قالوا: السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه
يريدون بذلك أن العاقل يرى ما يحدث لغيره فيفهم ويتعظ
ويهتدي، وأما غير العاقل فلا يفهم العظة والعبرة إلا إذا وقع في المصيبة، فيتعظ
بنفسه!
وقد وصف النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المؤمن بأنه
"لا يُلدغ من جحر مرتين".. فعرفنا بذلك أن الذي يُلدغ من الجحر الواحد
مرتين لا يستقيم له وصف الإيمان.
إلا أن صنفا ثالثا من الناس حدثنا عنه القرآن
الكريم.. هو أعجب من الصنفين السابقيْن.. إنه صنف لا يتعظ أبدا.. وهذا الصنف لا
يستيقظ إلا في الآخرة.. في العذاب الأليم!
قال تعالى (إن الذين حقّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون *
ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)
هناك في العذاب ستذهب السكرة والغفلة والعناد
والإصرار، ثم تأتي الحسرات وترتفع النداءات:
نداء يطلب الموت: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك،
قال: إنكم ماكثون)
ونداء يطلب العودة إلى الدنيا وإعطاء فرصة أخرى:
(ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا
ظالمون)
إلا أن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا سرًّا خطيرا عن
هؤلاء، سرٌّ مُحَيِّر ومثير للدهشة.. ذكر أن هؤلاء إذا عادوا إلى الدنيا مرة أخرى
فسيفعلون نفس ما فعلوا ولن يتعظوا أبدا.. لن يتعظوا حتى بأنفسهم
(ولو ترى إذ وُقِفوا على النار فقالوا: يا
ليتنا نُردُّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا
يُخفون من قبل، ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهُوا عنه، وإنهم لكاذبون)
يستحق المرء منا أن يتسمّر أمام هذه الآية بالساعات
ليحاول تأملها وفهم هذه النفسية التي إذا أخرجت من النار عادت لما كانت عليه..
فحتى دخول النار لم يكن لها واعظا.. إنه أمر صاعق حقا.. يستحق أن يجعل كل واحد
فينا يقف متأملا في نفسه ومفتشا فيها متسائلا ما إن كانت نفسه تنطوي على تلك
البذرة الخبيثة التي تجعله غير قابل للاتعاظ ولا للتعلم مهما كانت الدلائل بل مهما
كانت التجارب!!
وقد ضرب الله لنا مثلا واقعيا على هذا الصنف في قصة
سيدنا إبراهيم.. ذلك أن قوم إبراهيم عادوا من حفلتهم فوجدوا آلهتهم كلها مكسورة
إلا كبير الآلهة لا يزال منصوبا وقد تعلق في رقبته الفأس!!
وبتلقائية عجيبة بحثوا عن الفاعل!! وبدؤوا عملية
التحقيق وتحديد المشتبه فيهم، فتوصلوا إلى إبراهيم.. فذلك هو الذي صدرت عنه
تصريحات سيئة في حق الآلهة!
لقد بحثوا عن الفاعل دون أن يتوقفوا لينظروا في حال
تلك الآلهة التي تحطمت حتى دون أن تقاوم.. ولا إلى هذا الإله الكبير الذي ظل
متفرجا ثم حاملا لسلاح "الجريمة"!!
لقد انصرفت عقولهم عن الأسئلة المنطقية التي يجب أن
تكون في تلك اللحظة أسئلة حاضرة وحارقة وخارقة: ماذا فعلت تلك الآلهة لنفسها أمام
من أرادها بسوء؟!
المهم، ذهبت دورية عسكرية وأحضرت إبراهيم، ووقف
أمامهم فسألوه: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟!)
لا يستطيع المرء أن يكتم ضحكته أمام هذه العبارة
المتناقضة، "فعلت هذا بآلهتنا".. من الذي يفعل بمن؟ الآلهة أم العبيد؟!!
المهم أن إبراهيم -عليه السلام- ضغط على الجانب الذي
يخفونه ويتهربون منه، (قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون)
ويبدو المشهد ساخرا تماما.. أبسط مبادئ المنطق أن هذا
الإله الكبير الذي لم يتحطم، والذي يحمل سلاح الجريمة، هو الذي كسَّر بقية هذه
الآلهة.. أو على الأقل: هو شاهد عيان على الجريمة.. فهو أولى الناس أن يكشف عما
حصل!!
ومع أن الأمر يبدو منطقيا تماما، إلا أنه كان بالنسبة
لهم كالمفاجأة المدوية، وهي المفاجأة التي أيقظت بعض أسلاك العقل (فرجعوا إلى
أنفسهم، فقالوا: إنكم أنتم الظالمون).
ما الذي يحملنا على القبض على الفتى، إن كان بالإمكان
سؤال شاهد العيان هذا، والذي يحمل سلاح الجريمة!!
لكن هذه الاستفاقة لم تلبث إلا لحظات، ثم انقضت عليهم
شهواتهم وتقاليدهم وعاداتهم وتعلقهم بآلهتهم (ثم نُكِسوا على رؤوسهم: لقد علمتَ ما
هؤلاء ينطقون).
فزاد إبراهيم -عليه السلام- في ضغطه وفضحه لحقيقة
آلهتهم الهشة، ولحقيقة خرافاتهم التي يتعلقون بها (أُفٍّ لكم، ولما تعبدون من دون
الله، أفلا تعقلون؟!)
ثم صدر قرار القضاء الشامخ: (قالوا: حرِّقوه، وانصروا
آلهتكم إن كنتم فاعلين)
هكذا حَكَموا على إبراهيم لا بالحرق، بل بالتحريق
(المبالغة في الإحراق).. وذلك أنهم يريدون الانتصار لآلهتهم!!
الانتصار.. للآلهة المكسورة..
وهكذا ترى -عزيزي القارئ- كيف أن بعض الناس لا يتعظ
أبدا.. فالآلهة التي تحطمت وتكسرت وانهارت.. وثبت بالدليل أنها لا تملك أن تدفع عن
نفسها شيئا، بل ولا تملك أن تُخبر عما فُعِل بها.. هذه الآلهة، وجدت من يدافع عنها
حتى بعد أن تكسرت وانهارت!
ترى، هل لا يزال بعضنا يعتنق أصناما مكسورة؟!
إن إغلاق العين والقلب عن الآيات البينات، وعن
التجارب والوقائع، والإصرار على عدم التعلم منها هو عكوف عند الأصنام.. بل عند
الأصنام المكسورة!!
إن الله يقيم حجته على عباده، وما من إنسان في هذه
الحياة إلا وتضخ له الأيام من الأحداث ما تقوم له به العظة والعبرة.
ولكن كثيرا من الناس يُعَطِّلون حواسهم: سمعهم وبصرهم
وفؤادهم.. يغلقونها على ما اعتادوا عليه.. فيهم شبه من الذين قالوا (بل نتبع ما
ألفينا عليه آباءنا) حتى لو كان الذي جاءهم (أهدى مما وجدتم عليه آباءكم).
فتش عن صنمك المكسور..
أحسنت.. هم تماما مثل من طلبوا من الله ان يرسل عليهم حجارة من السماء اذا كان رسولهم صادقا 🙄
ردحذفمقالة رائعة
ردحذفبارك الله فيك أحسنت التعبير
احسنت يا استاذنا
ردحذف