المقال الأخير للدكتور عصام العريان في الدستور المصرية (12/7/2010) ليس طبيعيا، فلا هذه لهجة الإخوان ولا هي لهجة الدكتور عصام العريان نفسه، وقد بدا المقال كما لو كان كاتبه ثوريا ثائرا يعلن ما قبل البيان رقم (1)، ويحضر لمرحلة انقلابية .. هكذا علانية!!
سرد الدكتور عصام كثيرا من الحقائق الواقعة بلهجة “هل وصلنا إلى مرحلة …”، ” هل نجح النظام في …”، “المعارضة في حالة تشرذم”، “الشباب لا يثق بالأحزاب الرسمية”… وهكذا. ولا بأس، فلكل أن يستخدم من التعبيرات ما يراه مُبينا عن المعنى الذي أراد، غير أن هذه الصياغات الجديدة –في الخطاب الإخواني- لحقائق قديمة، ثم بهذه الحدة والوضوح والرفض والثورة، أمر لافت للنظر معبر عن شيء جديد في الصورة.
قد يبدو مقال د. عصام دعوة للتوقيع على بيان المطالب السبعة لجمعية التغيير، فهو قد حشد هذه التعبيرات والصياغات الخطابية ليبدو التوقيع على البيان وكأنه “واجب الوقت” الذي لا ينفع واجب غيره، ولمرة أخرى لا بأس، وكاتب هذه السطور من الموقعين على البيان والمتحمسين له، إلا أن المقال لم يتوقف عند هذه الدعوة ولا هذا هو الذي لفت نظري فيه.
ما لفت نظري وبشدة هو دعوته الواضحة لـ “فرض إرادة المصريين في الانتخابات، والتصدي لتزويرها بكل الطرق والحشود، ابتداء من منع الأمن من التدخل في الانتخابات بالاتصالات المباشرة والحوارات المستمرة وصولا إلي فرض وجود المندوبين قانونيا وعمليا داخل لجان التصويت، وتنظيم وصول المواطنين إلي الصناديق وحمايتهم أثناء التصويت، والاحتشاد المستمر طوال يوم الانتخابات وحتي إعلان النتائج من كل الشعب المصري لفرض إرادته ليكون يوم الانتخاب علي مستوي مصر هو يوم الاشتباك العادل مع المزورين والبلطجية وتحالف الفساد والاستبداد وإجبار مؤسسات الدولة علي احترام الدستور والقانون وإجبار النظام علي احترام إرادة الأمة”.
هذه الفقرة “الصدامية” جديدة تماما على الخطاب الإخواني، تماما تماما تماما، وهي جديدة على خطاب الدكتور عصام أيضا، وبرغم أن كاتب هذه السطور يؤيدها تماما، إلا أن هذا التأييد لا يمنعنا من إغفال بعض الأمور المهمة.
الأمر الأول: أن النظام لن يستجيب لهذه المطالب السبعة، ولن يفكر في إجراء انتخابات نزيهة لمرة أخرى، ولقد كان درس 2005 في مصر وفلسطين درسا مؤثرا للنظم المعتدلة عربيا وللأمريكان أنفسهم، وغاية ما يطلبون الآن التخلص من هذه النتائج التي تحولت إلى كابوس يبدو أنه لن ينتهي في فلسطين، وإلى شوكة تزال بالتدريج في مصر منذ تعديلات الدستور وانتخابات المحليات ومجلس الشورى. ومن لا يستفد من هذه الدروس فيقرأ فيها نية النظام للانتخابات القادمة فإنما هو “يُهَرِّج”.
الأمر الثاني: أن الدكتور البرادعي والمطالبون معه بالتغيير مالم يكونوا يملكون أدوات ضغط فاعلة على النظام فهم يُعرضون أنفسهم لنكسة أو نكبة جديدة، قد يكون من هذه الأدوات ماهو خارجي.. لا بأس، أما الاعتماد فحسب على “مناشدة الناس” ليتحركوا، فدليلٌ على قلة اعتبار وقراءة للتاريخ، للتاريخ المصري على الأقل، وتاريخ الثورات الشعبية التي أثمرت عن تغيير حقيقي. يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا؛ المصريون –على الأقل- لم يثوروا إلا بشرطين: وجود عدو “أجنبي” ثم وجود قائد وطني، وحيث لا وجود للعدو “الأجنبي” فلا يتوقعنَّ أحد ثورة شعبية.
الأمر الثالث: أنه لا يمكن الفصل بين مقال الدكتور عصام العريان وبين موقعه في تنظيم الجماعة، وهنا ينشأ احتمالان لا أجد لهما ثالثا.
- فإما أن هذا الخطاب هو تغيير في سياسة الجماعة من المسالمة إلى “الاشتباك”، وهو عندي أضعفهما، فالقيادات الإخوانية الحالية تتفق على أنه لا صدام مع النظام، فهم لا يريدون ولا يفضلون أن يخوضوا معركة هم فيها الطرف الأضعف الذي لا ظهير له من قوة داخلية أو إسناد خارجي، وهم إن أرادوا فميزان الواقع يثبت أنهم لا يستطيعون، وغاية ما فعله الإخوان طوال فترة الحراك السابقة تمثل في المظاهرات الحاشدة التي لا تخلو من ترتيب مع الجهات الأمنية. وهو ترتيب منطلق من “الحفاظ على الجماعة وعدم تعريض مكتسباتها الواقعية العملية إلى الخطر”.
- وإما أنه رسالة خفية إلى النظام، وهذا طبيعي ومعتاد بين كل الحركات السياسية وخصومها بل وحلفائها، ومعناه في هذه الحالة أن من الأفضل للجميع أن يسمح النظام بانتخابات حرة نزيهة، وتكون مقاعد المعارضة فيها مضمونة، فهذا يسمح للنظام بالاحتفاظ بأغلبيته العددية كما يسمح للإخوان بوجود صوت لهم في المجلس يعبر عن وجودهم في الشارع ويؤكد أنهم حقيقة قائمة لم تتراجع شعبيتها ولم تختف من الساحة السياسية مثلما أريد لها أن تختفي من المحليات والشورى. والحق أن الدكتور عصام لا يفتأ يبعث برسائل من هذا النوع ولكن النظام في الغالب ما يُعرض عنها.
الاحتمال الأول وهو إرادة الصدام مع النظام بالشكل الوارد في مقال الدكتور عصام احتمال لا يدعمه الواقع، فمن المنظور الإخواني لن تجد أحدا “يشتبك” مع النظام و”يجبر” الدولة ومؤسساتها و”يحشد” الناس إلا أفراد الإخوان أنفسهم، لا يمكن للقيادة الإخوانية أن تعتمد على أحد آخر، خصوصا وأن الواقع يقول بأن الشباب المتحمسون للتغيير هم فعلا كثير ولكنهم شراذم، لا يمكن أن تتفق معهم اتفاقا واضحا فضلا عن أن ترتب معهم خوض “اشتباك عادل” مع النظام، فإذا أضفنا إلى هذا أن هؤلاء الشباب الكثيرون لا يبادلون الإخوان ودا بود لاختلاف الأطراف في التحركات الاحتجاجية طوال السنوات الست الماضية فعلينا أن نتوقع استبعاد قيام ترتيب على أمر بهذا الحجم.
وأما المعارضة الفاعلة فهم –رغم كل احترامنا- أصحاب ياقات بيضاء، أو من بياض البلد –بالتعبير التاريخي- وحولهم قليل من الشباب، يستوي في هذا حزب الغد و6 إبريل والجمعية الوطنية للتغيير والاشتراكيون الثوريون وحركة حشد وغيرهم. أي أن صلب “الاشتباك العادل” مع النظام سيكون من شباب الإخوان، وعند هذه النتيجة تحديدا فيمكننا ببساطة توقع أن القيادة الإخوانية لن تخوض مثل هذا الاشتباك الذي يتحملون فيه المغارم وحدهم ويتشاركون فيه المغانم مع كل هذه الحركات الصغيرة.
وأما الاحتمال الثاني، وهو أن المقال ليس إلا رسالة باطنة للنظام، ترشده من طرف خفي إلى خريطة طريق، ليكرر فيها تجربة 2005 التي تضمن له الإمساك بخيسوط اللعبة كما تضمن للمعارضة صوتا موجودا، فهو احتمال ممكن، احتمال لا يحتاج إلا لقارئ نصف ذكي أو ربع ذكي في النظام، فيفوت على كل هذه الحركات اشتعال معركة قد تنتج عنها ما لم يحسب له حساب –وهذه نقطة بالغة الأهمية في نظام لا يعشق غير الاستقرار والسكون- فيسمح بانتخابات شبه نزيهة يفلت منها معارضون إلى مجلس الشعب، يشاغبونه ويحتويهم ويضايقونه ويكبتهم، إلا أنه سيكسب استقرارا نسبيا للشارع وهدوءا نسبيا لحركات التغيير واحتواء كاملا لتيار الإخوان، ما يجعله يفكر –في أجواء أكثر هدوءا- في مشاريعه الحيوية في المرحلة القادمة.
هذا الاحتمال يستبعد تماما وجود صفقة بين الإخوان والنظام، فالصفقة بينهما في هذه اللحظة خسارة فادحة للإخوان أخلاقيا –وهذا واضح- وسياسيا؛ إذ هم يراهنون على الجواد المكسور والنظام الذي اقتربت نهايته ودنا وقت رحيله. غير أنه يمكن للصفقة أن تتم “عمليا” بوجود هامش من النزاهة في العملية الانتخابية، وهو قرار بيد النظام.
يبقى احتمال أخير، وهو الأرجح عندي، ذلك هو أن لا يقرأ النظام رسالة الدكتور عصام، فيصنع الانتخابات كما فعل في انتخابات مجلس الشورى، وهنا يكون الإخوان في مأزق فهم لن يخاطروا بالاشتباك والتضحية بشبابهم وأبنائهم، وحينها يكون “الاشتباك العادل” الذي نادى به الدكتور عصام العريان مجرد مناورة سياسية فشلت في تحقيق هدفها.