الجمعة، يناير 13، 2017

الاستثناء في النموذج السياسي الإسلامي

أحيط كتاب "الاستثناء الإسلامي" الذي أصدره قبل أشهر الباحث الأمريكي شادي حميد بعاصفة غير مفهومة من الدعاية، ذلك أن فكرته الأساسية القائلة بأن "الإسلام ليس مجرد شعائر بل منظومة حكم" ليست اكتشافا وإنما هي فكرة قديمة للغاية يكتشفها المستشرق عند بداية بحثه في الشأن الإسلامي، وقبل نحو القرن كان المستشرق الإنجليزي يكتب في بداية كتابه "وجهة العالم الإسلامي" هذه العبارة: "الحق أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"[1].

إن اعتبار ارتباط الإسلام من حيث هو دين بالسياسة ونظام الحكم نوعا من الاستثناء ليس فكرة صحيحة أصلا، بل إن عددا من مفكري ومؤرخي الحضارات يجزم بخلافها، يقول المستشرق والمؤرخ وعالم الاجتماع الشهير جوستاف لوبون: "لا يغب عن البال أن جميع النظم السياسية والاجتماعية منذ بدء الأزمنة التاريخية قامت على معتقدات دينية"[2]، وهو يقول هذا الكلام برغم كونه لا يؤمن بدين! وأقر مؤرخ الحضارات كريستوفر داوسون أن جميع الحضارات الكبرى إنما تأسست على الأديان الكبرى[3].

إنما تصحُّ هذه الفكرة فقط عند من سيطرت عليه العلمانية الغربية، والتي تحسب أن تجربتها العلمانية في النهضة هي قدر ثابت وحقيقة تمرُّ بها سائر الأمم والحضارات، وحيث أن نهضتها الحالية تأسست على عزل الدين فهي لا تتصور إمكانية العكس، وتلك نظرة مغرقة في اللحظة الراهنة فضلا عن سطحيتها واختزاليتها.

لكن الاستثناء الإسلامي تمثل في أمور أخرى، من بينها ذلك التأثير الهائل الذي أحدثه في الشعوب التي فتحها، وهو استثناء نقدم له بشهادة عدد من مؤرخي الحضارات كذلك.

يعد كتاب "دراسة التاريخ" للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي[4] من أعظم ما كُتب في بابه على الإطلاق، وقد قضى في تأليفه أربعين سنة (1921 – 1961م)، وصدر أول الأمر في اثني عشر مجلدات، ثم اختصرت تعميما للفائدة، ونُشر المختصر مترجما إلى العربية في أربعة مجلدات.

وقد اكتشف توينبي في هذه الدراسة –ضمن كثير من نظرياته ونظراته العميقة- قاعدة تاريخية تفيد بأن الغزاة يستطيعون تأسيس إمبراطوريات كبرى ويظفرون برضا ومحبة الشعوب المحكومة إن هم كانوا من ذات ثقافتهم أو اعتنقوها دون شوائب دخيلة، فأما إن اعتنقوا ثقافة أخرى أو كانوا ممثلين لحضارة أخرى فإنهم يصيرون مكروهين منبوذين من الشعوب المحكومة مهما طال زمن سيطرتهم ولا بد سيأتي يوم يتدمر سلطانهم على يد هذه الشعوب، يقول: "وفي وسعنا في الواقع أن نقدم على صياغة شيء يماثل قانونا اجتماعيا عاما مداره:

إن الغزاة البرابرة الذين يتبدون أحرارا من شائبة أية ثقافة دخيلة، في وسعهم كفالة مصائرهم. ويختلف الأمر بالنسبة لهؤلاء الذين اصطبغوا خلال مرحلة هجراتهم بصبغة أجنبية أو بنزعة ضالة، فهؤلاء يجب أن يحيدوا عن طريقهم ليطهروا أنفسهم من هذه الصبغة أو تلك النزعة، حتى يقيض لهم اجتناب المصير الآخر: أي الطرد والإبادة"[5].

إلا أنه بعدما ضرب الأمثلة على صدق نظريته، سارع ليرصد هذا الاستثناء، فقال: "وثمة استثناء من قاعدتنا يمثله العرب المسلمون الأوائل. إذ كان العرب جماعة من العشائر من خارج المجتمع الهليني، أنجزوا مرتبة سامية من النجاح إبان مرحلة هجراتهم التي صاحبت تحلل ذلك المجتمع. وتمَّ هذا النجاح رغما عن حقيقة قوامها أن العرب قد تشبثوا بمنحاهم الديني الأصيل عِوَضًا عن اعتناقهم المذهب المسيحي المينوفيستي الذي كان يعتنقه رعاياهم في الأقاليم التي انتزعوها من الإمبراطورية الرومانية. بيد أن الدور التاريخي للعرب المسلمين الأوائل، يعتبر دورا استثنائيا تماما... وبالأحرى؛ يعتبر تاريخ الإسلام حالة خاصة، لن تنسخ نتائج بحثنا العامة"[6].

وقد ذهب العديد مذاهب شتى في محاولة تفسير هذا الاستثناء التاريخي، ثم اتفقت كلمة عدد كبير من الباحثين والمؤرخين على أن السبب استثنائي أيضا، وهو التسامح الذي تميز به الفتح الإسلامي، يقول جوستاف لوبون:
"وكان يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويُسِيئُوا معاملة المغلوبين، ويُكْرِهُوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ... فالحقُّ أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا مثل دينهم.

وما جَهِله المؤرخون من حِلْم العرب الفاتحين وتسامحهم، كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونُظُمهم ولغتهم، التي رَسَخَت وقاومت جميع الغارات، وبَقِيَتْ قائمةً حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، ونَعُدُّ من الواضح خاصةً أمرَ مصر التي لم يُوَفَّق فاتحوها من الفرس والإغريق والرومان أن يقلبوا الحضارةَ الفرعونية القديمة فيها وأن يُقيموا حضارتهم مقامها"[7].

ويوافقه في هذا جاك ريسلر[8] الذي يقول: "يُظهر التاريخ أن الشعوب المغزوَّة تتبنى نظاما سياسيا جديدا بسهولة أكثر مما تبدل لغتها ولسانها. ولقد برهن على ذلك مرة أخرى فشل اليونان والرومان في المشرق. فماذا يمكن أن تكون، بعد الآن، لغة الشعوب الخاضعة للإسلام؟ لا يمكنها إلا أن تكون اللغة العربية، المميزة بكونها لغة الفاتح لا الغالب"[9].

إن الشائع في كل حضارة، كما يقول مؤرخ الحضارات الفرنسي فرناندو بروديل، "أنها تبدي نفورا من اعتناق فكر ثقافي يطرح دعامة من دعائمها الراسخة للمناقشة، ولئن كان هذا النفور وذلك العداء الخفي نادرا نسبيا فهو يؤدي دائما إلى صميم الحضارة ... فليس هناك حضارة -كما قال مارسيل موس- جديرة باسم الحضارة ليس لها عادات الرفض والنفور من الإسهامات الدخيلة"[10].

ومن هنا نعرف كم كان الاستثناء الإسلامي محيرا حين أدخل مناطق الحضارات الكبرى كالفارسية والرومانية والهندية ضمن أرضه، واحتواها تماما داخل حضارته، لقد حمل الفاتح المسلم نموذجه السياسي معه منذ الحرب الأولى، ولما حاول القائدُ الفارسي رستم إغراء السفير المسلم المغيرة بن شعبة ببعض المال قال له "وإن إسلامكم لأحب إلينا من فتح بلادكم".

لقد امتنَّ أوباما على قومه في آخر خطاب رئاسي له أنه جنَّب أمريكا نموذج عراقٍ آخر، مع أن حرب العراق اجتمع لها تحالف دولي هائل على بلد مُحاصَر منزوع السلاح حكمه مستبدٌ لعقود فأهلك قوته وبدَّد ثروته، ثم إن التكاليف دفعتها دول الخليج التي وفرت فوق الأموال الأرض والإمدادات.. أي أن إمكانية تحقيق نصر عسكري وسياسي وحضاري لم تكن أحسن منها في تلك الظروف!

ونستطيع أن نذكر مثل هذا عن امبراطوريات قاهرة ابتلعت دولا أو ممالك صغيرة منذ الاستعمار الإسباني وحتى الاتحاد السوفيتي مرورا بالبرتغاليين والإنجليز والفرنسيين والهولنديين، ومع كل الفوارق الهائلة التي تمتعوا بها لم يستطيعوا إلزام أحد بنظامهم الحضاري إلا بقوة سلاح وقهر عاتية ولبعض من السنين أو العقو.

ثم انجلى الغبار ولم تُقِم امبراطورية واحدة عاصمة حضارية واحدة في أي من مستعمراتها، بل عاشت عواصم الاستعمار على نهب البلاد والتضخم بدمائها، بينما عواصم الإسلام الحضارية تناثرت شرقا وغربا، فكانت في مرو وطشقند وبخارى ونيسابور وأصفهان وبغداد ودمشق والقاهرة وفاس وقرطبة وغرناطة وتمبكتو فلم تنفرد مكة أو المدينة أو جزيرة العرب باحتكار خيرات الشعوب!

هذا هو الاستثناء بين من يحملون خير الشعوب إلى العواصم الاستعمارية، وبين من يحملون الخير من عواصمهم إلى الشعوب المفتوحة.




[1] هاملتون جب وآخران، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، (طبعة بدون بيانات)، ص9.
[2] جوستاف لوبون، السنن النفسية لتطور الأمم، ترجمة: عادل زعيتر، ط2 (القاهرة: دار المعارف، 1957)، ص157.
[3] Christopher Dawson, The Dynamics Of World History, (London: Sheed And Ward, 1965), p. 128
[4] أرنولد توينبي (1889 – 1975م)، ولد في لندن، تقلد عدة مناصب منها: أستاذ الدراسات اليونانية والبيزنطية في جامعة لندن، ومدير دائرة الدراسات في وزارة الخارجية البريطانية، ويعد رائد مدرسة "التفسير الديني (أو الروحي) للتاريخ"، وصاحب نظرية "التحدي والاستجابة" في تفسير سقوط الأمم ونهوضها، وممن أدانوا فكرة تفوق العنصر الأبيض أو أن الغرب هو أصل الحضارة، وله مواقف مشهودة ضد الصهيونية ودعما للقضية الفلسطينية.
[5] أرنولد توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2011). 2/248.
[6] السابق 2/248، 249 بتصرف بسيط.
[7] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، ط مكتبة الأسرة (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000م)، ص605.
[8] جاك ريسلر: باحث فرنسي، عمل أستاذا بمعهد باريس للدراسات الإسلامية، حصل كتابه "الحضارة العربية" على جائزة الأكاديمية الفرنسية بوصفه دراسة أساسية لمعرفة الإسلام.
[9] جاك ريسلر، الحضارة العربية، ترجمة: خليل أحمد خليل، ط1 (بيروت: منشورات عويدات، 1993م). ص52.
[10] فرناندو بروديل، تاريخ وقواعد الحضارات، ترجمة وتعليق سفير. د. حسين شريف، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق