ربما تبلغ خبرتي الآن في مجال المتابعة والسجالات
السياسية ثلاثين سنة، لا أدري ما الذي جذبني لمتابعة الشأن العام منذ بواكير
الصبا، وُلِدت آخر 1983 لكنني أتذكر جيدا تسمّري أمام التليفزيون المصري وهو يعرض
مشاهد الجزائر مطلع التسعينات.. ثم جاء الانترنت مطلع الألفية ثم مواقع التواصل
الاجتماعي لتعطي هذه الخبرة دفقة قوية، إذ صار الكلام كثيرا، وصار الكل خبيرا..
ولهذا كله أكاد أتوقع ردود الأفعال على كل حدث، مع اعترافي بأن ثمة من يبدع أقوالا
غير متوقعة!
وبينما أنا في هذا الليل الهادئ، أحاول لملمة بحث، إذ
وقفت أمامي مسألة، فهربت منها إلى تويتر، فوجدتني أمام تغريدة تجمع ما تفرق في
غيرها، وأعطتني إغراء لحوحا بالتعليق عليها لأجل ما اجتمع فيها من المغالطات..
ولعل الشيطان زين لي هربي من البحث.
وأشدد تشديدا مؤكدا، قبل كل شيء، على أن النقاش هنا
متعلق بالفكرة، بعيدا عن شخص صاحبها.. فإن التشخيص يزيد الأزمة ويُقَزِّم المشكلة.
قال صاحبنا:
"المقارنة بين مقاومة طالبان للاحتلال
الأمريكي ونضال الحركات الإسلامية ضد الأنظمة القمعية في العالم العربي مقارنة في
غاية السذاجة والسطحية!
الانطلاق من بقايا دولة وجيش ليس كالانطلاق من واقع
سياسي/دعوي/خدمي.
ومقاومة غازٍ وجيش أجنبي، ليست كمواجهة طاغية محلي
يتحكم بجيش البلد.
كثيرون حملوا السلاح في مواجهة الأنظمة، لم يجلبوا
على بلادهم إلا الوبال!
المقارنة الصحيحة هي مع جبهة الإنقاذ في الجزائر لا
مع طالبان، فالشكر والتحية لا اللوم والتقريع لمن جنب بلاده عشرية سوداء"
انتهى كلامه.
وقبل البدء في التعليق على هذا الكلام يجب أن أؤكد
على مجموعة من المسلمات النخبوية لكي لا أبدو شعبويا جهولا ديماجوجيا سفيها :) ..
وهي تلك المسلمات التي تتحدث عن الخصوصية الجغرافية والخصوصية الثقافية والخصوصية
الاجتماعية... وأي خصوصية أخرى.
مع كامل مراعاة هذه الخصوصيات، فإن التجارب البشرية
وإن كانت لا تستنسخ إلا أنها دائما ما تحمل العبرة والعظة.. وإلا ما كان لأحد أن
يستفيد من تجربة أحد أبدا، إذ لم تتشابه تجربتان من كل وجه.
ولا شك أن هذه التجربة الطالبانية سيأخذ كل قوم منها
ما يرون أنهم افتقدوه، ففي عالم الثورات السلمية سيتألق العمل الكفاحي الطالباني،
وفي عالم الثورات المسلحة سيتألق العمل السياسي الطالباني، وسنجد كل قوم ينتبهون
في التجربة الناجحة إلى ما كان ينقصهم في تجربتهم التي تعاني الإخفاق.
نبدأ الآن في التعليق:
1. طالبان لم تكن تقاوم الاحتلال الأمريكي
وحده، بل إن الاحتلال الأمريكي أقام لهم حكومة أفغانية، لها رئيس ووزراء من
الأفغان، وأجرى بينهم انتخابات أيضا.. فالأمر لم يكن محض احتلال أجنبي.. بل كان
النظام القمعي "الوطني" بل ((والمنتخب)) حاضرا أيضا.
ولهذا فمحاولة تغييب هذه الحكومة "الوطنية"
بل ((والمنتخبة)) من المشهد خطأ في التحليل.
وهنا يجب أن نسأل: كيف تعاملت طالبان مع هذه
الحكومة؟.. هل سلكت معها مسلك الدعوة أو مسلك التوافق أو مسلك التعاون.. أم كانت
حريصة دائما على وصمهم بالخيانة والعمالة وقطعت كل طريق يمكن أن تلتقي فيه مع هذه
الحكومة؟!
إن الحركات الإسلامية في العالم العربي فضَّلت أن
تتعامل مع الحكومات العميلة باعتبارها "سلطة شرعية" أو "شركاء
الوطن".. ومن ثم فقد كان كل همها أن تحصل منهم على الاعتراف بالوجود الرسمي
أو التوصل لصيغة تفاهم تكون فيه الحركة الإسلامية هي اليد السفلى. وفي الغالب
أخفقت الحركات الإسلامية في مسعاها هذا، فأحسنها حالا من صار زينة للنظام الحاكم
يستعمله كمنديل في رغباته القذرة (التطبيع المغربي نموذجا) وأدناها حالا من صار بين
السجون والمنافي يردد رواية المظلومية.
ألم يكن ينبغي على الحركة الإسلامية أن تسعى جهدها في
تعرية الأنظمة الحاكمة وفضحها وكشفها، والضغط الدائم على أدلة خيانتها
وعمالتها؟!.. لن أهتم الآن بالإجابة على هذا السؤال.. القصد أن أقول: إن رد فعل
طالبان على الحالة عندها لم يكن ذاته رد الفعل الحركي الإسلامي على الحالة عندنا
مع تشابه الحالتين.
بل حتى الحركات الإسلامية التي تعاني من الاحتلال
الأجنبي، كما هي الحالة في فلسطين، لا تزال تتعامل الحركة الخضراء مع سلطة فتح على
اعتبارهم إخوة شركاء في الوطن بل وفي الكفاح والنضال. وليس قصدي هنا إدانة الحركة
الخضراء بل قصدي توضيح أن نفس الحالة (حالة الاحتلال الأجنبي) لم تؤد إلى نفس رد
الفعل الطالباني.. وبهذا فلا يصح قول صاحبنا بأن حالة طالبان مختلفة عن حالتنا من
كل وجه.
2. صحيح أن الانطلاق من بقايا دولة وجيش ليس
كالانطلاق من عمل دعوي وسياسي وخدمي..
لكن هذا الاختلاف في الانطلاق هو فرع عن اختلاف
الخيارات.. فالذين اختاروا توصيف الواقع على أنه احتلال أجنبي وحكومة عميلة
اختاروا في نفس اللحظة نوع الطريق الذي ساروا فيه.. بينما الذين اختاروا توصيف
الواقع باعتبار حكوماتهم سلطة شرعية وشركاء وطن وجدوا أنفسهم في نفس اللحظة أمام
مهمات دعوية وسياسية وخدمية!
وإذن، لم يكن الفارق ظرفا موضوعيا خارجيا متساميا..
بل كان نتيجة منطقية أفرزها خيار الحركة نفسها.
3. نعم، أتفق في أن كثيرين حملوا السلاح في
بلادهم ولم يجلبوا إلا الوبال.. صحيح، ما يستطيع أحد أن ينكر هذا!
السؤال دائما هو: هل كان الخطأ عندهم في مبدأ
المقاومة أم في طريقتهم فيها؟!
ولذلك إذا نظرت من الزاوية الأخرى ستجد من يقول: ماذا
فعل أصحاب البرلمانات والأحزاب والمشاركة السياسية؟! هل حققوا دولة الإسلام في
مكان ما؟! إن تجارب أولئك كثيرة ولم ينجح منها تجربة واحدة وحيدة بمحض السياسة..
حتى تجربتي تركيا وغزة اضطرتا لاستعمال القوة لمواجهة انقلاب عسكري وفتحاوي..
ولولا ذلك لكانوا مع إخوانهم الآخرين بين السجون والمنافي.
في واقعنا الإسلامي الحالي، يبدو مزعجا جدا أن يقف
أحد الطرفين ليعير الآخر بفشله، فالجميع في الإخفاق سواء، فلا فضل لأحدهم على
الآخر.. والأولى بكل منهم أن ينظر فيما أخفق فيه أو ليكمل أحدهما الآخر.
4. أما أطرف ما جاء في التغريدة فهو القول
بأن "المقارنة الصحيحة هي مع جبهة الإنقاذ في الجزائر لا مع طالبان، فالشكر
والتحية لا اللوم والتقريع لمن جنب بلاده عشرية سوداء"!
فهذه عبارة عجيبة اجتمعت فيها المتناقضات..
فأولا: إن بلد العشرية السوداء لا تزال أقوى من كل
جيرانها رغم مرورها بالعشرية السوداء ورغم أن جيرانها لم يمروا بها.. فتلك العشرية
لم تكن نهاية التاريخ!
وثانيا: فإن الذين تجنبوا العشرية السوداء منذ
الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله أدخلوا بلدهم في سبعينية سوداء مستمرة حتى الآن،
ولا نعرف متى ستنتهي.. فلم يكن تجنب العشرية السوداء حلا عظيما!
وثالثا: من المسؤول عن العشرية السوداء أصلا.. لا شك
أن لجماعات التكفير نصيب، ولكنه نصيب يتضاءل أمام إجرام السلطة المدعومة دوليا،
وها هي مذكرات ضباط العشرية السوداء تعترف بالجرائم التي ارتكبوها.. أي أن العشرية
السوداء كانت اختيارا للسلطة ولم تكن اختيارا للجماعات الإسلامية.
ورابعا: هذه العشرية السوداء انتهت بمصالحة وطنية،
نزل بها حملة السلاح مظللين بالعفو العام.. بينما الذين حاولوا تجنب العشرية
السوداء -كالأستاذ الهضيبي وصحبه- عاشوا عشرين سنة في السجن.. ثم خرجوا برحمة
الحاكم الجديد حين احتاج خروجهم.. ثم أدخلهم الحاكم الثالث السجون من جديد!!
يعني أكاد أتصور أن لو طُوِي التاريخ ووُضِع المستقبل
أمام الأستاذ الهضيبي ورهطه، فهل كانوا سيختارون الاستسلام لعبد الناصر؟!
وخامسا: وهي المفاجأة.. أن انتصار طالبان كان بعد
"عشرينية" سوداء، وليست عشرية واحدة!!!.. أي أن الانتصار الذي يحتفي به
الكاتب هو نفسه وليد عشرين سنة من الحرب.. والرجال الذين يتسلمون الحكم الآن قضى
بعض قياداتهم عشر سنوات في جوانتانامو.. وإنما خرج من خرج منهم في تبادل للأسرى،
نفذه من لم يفكر في تجنب العشرية السوداء.
فلو أنهم فكروا في تجنب هذه العشرينية السوداء لكانوا
الآن في السجون، ولعل بعضهم كان يعمل على تقديم المراجعات الفكرية!!
طالما يجري تخويفنا نحن بالعشرية السوداء فسيظل
الحكام يقتلوننا بلا رحمة ويهدمون علينا البلاد بلا تردد.. يساوموننا بين العشرية
السوداء في الجزائر أو سوريا أو العراق.. وبين أن نعيش عبيدا وكلابا نلحس نعالهم
ونهدي أعراضنا لهم!!
لو أن كل حاكم طاغية عرف ووقر في يقينه أنه مخير بين
الاستسلام للشعب أو مصير كمصير الخونة، لما تجرؤوا علينا كل هذه الجرأة.. وإنما
فعلوا ذلك لأن منا من يخوفنا من الموت، ويفلسف لنا الحياة الذليلة!!
ثم أختم بتأكيد جديد وتشديد جديد، أن نقاش الفكرة هو
الذي قصدت، وأن شخصنة الأمر لا يفعله مخلص يبحث عن حل، بل يفعله مغرض يبحث عن
معركة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق