خرجت ذات يوم من صلاة الفجر ، واستعددت ليوم جديد
وصرت أعبّ من هواء الصباح النقى الجميل ، خصوصا هذا الذى يهب فى أيام الصيف فى هذا الوقت.
بينما أنا فى الطريق إلى البيت صدمنى مشهد لم أكن أتخيل أنه سيحدث ذات يوم ، فقد كان بجانب الطريق إحدى أكياس القمامة التى تمتلئ بها شوارع المحروسة وقد استسلم لقطة وديعة راحت تلتهمه بنهم وسكون ، أضاف إلى مشهدها رقة نطق بها لونها الأبيض .
ودخل عليها المشهد كلب أسود ضخم ، مما يوحى بأن المعركة على كيس القمامة محسومة ، وبالفعل ..
اقترب الكلب الضخم من هذه القطة الوديعة فى هدوء ،
واقترب ..
واقترب ..
حتى التفتت إليه القطة الصغيرة ..
ثم ...
حدث مالم يكن على البال أبدا ، لقد انطلقت القطة الصغيرة البيضاء الوديعة تجرى ... ولكنها تجرى فى اتجاه الكلب ..
إنها تهاجمه ..
أى والله تهاجمه ...
تهاجم الكلب الأسود الضخم المرعب .
وما يسحق المتابع دهشة وذهولا ، أن الكلب .... الأسود الضخم الكبير المرعب ، الذى أرعبنى أنا شخصيا .. انطلق فارا أمامها فى ذعر الفأر الحيران ، هل تصدق أن القطة كانت تجرى وتطارد كلبا ، والكلب بدوره يفر بأقصى سرعته ، كأنما الذى يطارده أسد !!!
ثم عادت القطة بعد أن تأكدت من ابتعاد العدو إلى طعامها وواصلت التهامه بنفس الهدوء الوديع .
وفى ذهولى الذى أغرقنى ، وقفت وقد تحطمت كل المسلمات والمنطقيات والقواعد التى تعلمتها حتى صارت قوانين لدى ، وعدت إلى البيت أضرب كفا بكف ، وأحدث كل من لقيته بما رأيت كالمجنون الذى أصابه انهيار عصبى جعله يهذى .
وفيما أحاول البحث عن تفسير لما حدث ، قفز إلى ذهنى ما رُوى عن حال الأرض فى عهد الأمير العادل عمر بن عبد العزيز ، حتى ورد أن الذئب كان يأكل مع الغنم لايعتدى عليها ، وحدث راع لغنم أنه حين هجم الذئب – الذى كان منذ قليل يرعى مع الغنم – على إحدى الغنم قال : " مات الرجل الصالح " ، فلما وصل إليه خبر وفاة عمر بن عبد العزيز ، وجد أنه ذات اليوم الذى هجم فيه الذئب .
وورد فى أحاديث آخر الزمان وقيام الساعة ، أن المال يفيض حتى يرعى الذئب مع الغنم ، والسبع مع الإبل ، ويلعب الصبيان بالحيات ( الثعابين ) فلايؤذينهن ،وذلك فى عهد النزول لسيدنا عيسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام .
ماذا يعنى ذلك ؟؟
هل يمكن أن تتغير المسلمات والقوانين وطباع البشر والحيوان بصلاح أو فساد حكامهم ؟؟
أو – بصيغة أظرف – هل لمبارك دخل بما حدث بين القطة والكلب فى حادثة الصباح ؟؟
ولم تمض الأيام حتى ثبت لى بالدليل صحة هذا السؤال ، لكن كيف ؟؟
تعالوا أثبت لكم ....
***
لم أكن أقدر ضرر الديكتاتورية حق قدرها ، إلا حين رسبت فى إحدى السنوات بكلية الهندسة . ورغم وجود الدلائل والبراهين من واقعنا العملى المحلى والدولى والأسرى والشخصى ، إلا أن ادراكى لحجم الكارثة لم يكن إلا بعد هذه الواقعة .
كان رسوبى هذا نتيجة لأن سيادة الدكتور الجامعى ، لم يرضه معدل بيع الكتاب فى الدفعة ، ولأنه كان ينوى تجديد سيارته أو قضاء الصيف فى إحدى مصايف أوروبا ، ولم يستطع جمع المبلغ المطلوب من جيوب الطلاب الذين يسكن أغلبهم فى العشوائيات والأحياء البسيطة ، فقد قرر فى بساطة أن يعاقبهم على هذه الجريمة ( انخفاض معدل شراء الكتاب ) . فتوعدنا بامتحان "مظلم" على حد تعبيره ، ثم بتصحيح " على حق ربنا" على حد تعبيره أيضا .
وبالفعل ..
ولأن من صفات المؤمن الوفاء بالوعد ، فقد أوفى بوعده خير وفاء ، وتسبب فى رسوب أكثر من نصف الدفعة . وحين رسبت بالفعل ، وأعدت هذه السنة ... تبدت لى الكارثة كأوضح مايكون .
لقد فقدت الفرصة إلى الأبد فى التعيين كمعيد بالكلية ،
وتسرب إلى الهواء الأموال التى أهدرت فى هذه السنة والتى أدرى تماما كيف جمعها أبى بدمه ،
وصارت العيون ترمقنى إما بالشفقة ، وهو شعور مرير خانق ، أو بالشماتة ، أو بالاحتقار . ولك أن تتخيل كيف تواجه العيون التى توجّه لك هذه المشاعر ،
وتطوع الجميع لبحث وتحليل ماحدث ، فمن قائل رمانى بأنى تركت الدراسة لحساب البنات واللف والدوران ، أو آخر فسر ماحدث بأن قدراتى العقلية لايمكن ان تبلغ أكثر من هذا .
وقبل كل هذا وبعد كل هذا ، كانت الكارثة الأكبر أنى فقدت ثقتى بنفسى ، وحتى فى السنوات التالية للدراسة لم أكن على ثقة بأنى قادر على تفهم واستيعاب وتجاوز هذه السنة ، رغم أنى قادر بالفعل ، لكن مرارة التجربة لاتزول من حلقى .
وحتى النجاحات التى توالت فى السنوات المقبلة كانت بلاطعم ، لأن المقارنة بالوضع إذا لم أرسب هذه السنة كان يفقدنى حلاوة أى نجاح أو تفوق .
وتأثرت علاقاتى بأصدقاء الدفعة نتيجة لاختلاف الفرقة ،
كذلك بالدفعة الجديدة التى لم اعتد عليها .
كل هذه الكوارث والمصائب ، كانت نتيجة واحدة ضمن 300 نتيجة ( عدد الراسبين ) لرغبة متوحشة لكائن بلاقلب لم يفكر إلا فى متعته الرخيصة .
تحطمت الآمال ، وضاعت الأموال ، وذبحت الثقة ، وتعددت الظنون والاتهامات بكل ما يتبع هذا من تأثيرات أخرى ، لن يعرفها إلا من ذاقها ... بقرار اتخذه فرد يملك بضع درجات فقط .
إذا كان من يمتلك بضع درجات فقط ، استطاع أن يفعل فى عدد من البشر كل هذه الكوارث ، فماذا يمكن أن يحدث لو كان هذا الرجل يملك الجيوش والإعلام واتخاذ قرارات الحرب والسلم والتنازلات وإلغاء وتعديل قوانين تحكم حياة الملايين وتؤثر على أعمارهم وأرزاقهم .
كيف يكون حجم الكارثة إذا كان هذا الذى يملك كل هذه القوة والقدرات إذا استعملها كيفما يحب ، دون رقابة ولاحساب ولاعتاب ؟؟؟؟
ولا أخفيكم سرا ، فالكارثة اكبر من قدرتى على التخيل . إلاأنى ربما قربت الصورة لكثير ممن لايتخيلون – على الأقل كما يجب - . وعلى هذا .. فكم تكون جريمة من يسعون لاستمرار ديكتاتور فى مكانه ، ويدعمون هذا الاستمرار ويدعون إليه ؟؟؟
ألا لعنة الله على الظالمين
كتب فى 11/7/2005.