فهم، وإخلاص، وجهاد..
لاشك أن واحدا أو أكثر من هذه الثلاثة مفقود في الحركة الإسلامية المعاصرة، والدليل هو ما آلت إليه الأوطان العربية الإسلامية، ذلك أن "الإسلام" صالح لكل زمان ومكان، بمعنى أنه قادر على إصلاح الأحوال مهما كانت الظروف المحيطة شرط أن يتصف حاملوه بهذه الصفات المجتمعة معا..
أما الفهم فلأنه يحدد الرؤية والطريق، ويرسم الحدود والضوابط، ويقرر الثوابت والمتغيرات فيصنع المنطلقات ويدير المناورات. وأما الإخلاص فهو العاصم من الهوى والمقاوم للشهوة والحارق لحب الراحة وطلب السلامة وهو قبل كل ذلك وبعده الأمر الفاصل بين مصلحة الإسلام ومصلحة الفرد أو المجموعة أو الكيان، وأما الجهاد فهو الشرط الذي وعد الله بتحقيق الهداية إن هو كان (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين).
ثم يزداد الأمر تعقيدا حين تتحول الكيانات والجماعات والأحزاب إلى أصنام تعبد من دون الله، ليست العبادة بمعنى الركوع والسجود لها، بل بمعنى قبول كل ما جاء منها قبولا لا يشوبه نقاش، والدفاع عنه دفاعا لا يتناوشه تردد، والترويج له ترويج من يراه عين الحكمة بل ويكاد يراه نور الوحي!
عندئذ تتحول الجماعات وقياداتها إلى كيانات مقدسة، لا يخطئون، يرون ما لا يرى أحد، ويعلمون ما لا يعلمه أحد، ويخططون كما لم يخطط أحد.. وتتحول المكاسب الهامشية إلى إنجازات كبرى، كما يتحول الفشل الذريع إلى ابتلاء الله للمؤمنين، فمن استمر على السمع والطاعة فهو الأخ المجاهد، ومن عارض وانتقد فهو من المتساقطين على طريق الدعوة (ونسأل الله الثبات!) الذي لم يثبت ولم يصبر و.... و.... و.... إلى آخر قائمة طويلة يصنعها الجهاز التبريري الذي تم تصنيعه للحفاظ على الكيان أمام تراجعاته المستمرة وفشله الواضح للعيان!
حسب من يكتبون في المجال العلمي أن يركزوا على الجانب الأول، وهو جانب الفهم، فلا سبيل لأحد على "الإخلاص" ولا على "الجهاد".. فهذه مناطها النفوس والقلوب، ولا يطلع عليها غير الحق سبحانه وتعالى..
من هنا كانت ضرورة مناقشة هذه "التصورات الفاسدة" التي تظهر في حديث وتصريحات وأدبيات الكثيرين من الرموز الإسلامية المعروفة، وهي تصورات بلغت أن تكون من الثوابت والمُسَلَّمات رغم أنها لا تثبت عند النقاش العلمي.
(1)
"كما تكونوا يُولَّى عليكم"
وهي المقولة الذائعة الشائعة المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وسلم) والتي تُحَمِّل الشعوب مسؤولية ما نزل بهم من استبداد وقهر وذل، وتجعل الطريق راجعا إلى إصلاح الشعوب وحدها كطريق واحد لصلاح البلاد، فابتعد الكثيرون عن السياسة والحكم وقبعوا في المساجد والزوايا يظنون أنهم بالخطب والدروس يستطيعون إصلاح ما أفسده الإعلام والتعليم والقوانين!!
وبالعودة إلى كتب السنة للبحث عن الحديث تجد أن الحديث أحسن أحواله أن يكون ضعيفا، وقد يكون موضوعا، وقد أجمل الشيخ الألباني العيوب في طُرُقه بقوله:
"أخرجه الديلمي من طريق يحيى بن هاشم عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن جده عن أبي بكرة مرفوعا، والبيهقي في "الشُعَب" من طريق يحيى عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق مرسلا، ويحيى في عداد من يضع. لكن له طريق أخرى عند ابن جميع في "معجمه" (ص 149) والقضاعي في "مسنده" (47/1) من جهة أحمد بن عثمان الكرماني عن المبارك بن فضالة عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعا. قال ابن طاهر: والمبارك وإن ذُكِر بشيء من الضعف فالتهمة على من رواه عنه فإن فيهم جهالة، كذا في "المناوي"، وقال الحافظ ابن حجر في "تخريج الكشاف" (4/25): وفي إسناده إلى مبارك مجاهيل. قلت (الألباني): ومن هذا الوجه رواه السلفي في "الطيوريات" (1/282)".
أي أن الطريق الأول مروي عن رجل متهم بالوضع (أي اختراع الأحاديث ونسبتها إلى النبي)، والطريق الثاني مروي عن مجهولين يرونه عن راوٍ ضعيف! وكفى بهذا دافعا لإسقاط هذه الرواية.
إلا أن الشيخ الألباني عَلَّق بعدئذ بقول نفيس رائع دَلَّ على بصيرة بالتاريخ لم يدركها بعض الدعاة ممن تخصصوا في التاريخ، قال: "ثم إن الحديث معناه غير صحيح على إطلاقه عندي، فقد حدثنا التاريخ تولي رجل صالح عقب أمير غير صالح والشعب هو هو!".
إن التاريخ يثبت دائما أن الأمة كانت خيرا من حاكمها، ومنذ تولى سيدنا معاوية –رضي الله عنه- الخلافة في وجود من هو أفضل منه من الصحابة حتى هذه اللحظة وهذه المعادلة مستقرة، ولا أدل على هذا من تاريخنا المعاصر الذي يشهد بأن أراذل الناس وأسوأهم سيرة وسريرة هم من حكموا بالقهر وتغلبوا بالسيف وأوردوا بلادهم المهالك!
من ذا الذي يقبل الآن بأن الشعب الليبي كان كالقذافي أو المصري كمبارك أو السوري كالأسد أو اليمني كصالح أو العراقي كصدام؟؟ وكيف يكون الشعب الفلسطيني حامل راية الجهاد بينما يسرح ممثلوه في دهاليز المفاوضات اللانهائية؟
أين نذهب بتاريخ الخيانات التي اجترها الحكام وتاريخ الجهاد الذي سطرته الشعوب؟ لقد ظل مسلمو الأندلس يتوارثون عبادات الإسلام أربعة قرون سرا تحت حكم الإسبان فأين هذا الصمود الجبار من خنوع الأحمر الصغير الذي سَلَّم البلاد مقابل ضمانات شخصية؟!
أليس الشعب المصري الذي حكمه شاور وضرغام هو هو ذات الشعب الذي حكمه بعد قليل أسد الدين شيركوه وصلاح الدين؟؟.. أين دعوى التغير والتبدل؟؟ وقل مثل هذا عن الشام قبل وبعد عمر بن عبد العزيز وقبل وبعد نور الدين محمود؟؟ وكيف انقلب العراقيون بعد استحقاقهم ملكا كالرشيد إلى استحقاق خليفة كالأمين ثم كيف انقلبوا مرة أخرى ليكونوا المأمون ثم مرة أخرى ليكونوا كالمعتصم ثم كالمنتصر.. وكل هذه أنماط مختلفة من الكفاءات والمواهب والخيرية؟؟
الحق الذي يشهد له التاريخ هو ما قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وهو ما جرى في أمثال العرب قديما في أقوالهم الكثيرة التي فاضت بها كتب الأدب ودواوين الشعر: "الناس على دين ملوكهم"، "الناس أتباع من غلب"، "إذا تغير السلطان تغير الزمان"،
حتى قال أبو العتاهية:
ما الناسُ إِلاَّ مَعَ الدُنيا وَصاحِبِها ... فَكَيفَ ما اِنقَلَبَت يَوماً بِهِ اِنقَلَبوا
يُعَظِّمونَ أَخا الدُنيا وَإِن وَثَبَت ... يَوماً عَلَيهِ بِما لا يَشتَهي وَثَبوا
لكل هذا وغيره، كان من أسباب خشية النبي (صلى الله عليه وسلم) على المسلمين حُكم الأئمة المضلين كما في الحديث: "... وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"، وكذا قال عمر (رضي الله عنه) لزياد بن حدير: " هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين".
يذكر ابن تيمية أن الوليد بن عبد الملك كان مولعا بالعمران، وهو الذي بنى قبة الصخرة هذا البناء البديع ليجذب الناس لزيارة بيت المقدس، فكان أن "ظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها، حتى روى بعضهم عن كعب الأحبار، عند عبد الملك بن مروان، وعروة بن الزبير حاضر: "إن الله قال للصخرة: أنت عرشي الأدنى"، فقال عروة: "يقول الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وأنت تقول: إن الصخرة عرشه؟!" وأمثال هذا".
ويُجمل هذا ابن كثير في قوله: "كانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمرت؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم وردك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟ والناس يقولون: الناس على دين مليكهم، إن كان خمارا كثر الخمر، وإن كان لوطيا فكذلك وإن كان شحيحا حريصا كان الناس كذلك، وإن كان جوادا كريما شجاعا كان الناس كذلك، وإن كان طماعا ظلوما غشوما فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك".
يقول الشيخ رشيد رضا: "وقد مضت سنة الاجتماع في تقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم، فكل ما راج في سوقهم يروج في أسواق الأمة، وإذا كان حديث (الناس على دين ملوكهم) لم يُعرف له سند يصل نسبه ويرفعه، فمعناه صحيح وهو ضروري الوقوع في الحكومات المطلقة الاستبدادية".
وإذا كان الحاكم في الممالك القديمة يستطيع التأثير بما يصبغ المملكة على نمطه حتى في الممالك القديمة، فكيف يبلغ التأثير الآن بعد أن أعطت الدولة المركزية للسلطة قوة خارقة لم يُعطَها ملك أو سلطان من قبل، فصارت السلطة تمتلك من وسائل التأثير عبر الإعلام والقوانين ما يمكنها من دخول كل بيت.. إنه لتأثير ضخم، ونحن نراه بأعيننا! تأثير جعل الثائر العظيم جمال الدين الأفغاني يقول: "لا يصلح في الشرق "كما تكونوا يولى عليكم"، ولكن: "كما يولى عليكم تكونون".
من أعجب العجب أن نجادل في هذا في هذه الأيام ونحن القوم الذين نبت فيهم منذ ستمائة عام من وضع أسس علم الاجتماع وقال بصريح العبارة: "فصل في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".. رحم الله ابن خلدون!
نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث