الخميس، أكتوبر 03، 2024

أمةٌ بين العجز والخذلان

 


إنما مثلنا ومثل هذا الواقع الذي نحن فيه، كَمَثل قومٍ وُلِدوا في سجن، لم يعرفوا من الحياة غير السجن، وقد درجوا على ذلك وألفوه حتى لم يعرفوا غيره! فهم يرون زنازينه بيوتا وأوطانا، ويرون سجانيه حراسا، ويرون تقسيم العمل فيه نظاما، ويرون مديره زعيما ورئيسا!

فلئن سألتَهم: ماذا تحبون؟ وفيم ترغبون؟ كان مناضلهم وأشجع من فيهم هو من ينبعث ليقول: نريد زيادة وقت التريض، والتحسين من جودة الطعام، وإصلاح أحوال المستشفى لتقديم الرعاية الصحية الملائمة للمواطنين، وتعديل القوانين المنظمة للإدارة لكي يتحسن تعامل الحراس مع النزلاء في أثناء تنظيم الخروج والدخول!

فلئن اكتفى هذا "الشجاع، المناضل، المغوار" بالكلام والمناشدة والنداء، فهو يعمل وفق القوانين القائمة، وقد ينظر إليه مدير السجن إن كان "صالحا" بعين العطف والعناية، وإلا فقد يتخوف من أن هذا الكلام هو أول العمل كما أن النار هي من مستصغر الشرر، فيعمل على عقوبته كي لا تنتشر أفكاره التي تهدد "نظام" السجن، وتشجع أولئك النزلاء على التمرد!

وأما إن كان هذا "الشجاع، المناضل، المغوار" أوسع من ذلك حيلة، فلم يكتفِ بالكلام، وإنما سعى في العمل، فإنه المتمرد الإرهابي الذي يجب أن يؤدب وأن يكون عبرة لمن يعتبر! وعظة لمن يتعظ!

ولكن.. ما هو هذا العمل الذي سيجعله عبرة؟!

إنما هو كأن يشاكس الحراس في مواعيد الخروج والدخول إلى الزنازين، فيسعى لانتزاع وقتٍ أطول من أوقات التريض، أو أن يقاوم معترضا صفعة وضعها حارسٌ على قفاه دفاعا عن نفسه وكرامته، أو أن يسعى سرًّا وبالحيلة لتهريب سجين إلى المستشفى قبل أن يستكمل أوراقه وإجراءاته الإدارية، أو أن يعمل في تثوير النزلاء للمطالبة بحقوقهم المكتوبة في دستور السجن! أو نحو هذا!

إنه، إذن، سجين خطير، وهو قد خرج عن القوانين وخالفها حين فكَّر في انتزاع بعض الحقوق لنفسه، ولم يلتزم بالوسائل القانونية السلمية المشروعة التي تحكم عمل السجن!

ولهذا فقد انقسم حول الرأي فيه: إدارة السجن والسجناء معًا؛ فقوم يقولون: إن الكبت يولد الانفجار ولا بد من إصلاح منظومة القوانين الحاكمة لتهدئة التوتر، ولكي يعود السجناء والحراس والإدارة يدا واحداة وشعبا واحدا، في ظل منظومة أفضل. وقومٌ يقولون: بل لا بد من الحسم والحزم إزاء أولئك المتمردين المشاكسين، فالنظام نظام! والالتزام التزام! والقوانين القائمة يجب أن تُصان وألا تُمَسَّ هيبتها، ولئن حقق هذا المتمرد المشاكس بعض مطالبه بطريق التمرد هذا فإن هذا لتشجيعٌ وتحريض لغيره على أن يتمردوا ليحققوا ما يشاؤون، فأين تذهب هيبة القانون والإدارة والسجن والحراس والرئيس؟!.. بلى، إنه لإرهابي يريد أن يبدلكم من بعد خوف أمنا، ومن بعد نظام فوضى، ومن بعد حكم القانون حكم الغابة!

وما يزال النقاش ساخنا ودائرا بين نزلاء السجن من جهة، وبين إدارة السجن من جهة، وبين الفريقين من جهة أخرى!

يتناقش السجناء: هل ما نحن فيه الآن نعمة تستحق الشكر؟ أم نحن نستحق خيرا من هذا؟ ألا تشاهدون في التلفاز والصحف كيف تبدو السجون الأخرى في هذا المُجَمَّع؟! ألا تنظرون إلى لون الزنزانة في هذا المجمع الغربي واتساعها؟ ألا ترون كيف هي المستشفى متطورة عندهم؟ ألا ترون الحارس منهم كيف يعامل النزيل باحترام وتقدير؟ ألا ترون كيف أن أوقات التريض عندهم ضعفيْ وقت التريض عندنا؟!

ويتناقش السجانون أيضا: هل يستحق هؤلاء النزلاء تحسين أوضاعهم أم أنهم كالكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فإذا حصلوا على شيء طمعوا في غيره؟! وهل يصلح عند هؤلاء الناس مثل ما يصلح في المجمع الغربي المتقدم المتطور ذي التعليم والثقافة والأموال الكثيرة؟! وهل حقا كان الكبت هو الذي أدى إلى الانفجار في موجة التمرد السابق، أم أن قلة الكبت وضعف القبضة هو الذي سمح بهذا الانفجار؟!

وبينما يسود هذا النقاش بين السجانين، وبين المساجين أيضا، إذ نبت في الناس قوم يقولون: يا أيها الناس، هل هذه أوطان أم هذه سجون وزنازين؟! وهل هؤلاء حرس يحفظوننا من أخطار الخارج أم هم سجانون لا همّ لهم إلا قهرنا وكبتنا والسيطرة علينا؟! وهل هذا الذي يحكمنا نظام وقانون لخدمتنا وتحقيق مصالحنا وتنظيم حياتنا أم أنه نظام وقانون لشرعنة وتقنين حبسنا وإذلالنا؟ وهل حقا أن منتهى طموحاتنا أن يكون السجن لدينا نظيفا ملونا متسعا مثل سجون المجمع الغربي؟! إن المجمع الغربي نفسه يعيش في سجون وتحتاج شعوبه إلى التحرير مثلما نحتاج إليها!

بدا الكلام كأنه منبعث من الخيال البعيد، فغر الجميع فاه! وحاول أن يتأمل هذا الكلام الجديد! إنه نوع جديد من "الإرهاب" فيما يبدو! وهو نوعٌ لا يستهدف شخص الرئيس مدير السجن، ولا مجموعة قوانين ضمن لائحة السجن! إنه كلام يستهدف طبيعة النظام نفسه، وبنية السجن نفسها! إنها إذن دعوة إلى الفوضى! الفوضى التي يسميها حرية وتحريرا! كيف نخرج بهؤلاء الناس من هذا "الوطن" الذي يسميه سجنا؟!.. وهل في الدنيا شيء إلا الأوطان التي يسميها: السجون؟!.. وهل يستطيع الناس أن يعيشوا بغير قانون ونظام كالذي يحكمهم داخل هذه الأوطان التي يسميها سجونا؟! وكيف يمكن للمرء أن يُعالج إن لم توجد مستشفى السجن؟ أو أن يتعلم إن لم توجد مدرسة السجن؟ وفيم يعمل إن لم يوجد محجر السجن ومصنعه ومزرعته؟!

***

إنه –عزيزي القارئ- حوار شبيه بحوار الجنينيْن في بطن أمهما، الذي ينسب للكاتب اليوناني ديمتري إفرينوس، والذي أراد به الكاتب أن يشير به إلى وجود حياة أخرى بعد الموت:

يُروى أن توأميْن في بطن أمهما دار اندلع بينهما حوار، قال أحدهما: هل تعتقد بوجود حياة بعد الولادة؟

فقال الآخر: لا يمكننا أن نتأكد فلم يعد أحد الولادة ليخبرنا، لذلك أنا لا أعتقد بوجود حياة بعد الولادة، ويكمل متهكما إذا كانت هناك حياة بعد الولادة ماذا عساها تشبه؟! كيف سنحيا خارج الرحم بهذا الحبل السري القصير؟ كيف سنمشي بهذه الأطراف الرخوة؟!! إنها خرافات لا تصدق..

-      لا أدري ولكنى أعتقد أن الأم ستساعدنا!

-      ومن أخبرك بهذا.. ليس هناك شيء اسمه أم!

-      إذا أنت لا تؤمن بوجود بالأم؟

-      أنا لا أؤمن بوجود شيء لا أراه ولا أستطيع أن أسمعه أو ألمسه ولا دليل على وجوده، إذا كانت الأم موجودة فلتظهر نفسها!

-      إن الأم تحيط بنا من كل اتجاه، نحن بداخلها، نحن أبناؤها، جائت بنا إلى الحياة كما أن الغذاء يأتينا منها، ليس بمقدورك أن تراها، لكن إن هدأت قليلا ستسمع صوتها وتشعر بها تربت على الرحم، وستشعر بحنانها يغمر قلبك ويطمئنك!

-      يالك من غبي حقا، الغذاء يأتينا من الحبل السري يا جاهل، وليس من الأم التي لا نراها ولا دليل على وجودها، كما أن الأم لم تأت بنا، نحن تَكَوَّنَّا داخل هذا الرحم عن طريق اختراق الحيوان المنوى لجدار البويضة، هذا هو التفسير العلمي لوجودنا أيها الأحمق، وليست الأم التي اخترعتها أنت! إذا كانت هذه الأم حنونة وتحبنا لهذه الدرجة، فلماذا تركتنا في هذا المكان المعتم الضيق، ستتركنا هكذا لا نستطيع الحركة بحرية حتى تنتهى حياتنا بالولادة ونحن مسجونين هكذا!.. يالك من غبي تؤمن بالخرافات!

-      لست غبيا ولكن أنا أؤمن بوجود الأم، وأن الولادة هى بداية الحياة، لأن هذا هو الاستنتاج المنطقي، فلا يعقل أن يأتينا الغذاء من العدم، لابد له من مصدر، كما أنه لا يعقل أن تأتي البويضة من العدم هكذا لابد لها من مصدر أيضا!.. وبالتأكيد إذا كانت هناك أم أتت بنا فإنها لن تتركنا بعد الولادة وسترعانا وتعتنى بنا..

-      ضاحكا: أنت غبي جاهل متخلف تؤمن بالخرافات أنا أذكى منك! ...إلخ

***

في الواقع، فإن هذا الجنين الملحد! هو أعقل من الملتبس بواقعنا هذا! فإن الجنين لم ير الدنيا، بينما أهل هذا الواقع يعلمون بأدنى استنتاج منطقي أن هذا النظام، نظام الدولة الحديثة، لم يكن يحكم حياة البشر إلا في هذه القرون الأخيرة، وعمره في بلادنا يزيد قليلا عن القرنيْن فحسب، فليس هو من ثوابت الكون ولا من حقائق الحياة!

نحن قومٌ مساجين، وأشد ما في هذا السجن من سوء، أن الناس لا يشعرون أنهم في سجن، بمن في ذلك طائفة كبيرة من شجعانهم ومصلحيهم، لقد تلوثت العقول وفسد الخيال حتى صار الشجاع المصلح يطلب إصلاحا وصورة على ذات النمط، لكن بشروط أفضل للعبودية!

نحن قومٌ مسلمون، عمرنا في هذا العالم الآن أكثر من أربعة عشر قرنا، لدينا نظام حياة سابق على هذه السجون الحديثة التي جعلت سلطة الحكم تتحكم وتمسك بكل تفاصيل الحياة وأنشطتها، فهي تراقب حتى التغريدات التي نكتبها، وتتحكم في الأموال التي بأيدينا، وتحدد لنا مناهج التعليم التي تشكل وعينا، وتسيطر على نوافذ الثقافة والإعلام التي نبصر بها الحياة، وتطلب منا أن ننتمي إليها ونواليها ونخلص لها ونضحي بدمائنا في سبيلها، أي أنها تطلب منا على الحقيقة أن نعبدها! فقانونها شريعة، وعلمها الوطني راية، ودستورها قرآن، والموت عند حدودها ومن أجل ترابها شهادة! وكل ما هو تحت حدودها خاضع لها ولها السيادة عليه، لا تُسأل عما تفعل ونحن نُسأل حتى عما لم نفعل!!

ها هم أهل الزنازين والسجون يرون أن زنازينهم تحجزهم وتمنعهم عن نصرة إخوانهم المذبوحين في غزة وفي لبنان ومن قبلها في الشام والعراق وأفغانستان والبوسنة وكوسوفا، ومن استطاع التسلل منهم إلى تلك الأنحاء ليجاهد فيها قد صار إرهابيا مطلوبا للعدالة!! تأمل.. للعدالة!!

الأمة لم تخذل غزة ولا غيرها.. الأمة محبوسة عاجزة عن نصرة غزة وعن نصرة غيرها..

ولكن الخذلان الحقيقي، هو البقاء في حالة الضعف هذه، بل في حالة الاستسلام هذه لأنظمة قد ثبتت خياناتها وعمالتها وتواطؤها مع العدو وولاؤها له.. هذا هو الذي يجعل الضعف خذلانا، فننتقل من الأمر الذي نحن معذورين فيه شرعا، إلى الحال الذي نحن فيه آثمون!

إن نظامنا الإسلامي الذي ساد قرونا في هذه الدنيا، غلَّ يد السلطة أن تتغول وتتمدد وتهيمن على سائر أنشطة المجتمع، وهو أيضا النظام الذي أسس لاستقلال الأمة بأموالها ومواردها، وحثها على أن تقاوم أي تغول على شأنها وأمرها! ومن قرأ شيئا يسيرا في أبواب كثيرة من كتب الفقه والتاريخ عرف بوضوح أننا الآن في وضع احتلال هو أسوأ من كل احتلال ابتلينا به؛ إنما هو احتلال مغلف بقشرة وطنية ومطليٌّ بطلاءٍ إسلامي، ولكنه أفتك من كل احتلال أجنبي.. طالع مثلا أبواب: الأوقاف، وإحياء الأرض، ومصارف المال، وزكاة الركاز والمعادن، والضرائب والمكوس، الاحتكار، التسعير، والظفر بالحق، تغيير المنكر، والحسبة على السلطان... إلخ!

من قرأ شيئا من الشريعة علم أنها تصنع مجتمعا قويا أمام سلطة محدودة الصلاحيات، وتُمَكِّن الأمة من مواردها المالية ومواردها البشرية، وما السلطة فيها إلا حالة تنظيم حارسة لا حالة سيطرة متوغلة ومهيمنة، وأنها تتولى الملفات العامة الكبرى كالأمن والدفاع وما يتعلق بهما!

أما الآن، فقد أنشأ الاحتلال الغربي في بلادنا دُوَلًا على نمط دوله، زنازين جديدة، وضع عليها أسوأ أنواع عملائه، يحكموننا بقوانينه ومزاجه، ويُمَكِّنونه من أموالنا ومواردنا وعقولنا بل ومن أجسادنا كذلك!

الخذلان حقا أن نبقى مرتاحين في هذا السجن! وألا نعمل على تحطيمه والتحرر منه!

نشر في مجلة أنصار النبي، أكتوبر 2024م

الأربعاء، سبتمبر 04، 2024

أنوار الدجى

 

لا بد للأمة المستضعفة التي تحاول النهوض من تقديم الشهداء في سبيل ذلك، هذا قانون الدنيا الذي يعرفه المسلم والكافر، الصالح والطالح، بل هو إجماع العقلاء!

ولئن كان المرء يعرف بالبديهة والطبع أنه لا نجاح في الدنيا بغير التعب والجهد، فبمثل ذلك –بل هو أولى منه- أن لا نهضة لأمة ولا عز لها ولا مجد ولا جاه إلا ببذل الشهداء! فما وصلت أمة إلى السيادة إلى بعد طريق الكفاح المرير! وانظر حولك وفتش في الأمم وفي التاريخ: هل رأيت أمة غلبت وسادت إلا بعد أن انتصرت في المعارك؟!

ولهذا ترى الأمم تمجد شهداءها ومقاتليها أكثر مما تمجد مهندسيها ومعمارييها وفنانيها، فلولا الحروب والانتصار فيها ما استطاع المهندس والمعماري والفنان أن يصنع شيئا! فالمقاتل والشهيد هم صُنَّاع المجد وأساسه، وأما البقية فهم أصحاب زخرفته وتزيينه وتلميعه!

وقد صدق شوقي حين قال:

ولا يبني الممالك كالضحايا .. ولا يُدْني الحقوق ولا يُحِقُّ

ففي القتلى لأجيال حياة .. وفي الأسرى فدى لهمُ وعتق

وللحرية الحمراء باب .. بكل يد مضرجة يُدقُّ

 

(1)

ليست أمتنا في قوانين الدنيا بدعا من الأمم، ولكنها كذلك في المعاني التي تهيمن عليها وتصوغ نفسها ومزاجها، فلن تنتصر أمتنا ولن تنهض ولن تسود إلا إذا خاضت المعارك وانتصرت فيها ووضعت خيرة أبنائها في منازل الشهداء. لكن الشهداء في ديننا ليسوا الثمن المدفوع في سبيل المجد فحسب، ولكنهم السادة الراقون إلى ذروة سنام الإسلام! الصاعدون إلى أعالي الجنان!

ولأن الله هو خيرُ من سُئل وأجود من أعطى وأوفى من وعد، فإنه كافأ الذين بذلوا حياتهم له تصديقا بما وعد وتنفيذا لما أمر، كافأهم بدوام الحياة، ولهذا قال تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]. وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171].

قال إمام التفسير ابن عطية الأندلسي في هذه الآية: " أخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون. هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم"[1].

وأخبرنا نبينا أنه ما من أحد يدخل الجنة فيتمنى أن يعود إلى الدنيا، إلا الشهيد، وهو إنما يتمنى ذلك ليعاود القتال فيُقتل من جديد، ففي حديث أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة»[2].

ولقد تمنى نبينا ﷺ هذه المنزلة لنفسه، وهو أفضل البشر وسيد المرسلين، ففي حديث أبي هريرة أنه ﷺ قال: والذي نفسي بيده، لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأُقتل، ثم أحيا ثم أُقْتَل، ثم أحيا ثم أُقتل!

بل إن الذي خرج إلى الجهاد، حتى لو لم يُقْتَل ولم ينل الشهادة، يعطى من الأجر ما لا يعطاه أحد غيره، وقد سُئل ﷺ عن عمل يعدل الجهاد، فقال: «لا أجده». ثم قال ﷺ: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، قال: ومن يستطيع ذلك؟. ثم أضاف أبو هريرة، راوي الحديث، عبارة تفسيرية مدهشة يقول فيها: «إن فرس المجاهد ليستن في طوله، فيكتب له حسنات»[3]، أي أن المجاهد يُعطى أجرا على المرح الذي يمرحه حصانه!!

والآيات والأحاديث في فضل الشهادة والجهاد كثيرة لا يستوعبها هذا المقام..

 

(2)

المقصود أن هذا الحشد الحافل من النصوص القرآنية والنبوية، ومعها تلك السيرة المزدحمة بأخبار الشهادة والجهاد منذ زمن النبي والصحابة والتابعين ومن بعدهم، كل هذا قد جعل أمتنا دفاقة بالمجاهدين فياضة بالشهداء، ولولا هذا كله ما بلغنا السيادة والتفوق والعزة التي كنا فيها لألف سنة تقريبا، لقد بُنِي هذا المجد كله على صرح من الأشلاء والجماجم التي بذلها أصحابها في سبيل الله!

وقد استطاع المسلمون أن يوازنوا بين أمريْن لا يمكن لغيرهم الموازنة بينهما، فهم قوم يكرهون القتال، كما وصفهم ربهم في القرآن الكريم، ويُقَدِّمون عليه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبدؤون دعوتهم بالحجة واللسان والبيان، فإذا تعذر ذلك أقدموا على الجهاد إقدام من يحب الموت ويطلبه ويشتاق إليه ويتعشقه! وما ذلك إلا لأنهم علموا أن الخير فيما كتبه الله وقدَّره، وهو العليم، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

ومن هنا فقد كان جهاد الأمة مفارقا للوحشية التي اصطبغت بها حروب الأمم الجاهلية، وكانت أخلاقها عاصمة لها من تكرار سيرة الغزاة السفاحين السفاكين. وفي ذات الوقت لم يكونوا الجبناء المتخاذلين ولا الضعفاء الخوارين!

قال مؤرخان فرنسيان نظرا في تاريخ الإسلام بين تاريخ الأمم: "الإسلام دين أبطال أكثر منه دين شهداء، ففور وفاة الرسول، ستنطلق القوة الهائلة التي كان قد أنشأها لفتح العالم"[4]، وقولهما: دين شهداء إنما قصدوا به المعنى النصراني للشهادة، معنى الموت المستسلم أمام طواغيت الدنيا لأن ملكوت الرب لن يتحقق إلا في الآخرة.

وكما يقول ولفرد كانتول سميث: "النصرانية أرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياة الدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أما الإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخ كلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية في الإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح ما اعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمام عجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسه العجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيح مسارها وردها إلى الصراط المستقيم"[5].

إن هذه المعاني الفكرية المنحوتة التي استخلصها أصحابها بعد البحث والتأمل تتسرب إلى المسلم وتتشربها الجموع المسلمة في سلاسة وعذوبة وروحانية رفيعة في مصادرها الإسلامية، وخذ هذا المثال: لقد كتب ابن النحاس كتابا في فضل الجهاد والشهادة، فأسماه بهذا الاسم الفاخر: "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومُثير الغرام إلى دار السلام"، وقال في مقدمته:

"ومما يجب اعتقاده أن الأجل محتوم، وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن ما قدر أزلا لا يُخْشَى فيه الفوت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الرِّيَّ الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، وأن من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، ومن أنفق دينارا كُتِبَ بسبع مائة -وفي رواية- بسبع مائة ألف دينار، وأن الشهداء حقا عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له من جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يُشَفَّع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه أَمِن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النارَ عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوما من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبدا لا ينقطع، وأن رباط يومٍ خير من الدنيا وما فيها أجمع... إلى غير ذلك من الفضل الذي لا يضاهى، والخير الذي لا يتناهى. وإذا كان الأمر كذلك فيتعين على كل عاقل التعرض لهذه الرتب وإن كان نيلها مقسوما، وصرف عمره في طلبها وإن كان منها محروما".

 

(3)

من نظر في التاريخ عرف بغير كثير ونظر وتعب أن ما نحن فيه الآن من الذلة والضعف إنما كان بسبب التهاون في الجهاد، والتراخي فيه، حتى تركه بالكلية. فما إن وقع التكاسل في باب الجهاد هذا حتى بدأت الأمة يُنتقص من أطرافها، ويدخل عدوها عليها، حتى صرنا إلى هذا الحال الذي نحن فيه.

ولأننا اليوم أمة مستضعفة فلا بد أن تتنوع فينا أنواع القتل، وتتكاثر فينا أصناف الشهداء:

فثمة من يقتل في جهاد يدفع بها الكفرة المحتلين، كما يفعل أهل غزة وأهل فلسطين الميامين وهم يدفعون الصهاينة ويصاولونهم، يوقفون أنفسهم على مهمة حماية الأقصى أن يُهْدَم وأن يُستباح وأن يعود كما كان في أيام الصليبيين حظيرة خنازير، أو كما يراد له أن يكون في خيال اليهود: معبدًا يُساء لله فيه!

وثمة من يقتل في جهاد الجبابرة والطواغيت، عملاء المحتلين الذين يبغضون الدين ويطاردون المؤمنين ويُمَكِّنون في أرض الإسلام للصهاينة والصليبيين والوثنيين، كما يفعل أهل الثورات والجهاد المبارك في الشام وفي غيرها من بلاد الثورات، ومؤخرا التحقت بهم بنجلاديش، والتي نسأل الله أن يجنبهم زلل الثورات العربية وأخطاءها، وأن يجنبهم أولياء طاغيتهم التي أزالوها، فإن من وراء طاغيتهم دولة وثنية حقود كؤود هي الهند التي تعيش الآن عصرا هندوسيا متعصبا!

وثمة من يقتل في جهاد البغاة والصائلين، وأولئك هم عملاء عملاء المحتلين، كما يحدث في السودان الخصب الحبيب، الذي تسلط عليه السفاح المجرم حميدتي، الممدود بحبل شيطان العرب ابن زايد، والذي يقترف من جرائم القتل والاغتصاب والتعذيب ما ليس معروفا أنه كان في تاريخ السودان، إذ أهل السودان من أطيب الناس وأكثرهم هدوءا، وهو ثاني اثنين من بلاد العرب –مع موريتانيا- يمكن أن يعيش فيها رئيس سابق، ولعلها الوحيدة التي يعيش فيها قائد انقلاب عسكري إذا فشل انقلابه!! وذلك لشدة ما عند القوم من اللين والتسامح! فأي شيطان هذا الذي أفسد أهل السودان حتى أحدث فيها هذا الحدث العظيم الشنيع؟!

وثمة من يُقتل صابرا محتسبا قابضا على دينه كما في تركستان الشرقية وأراكان المنسية، وغيرها من البلاد التي اشتدت فيها وطأة الكافرين وانعدم فيها النصير للمؤمنين، ومثلهم في ذلك مثل من يموت في سجون الأنظمة العربية: إما تحت التعذيب، وإما بالترك ينهشه المرض ويؤخر عنه العلاج حتى يموت!

وهؤلاء جميعا هم ثمن الهزيمة المدفوع، ولعلهم يكونون في ميزان سيئات من تركوا الجهاد قديما، وإنه لمريع مروع أن يتصور المرء كيف ستكون موازين الذين تركوا الجهاد إذا عاقبهم الله فوضع في موازين سيئاتهم كل هؤلاء القتلى والجرحى والمقهورين!

ولكنهم مع ذلك هم وقود النهضة القادمة، فهم الذين يمهدون السبيل ويعبِّدون الطريق، وفي موازين حسناتهم سائر انتصارات الأمة الآتية، وإنه لأمر هائل عظيم أن يجد الشهيد في ميزان حسناته ملايين الناس الذين اهتدوا لموته، واقتدوا بسيرته، واستفادوا من ثمرة عمله!

 

(4)

لئن كان المرء لا يختار زمانه ولا مكانه، فما له إلا أن ينظر ويتأمل لمَ هيَّأه الله وفيمَ أقامه، فلا اعتراض على قدر العليم الخبير، وهل للعبد الجاهل الغرير أن يعلم حكمة الرب الكبير؟!

فلئن لم نختر الحياة بأيدينا، فلا أقل أن نختار نوع الموت الذي ينفعنا ويرفعنا ويُرَقِّينا، فما من الموت مفر ولا مهرب، وليس لنا في هذه الحياة الدنيا –مع الذلة والضعف- لذة ولا مكسب!

ولئن كان المسلم في زمن العزة يملك أن يتخير من الثغور ما يجاهد فيه، فإن المسلم في زمن الذلة هذا لا ينفك عن ثغر يجد نفسه فيه!

ولنا على السابقين فضل الأربعين ضعفا، وأن نكون مندرجين في أحباب النبي الذين اشتاق إليهم صفة ووصفا!

نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ، سبتمبر 2024



[1] ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 1/540.

[2] البخاري (2817)، مسلم (1877).

[3] البخاري (2785)، مسلم (1878).

[4] جان برو وغيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم، ص93.

[5] ولفرد كانتول سميث، الإسلام في التاريخ الحديث، ص9، نقلا عن: محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص102.

السبت، أغسطس 03، 2024

انحطاط النظام العالمي

 

 مثل أسوأ الديكتاتوريات في العالم، كان الكونجرس الأمريكي يهب في كل دقيقة واقفا ومصفقا للسفاح مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وهو الأمر الذي لا يحظى به الرئيس الأمريكي نفسه في هذا الكونجرس، ولا يحظى به نتنياهو نفسه في برلمانه هو! وذلك مشهد شديد الكثافة والفجاجة يرى فيه المرء طبيعة هذا النظام العالمي الذي تقوده أمريكا! فهذا النظام نفسه، وعبر أحد مؤسساته، وهي: محكمة العدل الدولية، قد أصدر بيان إدانة واعتقال لهذا المجرم السفاح! فإذا به يُستقبل خطيبا في هذا الكونجرس، بل إن هذا الكونجرس نفسه قد ردَّ على قرار المحكمة بفرض عقوبات عليها وعلى قضاتها!

ولقد صرح كريم خان، رئيس المحكمة نفسه، بأن مسؤولا غربيا قد صرَّح له، بأن هذه المحكمة إنما أنشئت لمعاقبة مجرمي الحرب في إفريقيا أو المارقين مثل بوتين، ولم تُصنع لمعاقبة حلفائنا مثل نتنياهو!

وهذا مع أن هذه المحكمة ساوت بين القاتل والقتيل، بين المحتل ومن يقاومه، فأدانت الطرفين وأصدرت قرارا لاعتقال قائدين من إسرائيل وقائدين من حماس! ومع أن رئيسها هذا نفسه زار إسرائيل ولم يزر غزة! ولم يغير هذا من الواقع شيئا!

ثم إن هذا مع أن الأمر لا يحتاج إلى محاكمة ونظر ووثائق، فإن العدسات تنقل ما يحدث إلى جميع أنحاء العالم مباشرة بلا واسطة، وإن قوما قُتِل منهم أربعون ألفا، وأصيب منهم نحو مائة ألف، ومُحيت بلدهم، لا يحتاجون في فهم ما يحصل إلى وثائق وقضايا وشهود.. ولكن الجاهلية تحب الأوراق والوثائق والإجراءات! ومع هذا طاشت المشاهد، ثم طاشت بعدها الأوراق والوثائق والإجراءات، وصارت المحكمة هي المنبوذة! وصار السفاح هو ضيف الشرف المحتفى به!!!

وهكذا تأكل الجاهلية المعاصرة أصنامها التي صنعتها بأيديها، وبقي أن يتعامل الجميع مع هذا القانون الدولي ومؤسساته بكل ازدراء واحتقار.

إن هذا الإجرام يُذَكِّرنا بعظمة ديننا، وعظمة النموذج الذي أثمره، وعظمة ما كان في هذا العالم يوم كان المسلمون هم سادته وملوكه وأصحاب الكلمة العليا فيه.

وإن الحكايات كثيرة، ولكن نأخذ منها واحدة أو اثنتيْن فحسب:

روى الطبري أن عمر بن الخطاب لما قُتِل، ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر أنه رأى قاتل عمر أبا لؤلؤة المجوسي يتناجى مع فارسي آخر كان أسيرا في المدينة وهو الهرمزان ومعه آخر نصراني اسمه جفينة، فلما رأوْه اضطربوا، وسقط من أيديهم خنجر له نصلان. وهذا حقا هو وصف الخنجر الذي قُتِل به عمر، فثارت أعصاب عبيد الله بن عمر، وانطلق إلى بيت الهرمزان فقتله وقتل جفينة، إذ هم قتلة أبيه المتآمرون على ذلك!

فحبس المسلمون عبيد الله بن عمر، ولما تولى عثمان بن عفان الخلافة كانت أول القضايا التي يُنظر فيها هو قضية عبيد الله بن عمر، فاستشار عثمان الصحابة فيه، فبعضهم رأى أن يُقتل قصاصا؛ إذ هو قد قتل فارسيا ونصرانيا دون ثبوت التهمة. وبعضهم استعظم أن يُقتل عمر بالأمس ويُقتل ولده اليوم! وحاول البعض أن يجد مخرجا شرعيا بأن القتل كان في زمن فوضى لا إمام فيه (بين فترة قتل عمر وتولي عثمان)، فلم يكن قتلُ عبيد الله هؤلاء افتياتا على السلطان الإمام!

فماذا فعل المسلمون؟ وعلام استقر الأمر؟

ثمة روايتان هنا؛ وكلاهما عند الطبري، تقول الأولى: بأن عثمان لما رأى أن القتلى لا أهل لهم بالمدينة يُسَلَّم القاتل إليهم، صار أمر القتلى إلى الخليفة إذ هو وليُّ من لا وليّ له، فاختار دفع الدية ودفعها من ماله! وهذا حلٌّ شرعيٌّ يراعي في الوقت نفسه مشاعر المسلمين الذين فُجِعوا بخليفتهم ويكادون أن يفجعوا بولده، والمقتول أصلا رجل مغموز في دينه متَّهَمٌ والشبهة حوله قوية! غير أن هذا الحل لم يُرْضِ بعض المسلمين، ورأوْا فيه نوعا من المجاملة والمحاباة، واعتبروا أن هذا هو "أول فتق في الإسلام"، يعني: أول انحراف وقع في تاريخ الإسلام.

وتقول الرواية الثانية بأن عثمان جاء بابن الهرمزان، واسمه القماذبان، فأعطاه عبيد الله بن عمر ليقتله قصاصا بأبيه، قائلا: "يا بني هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله"، فأخذه، وسار معه الناس، يتشفعون ويطلبون منه أن يعفو، حتى قال لهم: "ألي قتله؟ (أي: أليس من حقي قتله؟) قالوا: نعم. وسَبُّوا عبيد الله. فقال: أَفَلَكُم أن تمنعوه؟ (أي: هل من حقكم أن تمنعوني من ذلك؟) قالوا: لا. وسَبُّوه فتركته لله ولهم، فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم". أي أنه عفا، ففرح الناس بذلك واحتفوا به حتى أعادوه إلى بيته محمولا على الأعناق.

هذا فِعل المسلمين في رجل مجوسي متَّهم في إسلامه ومتهم في قتله خليفتهم الكبير، ثاني وزراء رسولهم الأعظم ﷺ!

وقبل ذلك سطر المسلمون ما لم يشهد التاريخ مثله، وذلك حين اقتضت ظروف الحرب أن ينسحب المسلمون من مدن فتحوها في الشام، وأخذوا من أهلها الجزية بالفعل.. فماذا كان؟! أعاد المسلمون الجزية التي أخذوها إلى أهل البلد مرة أخرى.. هذا وهم مُقدمون على حرب يحتاجون فيها إلى المال. فدُهِش النصارى لذلك، ودعوا للمسلمين بالنصر على الروم!

نقول هذا الآن لا لكي نبكي على مجدنا الغابر، وهو مجد يستحق البكاء عليه، ولكن لنرى كيف أن الشريعة العادلة حين نفذها قوم مؤمنون كانوا يقولون ويقومون بالحق ولو على أنفسهم! ففي ظل نظام إسلامي عالمي ما كان يمكن للمذابح أن تحصل لو كان للمسلمين قوة على منعها، لا بيدهم هم ولا بأيدي غيرهم! ولن يقبل المسلمون بالإجرام والقتل والظلم لا على إخوانهم المسلمين ولا على غيرهم من الكافرين. وهم حين يفعلون ذلك لا يرون أنهم يفعلونه تفضلا ولا منة، بل يرون أنهم يفعلونه دينا وإيمانا واحتسابا!

ولمثل هذا حافظ المسلمون في بلادهم على الأقليات الكثيرة المتنوعة التي كانت قبل عهد المسلمين وبعده عرضة للاضطهاد، بل كانت عرضة للإبادة والإفناء.

ثم ما لبثت أيام بعد خطاب السفاح في الكونجرس حتى جاءتنا فرنسا بحفل الافتتاح للألعاب الأوليمبية التي تقام في باريس لهذه السنة! وإذا به حفلٌ قد انزعج منه كثير من النصارى أنفسهم حتى اضطر الحساب الرسمي للأولبيمياد على منصة يوتيوب أن يحذف هذا الفيديو!

لئن كان خطاب نتنياهو في الكونجرس دليلا ساطعا على ما في هذا النظام العالمي من الظلم والقتل والإجرام والطغيان، فإن هذا الحفل الافتتاحي للأوليمبياد كان دليلا ساطعا على ما في هذا النظام العالمي من الكفر والفسوق والانحلال والعصيان. إن الذين رسموا صورة الحفل وخططوا له قصدوا عن عمد إلى تحقير الأديان وازدرائها، وإلى مناكفتها ومعاندتها، وفي المقابل فقد عمدوا إلى تعظيم أهل الإباحية وعمل قوم لوط والافتخار بالذين يغيرون خلق الله ممن يسمونهم المتحولين من ذكر إلى أنثى أو من أنثى إلى ذكر. وقد مزج هؤلاء بين معاداة الدين والمباهاة بالفاجرين المنحلين ليجعلوا رسالة الحفل الواضحة أن هؤلاء الآخرين قد أسقطوا الأولين وارتقوا في مكانهم، فهم الآن يُذلونهم ويهينونهم ويسخرون منهم.

لقد كان حفلا، كأنما كان الذي خطط له ودبر، وأشرف عليه هو الشيطان نفسه! ولا يحتاج المرء إلا إلى قليل من الصور المنشورة لكي يرى فيه قول الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]، وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83].

وإن في هذا الحفل من الإسراف والتبذير والمباهاة ما هو مصداق قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]، وقد وصف الله المبذرين بقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].

بل كأنما كان هذا الحفل تطبيق عملي لخطة الشيطان التي وضعها لإضلال الناس وإدخالهم النار، تلك الخطة التي ذكر لنا ربنا بنودها في القرآن الكريم، ومنها:

1.    الأمر بالفحشاء والمنكر: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21].

2.    تزيين التعري والانحلال: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20]، وقد حذرنا الله من ذلك فقال: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27].

3.    الحث على تغيير خلق الله: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 118، 119].

4.    الدأب والإصرار والدخول على النفس من كل الجهات {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].

5.    تزييف المعاني وقلب الحقائق واختراع الألفاظ المزخرفة للمعاني الفاحشة الفاسدة؛ فإذا هذا الفساد كله والسواد كله يسمى بالحضارة والتقدم والتنوير والمساواة... إلخ! وقد قال ربنا جل وعلا: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24]، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].

وقد رأيت من تعليقات بعض النصارى تعليقا هزَّني من الأعماق حقا، وهو قول أحدهم: "المكان الوحيد الذي لا يُستهزأ فيه بالمسيح عليه السلام هو بلاد المسلمين"!!

أي والله، نعم! وهو ذا!

إن بلاد المسلمين أولى بالمسيح منهم، وأكثر تعظيما للمسيح منهم، ولئن كانت علمانيتهم تسمح للواحد منهم أن يرتدي قميصا كتب عليه: "المسيح شاذ جنسيا" (استغفر الله العظيم، وحاشا لله ولنبيه! وناقل الكفر ليس بكافر!).. لئن كانت علمانيتهم تسمح بهذا، فإن ديننا نحن المسلمين لا يسمح له بأدنى الإساءة إلى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام!

ومن عجائب هذا الحفل، وهو من مشاهد إشراف الشيطان عليه، أن الرئيس الفرنسي رحب بحضور نتنياهو فيه، ليكتمل مشهد الكفر والفسوق والعصيان!

لذلك كله، فإن النظام الإسلامي العالمي هو إنقاذ لا للمسلمين المستضعفين فحسب، بل إنقاذ للعالمين، إنقاذ لهم من قبضة الشيطان التي تستولي على بيوتهم وأبنائهم وأرواحهم، فتقلب ما كان مقدسا إلى مستهان مستباح، وتقلب ما كان مُجَرَّما إلى مقُدَّس مُصان!

إنه مهما قيل، مهما قيل، من مساوئ كانت في ظلال الحكم الإسلامي، من استبداد هنا أو فسوق هناك أو عصيان هنالك، فإن هذا كله لا يساوي أبدا أبدا شيئا مما يجري في هذا النظام العالمي المعاصر الذي أسس للقتل، وشرعن الفسوق، وجعل المعاصي حقوقا من حقوق الإنسان!! 

ولئن كان بعض المفكرين والفلاسفة من الغربيين ومن غير المسلمين ينادي على الغرب أن يستفيدوا من تجربة الإسلام الروحية والأخلاقية من بعد ما رأوا وذاقوا ما في المادية العلمانية من القسوة والتوحش، فإن هذا كله ما يلبث أن يعض الجميع بنابه حتى ما يجدون لهم ملجآ ولا سبيلا إلا الإسلام، شرط أن نستطيع نحن تحرير بلادنا، وإقامة نظامنا، ونشر دعوتنا! وعندئذ يقبل الناس إلى دين الله أفواجا، لنحقق بالعمل لا بالنظر وحده قول ربنا تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].


نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ، أغسطس 2024

الأربعاء، يوليو 03، 2024

عام هجري جديد.. بلا خلافة للمسلمين!

 


محمد إلهامي

يكتب هذا المقال بينما يتابع الناس المناظرة الرئاسية الأولى بين المرشحيْن للرئاسة الأمريكية: جو بايدن ودونالد ترمب، فقد توجهت الأنظار وتعلقت القلوب بالشاشات، ثم اندلعت واشتعلت بعد ذلك التحليلات، وصار كل قوم ينظرون ويبحثون أي الرئيسيْن أنفع لهم إذا فاز! وليس هذا بمستغرب، فإنها انتخابات: الخلافة الأمريكية العالمية!

إن هذا الخليفة الجديد، الذي سيسكن دار الخلافة الصليبية (البيت الأبيض)، يملك أن يفعل الكثير في سائر أنحاء العالم، ولولا ذلك ما رفع به أحدٌ رأسا، مثلما لا ينتبه أحدٌ لانتخابات أخرى تجري في شرق الأرض أو في غربها!

حتى نحن، نحن المسلمين المستضعفين المذبوحين في كل مكان، نتجادل ونتناقش حول أيهما أنفع لنا، أو بالأحرى: أيهما أقل ضررا لنا، فكلاهما يتفقان على ذبحنا واستباحتنا ويتنافسون فيما بينهم على السبيل الأمثل لانتهاكنا واستنزافنا ونهب أموالنا ومواردنا وسلب ديننا ودنيانا!

لماذا وكيف يحدث هذا؟ ولماذا صرنا وصاروا إلى ما نحن فيه وما هم فيه؟!

قبل أن نأخذ في الإجابة عن هذا.. دعنا نتذكر أمورًا حصلت عندنا نحن، في أرضنا وديارنا، ولكن غفلت عنها القلوب وزاغت عنها الأبصار!

ثم نسأل: لماذا اتجهت أنظارنا وأنظار الناس إلى ما خلف المحيط البعيد؟ ثم غفلت عما هو في الجوار القريب؟!

فإذا عرفنا لماذا؟ وما هو السبيل؟ فسنستغرب أن الحل كان أقرب إلى أيدينا مما تصورنا!

(1)

من أخطر ما وقع في هذا الشهر الماضي وأقبحه وأبشعه، ما حصل في يوم (5 يونيو 2024م) حيث اقتحمت طوائف من اليهود الصهاينة المسجدَ الأقصى يحتفلون بذكرى الاستيلاء عليه، ومن بين ما اقترفوه من الجرائم: هذا السباب وهذه الشتائم التي سالت بها أفواههم القبيحة تجاه نبينا الأعظم المكرم ﷺ.

وأقبحُ منه أن الأمر مرَّ مرور الكرام، فلم يثر هذا حمية أحدٍ ولا حفيظته، لا من الحكام والمسؤولين والأنظمة، ولا من المؤسسات الدينية الرسمية، ولا حتى من وسائل الإعلام الكبيرة في العالم الإسلامي، فصار الأمر خبرًا عاديا، كأنما لم يُمَسَّ إمام المسلمين وزعيمهم وقدوتهم ومصدر شرفهم ﷺ؟!

ويجري هذا كله في ظل حرب غزة التي يشنها نفس أولئك اليهود الصهاينة على المسلمين، تلك المذبحة الكبرى التي كشفت أن الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي أحسنها ضعيف عاجز، والعديد منها بين كافر وزنديق وخائن.. فلقد امتدت أيادي هذه الأنظمة لدعم الصهاينة وفتح طرق برية وبحرية في بلادهم –لم تكن مفتوحة من قبل- لإيصال البضائع والمنتجات إليهم!

وذلك في ذات الوقت الذي انقبضت فيه أيديهم عن المسلمين المقتولين المذبوحين في غزة، فقد اتفقوا على حصارهم، وشدد النظام المصري إغلاق المعبر الوحيد الذي يمكن أن ينقذهم من المذبحة، بل زاد في عاره وفضيحته بأن صار يأخذ من الهاربين والجرحى –بعد الإذن الإسرائيلي- أموالا طائلة يستصفي بها بقية ما فقده الهاربون من المحرقة! ثم اتفق مع الإسرائيليين فسمح لهم باحتلال الجهة الأخرى من معبر رفح راضيا أن تخرق اتفاقية السلام طالما كان هذا لصالح الصهاينة، وقد كان قبل ذلك يقتل الفلسطيني إذا جاوز الحدود دفاعا عن صنم "الأمن القومي المصري"! فأما إذا كان الإسرائيلي هو آكل الصنم فلا بأس!

فمن لم يكن له معبرٌ مع غزة، فقد بحث لنفسه عن دورٍ يخدم به الصهاينة، فقبل أيام من كتابة هذا المقال كشف أن النظام المغربي، وهو البعيد جدا عن غزة وإسرائيل، قام بتزويد السفن التي تحمل الأسلحة للصهاينة بالوقود اللازم لها، من بعد ما رفضت إسبانيا أن تفعل ذلك، وبعدها بيوم واحد كُشِف عن طائرات مغربية تسير في رحلات لتهبط في المطارات العسكرية الإسرائيلية!.. وذلك نوعٌ من الإخلاص والمبادرة لا تفسير له إلا الخيانة وعداوة الله والولاء لليهود والصليبيين!

وجميع أولئك مثلما اتفقوا على دعم الصهاينة وحرب المسلمين، فقد اتفقوا أيضا على كبت الناس في بلادهم، فكلٌ منهم حاصر شعبه ألا يتكلم أو ينطق أو يتظاهر نصرة لإخوانه في غزة!

وقد بلغت الغرائب والعجائب والمدهشات حدَّها الأقصى حين ترى الصهاينة، ينشرون بأنفسهم صورا لهم وهم يدوسون راية الإسلام "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ولا يهتز لذلك نظام يزعم لنفسه الإسلام، ولا يهتز لذلك منافقوه ومحاموه، فكأنما هؤلاء يخدمون الصهاينة إيمانا واحتسابا، فإن أدنى المصلحة ألا يتعمد الصهاينة إحراج حلفائهم وعملائهم!! بل قد رأيت من منافقي هذه الأنظمة من يقول: إنهم لا يدوسون علم السعودية بل هذا علم حماس!!!!

فتأمل في هذا الوضيع الوقح الزنديق، كيف فرغ قلبه من الحمية لله ورسوله ودينه، وامتلأ بالحمية لحاكمه، فهو ينتفض لينفي أن هذه الإهانة تعلقت بـ "الدولة السعودية"! ولا يهمه بعد ذلك أن الإهانة لحقت باسم الله ورسوله وراية الإسلام!!

ترى.. هل بقيت غرائب وعجائب ومدهشات وإهانات وخزي وذل وعار أكثر من هذا الذي نحن فيه؟!!

 (2)

لئن كان المشهد في غزة مروعا وهائلا، ففي السودان مشهد لا يقل عنه بل لعله يزيد في الروع والأهوال، ولئن كان أهل غزة قد ابْتُلوا في جيرانهم من الأنظمة العربية التي تعاديهم كالصهاينة بل أشد عداوة فإن أهل السودان قد ابتلوا بنفس هؤلاء الجيران ثم ابتلوا فوق ذلك بقيادات ضعيفة عاجزة، بل وبعضها خائن، لا تستطيع أن تصد العدو ولا أن تترك غيرها ليصده!!

ولئن كانت غزة قد انتزعت حريتها من يد الصهاينة، ثم من يد خونة فتح والسلطة الفلسطينية، فامتلكت قرارها وحفرت في الصخر حتى صارت تواجه أعتى قوة عسكرية في المنطقة، فإن الناس في السودان امتلكوا البلد لثلاثين عاما ثم هم الآن يبذلونها ويفرطون فيها تفريطا هو واحدٌ من أغرب مشاهد التاريخ!! فما يُعرف في التاريخ قومٌ حكموا بلدا لثلاثة عقود ثم أزيحوا منها بهذه البساطة والسهولة! ثم رضوا أن يدخلوا السجون وأن تنهب أموالهم وتنهار البلد منهم وهم ينتظرون انتخابات نزيهة!! يعتقدون أنها ستأتي يوما ما، ويعتقدون أنهم سيُتركون ليفوزوا بها مرة أخرى!!

وبينما هم ينتظرون إذ دبر حميدتي انقلابا كاد ينجح تماما لتبدأ عملية تصفية وإبادة كاسحة للإسلاميين في السودان، ولما شاء الله وقدَّر وتفضل وأنعم أن هذا الانقلاب لم ينجح ولم يتم كما كان مقدرا له، انحاز أولئك خلف واحد لا يخرج عن حالين: الضعف والعجز أو الخيانة والعمالة، وهو عبد الفتاح البرهان، وهذا رجل إن كان حسن النية لم يكن البقاء خلفه إلا مسيرا نحو النهاية، فكيف إن كان يضمر الشر والسوء؟!

وهذه النتيجة التي نحياها الآن: انفراط عقد السودان وتمزقه على الحقيقة، وما نزل بأهله الطيبين من المذابح والجوع والتشريد والاعتداء على الأعراض وإهانة وجوه القبائل وأشياخها. ولا يزال قومنا يحسنون الظن أن يكون البرهان هو الحل، وهو ضلع ضليع وأصل أصيل في هذه الأزمة!

إن هذا البلد العظيم الثري بالموارد يتعرض لواحدة من أشد الأزمات وأصعبها في تاريخه كله، وأكثر المسلمين لا يشعر بما يحصل، وأكثر من يعرفون لم يفهموا ماذا يحصل فيه ولا كيف ينبغي أن يكون السبيل!

(3)

فإذا مددنا أبصارنا إلى المسلمين على أطراف عالمنا الإسلامي فسنتفاجأ بمصيبتيْن قريبتيْن في بلديْن حبيبيْن آخريْن: طاجيكستان وأراكان..

إن الشيوعية التي انتهت من العالم كله لم تزل باقية في جمهوريات آسيا الوسطى، أو ما يسمى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وهي البلاد التي يعرفها المسلمون عبر تاريخهم باسم: بلاد ما وراء النهر!

وهذا الطغيان الذي يعم عالمنا العربي له نظير وقرين في هذه البلاد المسلمة، إذ ما يزال حكامها من بقية زمن الشيوعية، فعداوة الدين عندهم دين! ومطاردة الإسلام لديهم عقيدة! وإن قراءة تاريخ الإسلام في هذه المناطق، وكيف أنهم بقوا حتى الآن مسلمين لهو واحدة من معجزات هذا الدين ومن عجائب تاريخ المؤمنين!

وطاجيكستان على وجه التحديد هي أكثر تلك البلاد في نزعة التدين وفي كثرة العلماء وطلبة العلم منها، وإذا أردنا تقريب الصورة لقلنا: هي بالنسبة إلى غيرها من هذه البلاد كمصر والسعودية في العالم العربي. غير أن الطاغية الذي يحكمها –وهو لا يختلف كثيرا عن طغاة مصر والسعودية- يعمل على إنهاء الدين من بلاده، يزعم أنه: ثقافة أجنبية جاءت إلى الطاجيك من العرب ومن الأتراك، وقد وضع لنفسه مهمة أن يطارد كل ثقافة أجنبية!!

لو كان هذا الطاغية صادقا في "الوطنية" وفي الانتماء إلى "الثقافة المحلية" لكان حاله غير هذا الحال، غير أنك تراه يلبس الثياب الغربية، وحكمه مترع بالنظم الغربية، وهو يضع ولاءه السياسي إلى جوار بوتين، ولا يرى في ذلك كله أنها ثقافة أجنبية جاءته من الروس أو من الروم!!

ولا يمكن إيجاز ما يحدث هناك في سطور، فالأمر عنيف رعيب، وأشد منه أن الذين هربوا بدينهم منه لا يستطيعون الكلام ولا يجدون لأنفسهم ملجأ يتمكنون معه أن يشرحوا ويفصحوا عن عملية ذبح الإسلام التي تجري على قدم وساق في طاجيكستان، والتي كانت آخر فصولها: منع الحجاب ومطاردة المحجبات، ومنع الأطفال من الاحتفال بأعياد المسلمين! وقد تفضل علينا الشيخ أحمد محيي الدين الطاجيكي بكتابة مقال في هذا العدد من المجلة يشرح فيه هذا الفصل الأخير من الحرب على الإسلام.

فإذا ذهبنا إلى الشرق والجنوب، فإن ثمة قضية تحدث الآن من مذابح المسلمين لا تكاد تُعرف ولا يُسمع بها أصلا.. وهي قضية المسلمين الروهينجا في إقليم أراكان، وهم المسلمون في بورما أو ميانمار. فهؤلاء المسلمين المساكين ربما كانوا يعيشون الآن آخر فصول حياتهم وتاريخهم في بلادهم، من بعد ما اشتعلت حربٌ تجري على أرضهم بين أقلية بوذية لها جيشٌ متمرد وبين الجيش البورمي النظامي! وقد نتج عن هذه الحرب في بعض التقديرات مائة ألف مسلم مُهَجَّر وبلغت التقديرات في بعضها مائتي ألف مسلم، وهذا فضلا عن الأمواج السابقة من الهجرة في الأعوام الماضية والتي ترتب عليها غرق الكثيرين وموت الكثيرين بفعل الأمراض والظروف الصعبة في ملجئهم: بنجلاديش!

وقد زاد الحالَ سوءًا أن الثلة المتعلمة والنشطة من شباب الروهينجا، والذين كانوا يحركون القضية قد اعتقلهم ابن سلمان في السعودية، بلا ذنب ولا تهمة ولا تحقيق، وحُكِم عليهم بالسجن بين عشر سنوات وعشرين سنة! مع التضييق عليهم في منح الإقامة مع أن بعضهم يقيم في هذه البلاد منذ زمن بعيد، ولعل الأكثرين لا يعرفون أن الشيخ القارئ محمد أيوب إنما هو من الروهينجا المسلمين.

وأيضا سيجد القارئ في هذا العدد من المجلة مقالا تفضل به علينا الشيخ عبد الله الأركاني، يحاول أن يوجز فيها هذه القضية المأساوية.

 

(4)

قد بلغ الأمر غايته ومداه وأقصاه.. وإن أي مسلم ينطوي قلبه على حب الله ورسوله مطالب بالتفكير وبالعمل للتخلص من هذا الذل وهذا العار؛ كلٌّ على قدر ما يطيق وعلى قدر ما يستطيع..

ونحن الآن نعيش في ظلال ذكرى الهجرة.. ذكرى إقامة الدولة الإسلامية.. أخطر لحظة في تاريخ الإسلام.. لحظة مولد الأمة الإسلامية وتأسيس الدولة الإسلامية!

إن كل مصائبنا ونكباتنا ومذابحنا إنما هي فرع عن النكبة العظمى: نكبة سقوط الخلافة الإسلامية، وانهيار الدولة الإسلامية.. لقد صرنا بعد ذلك أيتاما على موائد اللئام، كل قومٍ في هذه الأرض انفردوا بقسم من المسلمين يسمونهم سوء العذاب، يذبحون أبنائهم، ويغتصبون نساءهم، وينهبون أموالهم، ويستعبدونهم في بلادهم!!

إن معضلات المسلمين كثيرة ومتنوعة ومتشابكة ومتعددة، ولكن حلها الجذري واضح للغاية: إقامة الدولة الإسلامية الجامعة، واستعادة الخلافة الإسلامية.. هذا هو ما فعله النبي ﷺ عندما هاجر من مكة إلى المدينة، وعلى بقاء هذه الدولة قاتل أبو بكر، وعلى توسيعها قاتل عمر وعثمان، وعلى وحدتها قاتل علي. وما زال خلفاء المسلمين الصالحين يعملون منذ معاوية وحتى عبد الحميد الثاني على تمكينها ورسوخها والمحافظة عليها، كل بما قدر وما استطاع!

لقد اتجهت أنظار الناس إلى المناظرة الرئاسية لا لشيء إلا لأن الأمريكان أصحاب دولة قوية، وعلى حسب قوة الدولة ونفوذها يتعلق الناس بما يحصل فيها من تغيرات!

بينما غفلت أنظار الناس عن الروهينجا وعن الطاجيك وعن السودان لأنهم أشلاء أمة ممزقة ومبعثرة! ولولا ذلك لم تزغ عنهم الأبصار!

ونحن في هذه الأيام لم نغادر ذكرى الحج، ولا انفلتنا من آثار هذه العبادة العظيمة، ثم ها نحن نقبل على ذكرى الهجرة الشريفة لنعب من دروسها العميقة.. إن انهارت دولة المسلمين فالحج يذكرهم بأنهم أمة واحدة، رب واحد ورسول واحد ودين واحد وعبادة واحدة. والناس حين يزورون مكة والمدينة يطالعون بأعينهم آثار نبيهم وجهاده في سبيل الدعوة والدولة، فيستحضرون في مكة أيام جهاده للدعوة والبحث عن أرض للدولة، ويستحضرون في المدينة جهاده للدعوة ذات الدولة، فلقد كانت المدينة المنورة عاصمة الإسلام ومقر الحكم والجماعة والنظام!

ما من أيام نحن أسوأ حالا فيها من هذه الأيام، وإن ذكرى الهجرة لا يشعر بمعناها كما ينبغي أن يشعر بها المسلم في هذه الأزمان، أزمان سقوط الدولة وانفراط عقد المسلمين!

إنها مهمة ضخمة أمام العلماء والدعاة وكل المسلمين، أن يحرصوا في كل مناسبة وفي كل محفل وفي كل ذكرى أن يبحثوا وأن يستخلصوا، ثم أن يعملوا ويحثوا ويحفزوا:

1. كيف تستفيد الأمة من عبادة الحج في تقوية أواصرها وتمتين علاقاتها وكسر الحدود التي صنعت بينها ومحاولات النصرة لأطرافها المذبوحة والمضطهدة.. لا سيما إن كان الاضطهاد في الدين.

2. كيف تستفيد الأمة من عبادة الحج، حيث المشاهد الشريفة وآثار النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- في الارتباط بالنبي وسنته وسيرته، ومزيد من التعلق به، وما يثمره هذا من الانفعال والغضب تجاه من يسبه ويؤذيه، وهو الغضب الذي لا بد أن يترجم إلى عمل في نصرته والتنكيل من يتناول جنابه الشريف.

3. كيف تستفيد الأمة من حدث الهجرة الذي يؤسس لقيام الدولة الإسلامية.. ومدى ضرورة قيام الدولة الإسلامية وأثره الفارق في حياة المسلمين، وكيف أن المسلمين اليوم هم في أمس الحاجة إلى وجود دولة إسلامية حقيقية قوية.. بل هم لا يحتاجون أي شيء على الإطلاق قدر حاجتهم إلى وجود هذه الدولة وقيامها.. كيف نستفيد من حدث الهجرة في التركيز على هذا الأمر.

4. كيف قامت الدولة الإسلامية بعد بيعتين مع الأنصار، سبقتهما رحلات بحث وعرض ومفاوضة مع قبائل العرب.. ثم قامت هذه الدولة بعد ذلك على سيوف المسلمين وسواعدهم مثلما قامت أيضا على معاهدات واتفاقيات.. وهذا كله يلفت الأنظار إلى أن جهاد النفس والسلاح هو صنو جهاد السياسة والتفاوض والاتفاق.. ترى ماذا ينبغي أن يقول أهل العلم وأهل الفكر والقلم لإخوانهم المجاهدين في غزة وفي غيرها في هذا الباب؟!

5. التذكير الدائم المستمر بشدة عداوة اليهود للنبي ﷺ.. ثم الحث والتحريض الدائم المستمر للمسلمين على العمل الفعال المستمر الدائب الدائم الصبور في تعقب الذين يسيئون للنبي ﷺ والتنكيل بهم ومعاقبتهم على قدر الوسع والطاقة وبأقصى ما يمكن عمله.

عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده!

نشر في مجلة أنصار النبي 
ﷺ - يوليو 2024م