فاعزرني في الناس لا تدركني هجنة، فقام في الناس، فقال: أيّها الناس، إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل".
ولما أتعبه أهل الكوفة الذين كلما أرسل لهم واليا كرهوه قال لأهل مشورته: "ما تقولون في تولية ضعيف مسلم أو قوي فاجر؟ فقال له المغيرة بن شعبة: المسلم الضعيف إسلامه له وضعفه عليك وعلى رعيتك وأما القوي الفاجر ففجوره عليه وقوته لك ولرعيتك".
***
لقد صار العهد بالأعمال لذوي الكفاءة ثقافة مستقرة في ذلك العصر، فلهذا لا تتوقف عند اختيار الولاة والقضاة وقادة الجيش، بل في الأعمال الصغرى والمحدودة أيضا.. واسمع هذه القصة:
لما خرج عمر إلى مكة استقبله واليه عليها نافع بن علقمة خارج مكة، فسأله عمر: من استخلفت عليها؟ قال: استخلفت عليها عبد الرحمن بن أبزى. فقال عمر: عمدت إلى رجل من الموالي فاستخلفته على من بها من قريش وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، وجدته أقرأهم لكتاب الله، ومكة أرض تُحْتَضَر (أي يأتيها المسلمون من كل مكان)، فأحببت أن يُسْمَع كتاب الله من رجل حسن القراءة فقال عمر: نِعْم ما رأيت، إن الله يرفع بالقرآن أقواما، ويضع بالقرآن أقواما، وإن عبد الرحمن بن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن".
لقد كان عمر يفقه أن إمامة المولى للسادة من قريش لا يناسب هذه البيئة التي تولي أمر الأحساب والأنساب اهتماما بالغا، إلا أن تقدير نافع بن علقمة كان في أن كثرة الوافدين إلى مكة –والناس حديثوا عهد وعلم بالإسلام والقرآن- يجعل الأولى في أن يستمعوا إلى كتاب الله ممن يجيد قراءته، ثم هي فترة ولاية بسيطة ومؤقتة في ظل غياب الوالي الذي خرج للقاء عمر.
لقد نظر نافع بن علقمة أيضا إلى الكفاءة أكثر مما نظر إلى التقدم في التقوى والإيمان أو السيادة والمكانة، ولهذا أقره عمر.
ويعلق الطبري على هذا الأثر فيقول: "وفيه (من الفوائد والفقه) أيضا أن القوم إذا حضرتهم الصلاة فأحقهم بالإمامة أقرأهم لكتاب الله وأعلمهم به ، وإن كان دونهم في النسب والفضل".
***
على هذا المنوال نسج العلماء والفقهاء، فجاءت مناهجهم وفتاواهم بما يُرسخ قاعدة: أهل الكفاءة قبل أهل الثقة.
منهج المحدثين في نقل الدين:
إذا تتبعنا منهج المحدثين في تقبل الروايات، سنجدهم على مذهب من يقدم أهل الكفاءة على أهل الثقة أو حتى أهل التقوى.
فهذا الإمام مالك يقول: "أدركت مشايخ بالمدينة أبناء سبعين وثمانين لا يؤخذ عنهم ويُقَدَّم بن شهاب وهو دونهم في السن". وابن شهاب هو الإمام المحدث المعروف محمد بن شهاب الزهري.
وعن بن أبى الزناد عن أبيه قال أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون لا يؤخذ عنهم العلم كان يقال ليس هم من أهله".
وعلى الجانب الآخر، روى أئمة المحدثين عن أصحاب البدع، وعندهم في هذا الأمر خلاف مشهور يؤكد لنا حقيقة النظر إلى الأهلية أو الكفاءة عند المحدثين؛ فالقليل منهم رفض أن يأخذ الرواية عن أصحاب البدع، والجمهور اختلفوا فمنهم من قبل الرواية: منهم من فَرَّق بين الداعية لبدعته والذي لا يدعو لها. فغالبهم يقبلها من المبتدع الذي لا يدعو إلى بدعته، والآخرون يقبلون منه بإطلاق.
وفي أمر التفريق بين الداعي لبدعته وغير الداعي يقول ابن الصلاح "وهذا أعدل الأقوال. والقول بالمنع مطلقاً بعيد، مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة، ففي الصحيحين من حديثهم في الشواهد والأصول كثير". ولكن ابن كثير يعلق على قول ابن الصلاح هذا فيذكر أن الشافعي قال: "أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. فلم يفرق الشافعي في هذا النص بين الداعية وغيره، ثم ما الفرق في المعنى بينهما؟ وهذا البخاري قد خرج لعمران بن حطان الخارجي مادح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي، وهذا من أكبر الدعاة إلى البدعة!".
وإذن فالشافعي رفض الرواية عن الخطابية من الرافضة ليس لأنهم مبتدعون، بل لأن بدعتهم تجعلهم يستحلون الكذب وهذا "أفقدهم الأهلية" للرواية بهذا السبب تحديدا.
وفي تعليق الشيخ أحمد شاكر على رواية المبتدع وما قاله ابن الصلاح وابن كثير قال: "وهذه الأقوال كلها نظرية. والعبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه. والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيرا من أهل البدع موضعا للثقة والاطئمنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم".
ويمكن – بشكل عملي – أن نعطي مثالين:
نرى الإمام الذهبي في ترجمته لأبان بن تغلب الكوفي يقول: "شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدى، وقال: كان غاليا في التشيع".
بل يروى الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمته لعبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، وهو صدوق "وقال محمد بن اسماعيل الفزاري بلغني ونحن بصنعاء ان أحمد ويحيى تركا حديث عبد الرزاق فدخلنا غم شديد فوافيت ابن معين في الموسم فذكرت له فقال يا أبا صالح لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا حديثه".
وأمثال هذا كثير، إلا أن الإشارة في هذا المقام كافية في التدليل على أن منهج المحدثين في أخطر قضية تشغل المسلمين، وهي قضية نقل الدين والحفاظ عليه، جرت على القاعدة المذكورة: تقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة.
***
يبقى أن نشير إلى بعض الضوابط التي ينبغي أن تُراعى في هذا منهج اختيار الرجال لإدارة الأعمال، وهذا بإذن الله تعالى ما نفرد له المقال القادم حتى تتضح الصورة، فالله الموفق والمعين.