فضَّل الله نبينا على سائر الأنبياء،
فهو إمامهم وخاتمهم، وبه اكتملت الرسالات، وهو وحده الذي أُرسل لكل العالمين!
وفضَّل صحابة نبينا على سائر أصحاب
الأنبياء، فقد أثنى الله عليهم في كتابه ما لم يُثنِ على غيرهم من أصحاب الأنبياء!
وقد جاء عن نبينا، وهو ما كان عليه
المسلمون منذ زمن الصحابة وحتى يوم الناس هذا أن أبا بكر هو أفضل الصحابة وأعلاهم
شأنا.. فأبو بكر هو أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، وهو أعظم صاحبٍ لأعظم نبي
في الأولين والآخرين.
ومن علامات ذلك ودلائله أن أبا بكر قد
اشتمل قصة الإسلام، وما ذلك لأحد إلا لأبي بكر، فإنه كان أول مَنْ آمن مِن الرجال،
فكان شاهد عيان على ولادة الإسلام وبزوغه، ثم صحب هذا الدين في رحلته منذ كان قولا
في صدر رجل، حتى صار أمة في واقع الحياة، وقوة عظمى في عالم السياسة، وصفحة محفورة
في كتاب التاريخ!
فما من شيء رنا إليه المسلم إلا وجد
فيه لأبي بكر قدوة ومثلا.. في زمان الاستضعاف أو في زمان التمكين، في لحظة المحنة أو
لحظة المنحة، في باب الاتباع أو في باب القيادة، في مهجع العبادة أو في ساحة
الجهاد، في عمل القلب أو في عمل الجوارح، في حال الغنى أو في حال الفقر، في طريق
الدعوة أو في طريق السياسة.. ونادرٌ من البشر من جمع بين هذا كله!
إنه مُعَلِّمٌ كبير في كل شيء، إذ كان
حاضرا في كل لحظة.. إنه وزير نبينا الأول! وصاحبه الأثير! وصفيُّه من بين الناس!..
إنه أعظم بشر لم يتصل بوحي السماء!
ومن ها هنا، فلن ترى للمسلمين زمان ولا
موقف إلا وجدوا فيه أنهم يستفيدون من أبي بكر ويتذكرون فصولا من سيرته وسياسته.
ولقد شدَّ أبو بكر أنظار المسلمين إلى
مثاله حتى أفاضوا من المدح فيه، فلم يتركوا قولا لقائل، فما من كاتب يريد أن يتكلم
عن أبي بكر إلا أعوزته العبارة، وتقاصر عن الزيادة..
فلذلك رأيتُ أن أذهب إلى المؤرخين
والمستشرقين الأجانب، فأنقل من كلام بعضهم ما لا يمكن اتهامه بأنه صادرٌ عن عاطفة
المسلم. ومما رأيتُ فإنهم يلتفتون في سيرة أبي بكر لثلاث محطات أساسية: إسلامه،
شدة إيمانه وتصديقه، دوره الهائل عند توليه الخلافة.
إسلام أبي بكر
يتفق هؤلاء الغربيون على أن أهم شخص في
الإسلام بعد النبي هو أبو بكر، وذلك أنه لما أسلم كان هو الأكثر فعالية في نشر
الإسلام من بين المسلمين الأربعة الأوائل، فإنه رجل بالغ حر، ليس امرأة مثل خديجة
ولا صغيرا مثل علي ولا مولى مثل زيد بن حارثة. وفوق ذلك فإنه تاجر صاحب أموال،
ومؤرخ نسابة صاحب علم، وخلوق عفيف صاحب نفوذ ومكانة وعلاقات. وفوق ذلك كله: لقد
آمن بمحمد إيمانا لا مثيل له، وجاءت ثمرات إيمانه سريعا: خمسة شخصيات قوية وفاصلة
في تاريخ الإسلام، أسلموا بتأثير أبي بكر!
1.
يقول المستشرق الفرنسي المسيحي المتعصب
هنري ماسيه: "أول من آمن بكلام محمد بعد خديجة هو ابن عمه علي بن أبي طالب،
ولكن طفولة علي قَلَّلَتْ من أهمية اهتدائه، وكان الاهتداء الأكثر نفعا هو اهتداء
أبي بكر، وهو تاجر عظيم نذر لمحمد محبةً لا تنفصم"[1].
2.
وتقول كارين أرمسترونج، الراهبة
السابقة والباحثة البريطانية في مقارنة الأديان، عن إسلام أبي بكر: "كان ذلك
حدثا له أهميته الحيوية، لم يكن يتمتع كثير ممن دخلوا في الإسلام بنفوذ في مكة
يماثل نفوذ أبي بكر"[2].
3.
ويقول الكاتب الفرنسي جان بروا: "لم
يكن أبو بكر في الجاهلية بالمغمور أو المجهول، بل كان نابه الذكر، جم الاحترام
والتقدير، معروفا في القبائل بحسن أخلاقه وسموّ منزلته، فلم يكن يؤمن بما جاء به
صديقه الأمين حتى شرع يؤدي واجب الرسالة ويدعو الناس إلى الإسلام"[3].
4.
ويقول دينيه، المستشرق والرسام الفرنسي
الذي أسلم وتسمى بناصر الدين وكتب كتابا عن النبي: "أشاع إسلام أبي بكر في
نفس الرسول سرورا عظيما، وكان أبو بكر صدرا معظما في قريش على سعة من المال وحسن
الوجه، وصاحب منظر أنيق، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من
خير وشر، وكان أعلم الناس بتعبير الرؤيا، صادقا في حديثه، حسن المجالسة، وقد
اختاره قومه قاضيا في المغارم والديات وحكما في المفاخرات، في إيمان حار، أخذ أبو
بكر يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ويكرس جهده في نشر الإسلام،
ويقود أصدقاءه إلى الرسول ليعلمهم الإسلام"[4].
5.
ويقول المستشرق والرحالة الفرنسي كلود
إتيان سافاري، الذي سبقت رحلتُه إلى المشرق الحملةَ الفرنسية، وترجم القرآن، وكتب
كتابا عن السيرة: "كان أبو بكر مواطنا ذا نفوذ في مكة، مشهورا باستقامته
وبثرواته، فشرع محمد يعمل على إسلامه، اعتقادًا منه أنه جدير بأن يعطي قوة لدينه
الجديد، وتَوَّج النجاح مجهوداته، وأصبح أبو بكر من أقوى أنصار الإسلام، لقد كان
إسلامه نصرا كبيرا، فحمل أبو بكر بين أصدقائه شعلة الإيمان التي ملأت صدره وأخضع
بها الكثيرين، وقدَّم إلى النبي عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي
وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، آمن الجميع واعتنقوا الإسلام، وكانوا
الرعيل الأول للديانة المحمدية"[5].
6.
ويقول المستشرق الفرنسي إميل درمنغم،
صاحب واحد من أفضل الكتب الغربية عن النبي، حاول فيه أن يقرب صورة النبي إلى
الغربيين حتى أفرط في ذلك وتكلف أن يمحو الفارق بين الإسلام والمسيحية، يقول: "كان
لإسلام أبي بكر بالغ الأثر، فقد تابعه على الإسلام من قريش عثمان بن عفان الأموي
وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وصهره -بعد ذلك- الزبير
بن العوام -فقد تزوج أسماء بنت أبي بكر-، وهذا مع ذِكْرِنا أن أبا بكر لم يسطع أن
يهدي إلى الإسلام أباه وأولاده، ولا سيما ابنه البكر"[6].
تصديق أبي بكر
يتحدث بعض المؤرخين عن أن إيمان أبي
بكر، كان له تأثير خاص في مسار الإسلام، وذلك أن أبا بكر كان من صفوة الناس الذين
لا يُتهمون بضعف الرأي ولا بالمطمع الدنيء، فما آمن به أبو بكر وهو الراجح العقل
يجعل له تأثيرا وقدرا وجاذبية! بل ذهب بعض المؤرخين إلى أن إيمان أبي بكر هو نفسه
من دلائل صدق النبي:
7.
يقول ألفونسو دي لامارتين، وهو شاعر
ودبلوماسي ومؤرخ فرنسي، صاحب كتاب مشهور عن تاريخ الأتراك، جعل الجزء الأول منه عن
سيرة النبي، "حَمَتْ مجاهرة أبي بكر بإيمانه بعقيدة محمد الدين الإسلامي
الناشئ من صبغة الجنون والهزء، وهي أول تجلٍّ للسخرية يرسله عامة الناس دون تمحيص
إزاء كل ما يصدم تقاليدهم، إذ كان أبو بكر من أولئك الذين يجلب اعتناقهم رأيا
احترام الكثرة من الناس إن لم يكن اقتناعهم بسداد ما يرى، وحينما أعلن أن محمدا هو
وليه، وقاه من الاحتقار"[7].
8.
ويقول هربرت جورج ويلز، الكاتب والأديب
الإنجليزي الشهير، مدافعا عن صدق النبي تجاه غلو الغربيين: "ليس عدلا أن نتخذ
الغلو لنا رائدا، هل تراك علمتَ قط بأن رجلا على غير كريم السجايا مستطيعٌ أن يتخذ
له صديقا؟ ذلك أن من عرفوا محمدا أكثر من غيرهم كانوا أشد الناس إيمانا به. وقد
آمنت به خديجة طوال حياتها –على أنها ربما كانت زوجة محبة. وأبو بكر شاهدٌ أفضل،
وهو لم يتردد قط في إخلاصه. كان أبو بكر يؤمن بالنبي، ومن العسير على أي إنسان
يقرأ تاريخ تلك الأيام ألا يؤمن بأبي بكر. وكذلك علي، فإنه خاطر بحياته من أجل
النبي في أحلك أيامه. لم يكن محمد دجالا بأية حال"[8].
9.
ويقول المستشرق الألماني الشهير، كارل بروكلمان:
"في هذه الأثناء كان مسلمو مكة، على ما تقول الروايات، يعانون أزمة جديدة.
ذلك ان حديث محمد عن إسرائه العجيب، برفقة جبريل، إلى بيت المقدس ومن ثم إلى
السماء، كان قد أوقع موجة من الشك في نفوس بعض المؤمنين. ولكن ابا بكر ضرب بايمانه
الراسخ مثلاً طيباً لهؤلاء المتشككين فزايلتهم الريب والظنون"[9].
خلافة أبي بكر
ربما يندهش القارئ المسلم إذا عرف أن
عديدا من المؤرخين الغربيين ينظر إلى أبي بكر على أنه المؤسس الحقيقي لدولة
الإسلام، وذلك أن وفاة النبي كانت لحظة فاصلة تسببت في ردة كثير من قبائل العرب،
فإذا بهذا الرجل يقضي على حركة الردة بل ويحولها إلى حركة فتوح واسعة ومدهشة تبدأ
في إسقاط القوتين العظميين العالميتين وقتها –فارس والروم، وتلك هي النقلة الهائلة
التي جعلت الإسلام دينا عالميا، وكانت تحولا حاسما في مسار التاريخ.
10.
يقول هربرت جورج ويلز: "يقول
المؤرخون إن المؤسس الحق للدولة الإسلامية لم يكن محمدا قدر ما هو صديقه ومساعده
أبو بكر، فلئن كان محمد هو العقل المفكر والتصور الملهم للإسلام الأصلي، فلقد كان
أبو بكر ضميره وإرادته، حتى إذا مات محمد أصبح أبو بكر خليفته، ثم راح بعقيدة تزحزح
الجبال، يعمل ببساطة وعقل راجح على إخضاع العالم كله لأمر الله، بواسطة جيوش
يتراوح عددها بين ثلاثة أو أربعة آلاف عربي طبقا لتلك الرسائل التي كتبها النبي
عليه السلام من المدينة إلى جميع ملوك العالم. فهو بحق مؤسس دولة الإسلام"[10].
11.
ويقول كارل بروكلمان: "كان النبي
قد شغل نفسه، في أيامه الأخيرة، بإعداد الجيوش للانتقام من البيزنطيين الذين هزموا
المسلمين في مؤتة. فوجد أبو بكر نفسه مسؤولاً عن إنفاذ خطة النبي الأخيرة هذه، على
الرغم من أن الأنباء المخوفة عن شيوع الاضطراب في انحاء الجزيرة كانت تتواتر على
المدينة من كل حدب وصوب. وهكذا وجه أبو بكر نخبة جيوش الاسلام الى الشمال تحت
قيادة أسامة... قضى أسامة وجنوده شهرين خارج المدينة، وبذلك أصبحت عاصمة المسلمين
في مركز لا يساعدها كثيراً على الدفاع عن نفسها. والواقع ان أسداً وغطفان،
النازلين غير بعيد عن المدينة، كانوا أول هذا الوضع، فهاجموا المسلمين. ولكن أبا
بكر استطاع أن يثبت لهم ويصدهم عن أهدافهم"[11].
12.
ويقول المؤرخ الأمريكي الشهير، والاسم
اللامع في مدرسة التاريخ العالمي، وليم ماكنيل: "فاختاروا أبا بكر، وهو أول
من آمن من الرجال وأقرب أصحاب النبي إليه، ولقبوه بـ «خليفة» رسول الله. وتولى أبو
بكر القيادة الفعلية للمجتمع الإسلامي بوصفه خليفة، وكانت سياسته العامة في كل
الأشياء هي التمسك الوثيق بسنة النبي نفسه. وكان ذلك يقتضي اهتماما شديدًا بأقوال
النبي، ولاسيما ما وصفها بنفسه بأنها تأتي من الوحي. وكان سبيل ذلك القياس
الاستوثاق الدقيق من نسب الأحاديث التي تحملها الذاكرة حتى تُستخدم سابقةً صحيحةً
في أي موقف يستجد"[12].
13.
ويقول المؤرخ الأمريكي الشهير، ول
ديورانت، صاحب موسوعة قصة الحضارة: "كان أبو بكر وقتئذ في التاسعة والخمسين
من عمره، وكان قصر القامة، نحيف الجسم، قوى البنية، قليل الشعر، أبيض اللحية حمراء
الصبغة، بسيطاً في معيشته، متقشفاً، رحيما في حزم، يعني شخصياً بجميع شئون الإدارة
والقضاء جليلها وصغيرها على السواء، لا يهدأ له بال حتى يأخذ العدل · مجراه، وظل
يعمل ولا يتقاضى أجراً على عمله، وظل شديد التقشف حتى أقنعه الشعب بأن ينزل قليلا
عن تقشفه، ثم أوصى قبل وفاته بأن يعود إلى بيت مال المسلمين كل ما أرغم على أخذه
منه. وحسبت قبائل بلاد العرب أن تواضعه ضعف. وإذا كان بعضها لم يتمكن الإسلام من
قلوب أفرادها، ومنهم من اعتنقه كارها، فقد ارتد هؤلاء عنه، وأبوا أن يؤدوا الزكاة
التي فرضها عليهم الإسلام. ولما أصر أبو بكر على وجوب أدائها زحفوا على المدينة،
وجمع أبو بكر جيشاً في ليلة واحدة، وقاده بنفسه في مطلع الفجر، وبدد به شمل العصاة"[13].
[1] هنري ماسيه، الإسلام،
ص45.
[2] كارين أرمسترونج، سيرة النبي
محمد، ص158.
[3] جان بروا،
محمد نابليون السماء، ص28.
[4] دينيه، محمد
رسول الله، ص116، 117.
[5] سافاري، مختصر حياة محمد
(السيرة النبوية وكيف حرفها المستشرقون)، ص72.
[6] درمنغم، حياة محمد، ص89.
[7] لا مارتين،
مختارات من كتاب حياة محمد، ص43، 44.
[8] هربرت ج ويلز، معالم تاريخ
الإنسانية، 3/800.
[9] بروكلمان،
تاريخ الشعوب الإسلامية، ص44.
[10] هربرت ج ويلز، موجز تاريخ
العالم، ص203.
[11] بروكلمان،
تاريخ الشعوب الإسلامية، ص84، 85.
[12] وليم ماكنيل،
صعود الغرب، ص533.
[13] ول ديورانت،
قصة الحضارة، 13/70، 71.