الأحد، أبريل 07، 2013

صناعة مجتمع الجسد الواحد (2/2)



ذكرنا في المقال السابق كيف أن نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) هو أعظم رجال العالم أثرا في التاريخ الإنساني وبشهادة المؤخين غير المسلمين، ذلك أنه أنشأ من شتات العرب المشرذمين أمة واحدة متماسكة قوية انطلقت في زمن قياسي تنشر رسالتها في العالم كله، فما كان يمكنها نشر رسالتها بهذه القوة والرسوخ ومواجهة القوى العالمية العدوانية بهذه البسالة والحسم بغير تكون الأمة الواحدة التي صارت كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

وفي محاولة لتتبع كيف تمت صياغة هذا المجتمع الجديد من الشراذم المشتتة في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) تناولنا بالنظر الفترة الأولى في دولة المدينة، ووجدنا أن ثمة قرارات أربعة مصيرية قد استطاعت إنجاز هذا التحول الكبير وهي: بناء المسجد، والإخاء بين المهاجرين والأنصار، وإصدار وثيقة المدينة، وإنشاء سوق المسلمين، بالإضافة إلى منهج استقلال الأمة وعلوها فوق السلطة في البناء السياسي للدولة الإسلامية.

وقد تناولنا في المقال السابق بناء المسجد والإخاء بين المهاجرين والأنصار، وبقي أن نلقي النظر على: إصدار وثيقة المدينة، وإنشاء سوق المسلمين، ثم العبور على المنهج الإسلامي في جعل الأمة فوق السلطة في النظام السياسي.

***

القرار الثالث: إصدار وثيقة المدينة

وهي الوثيقة القانونية التي حددت دولة المدينة وواجبات مواطنيها وحقوقهم وسبيل الفصل في التنازعات بينهم، "على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصيحة والبر دون الإثم... وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين... وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله... وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم".

وبهذا قطعت الطريق أمام أي خلافات قبلية أو دينية أو تاريخية ليصير الفصل في المنازعات قائما على أساس قانوني، فالجميع أمام القانون سواسية، "... وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره".

وبهذه الوثيقة أُقِرّ العدل على الجميع، وتعامل المسلمون مع خيانات اليهود والمنافقين على أساس قانوني لا على أساس ديني أو قبلي مما كان له أكبر الأثر على إسكات خلافات الماضي وتحالفات قبائل اليهود مع الأوس أو الخزرج، بل كان سعد بن معاذ –حليف بني قريظة- هو من وَقَّع عليهم عقوبة الخيانة[1].

وبهذا مَثَّلَتْ الوثيقة الحصن القانوني الحافظ لتماسك المجتمع ووحدته وكفلت مقاومة محاولات ضربه.

القرار الرابع: إنشاء السوق

وكان الهدف كسر احتكار اليهود، ورفع اقتصاد المدينة المعتمد على الزراعة وحدها بإنشاء ما يصلح أن نسميه "منطقة تجارية" على ملتقى الطرق خارج المدينة، وإيجاد فرص العمل للمهاجرين ممن لم يخبروا العمل في الزراعة.

وقد تمتع سوق المسلمين بما جعله خيرا من سوق اليهود، فلا غش ولا تدليس، ولا احتكار ولا ربا، ولا ضرائب على المبيعات والمشتريات، وهو خاضع للقيم والتنظيمات الإسلامية (مثل التراحم والتكافل، وعدم بيع ما لا يُملك، وعدم التسعير... إلخ) التي جعلته مرادفا لنهضة المجتمع واكتفائه الذاتي لا لتصارع طبقاته الاجتماعية، فكانت النتيجة في صالح المجتمع اقتصادا وأخلاقا وسياسة، ونزع فتيل الأزمات  مع اليهود، وفتيل أزمة البطالة، مما كان له أبلغ الأثر في الحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه.

كما وفر السوق الاستقلال الاقتصادي الذي وفَّر إمكانية اتخاذ القرار السياسي بإجلاء بني قينقاع –وهم أصحاب السوق بالمدينة- حين صاروا خطرا على هذا المجتمع.

***

هذه القرارات الأربعة لم تكن نهاية المطاف، بل لقد وضع الإسلام تشريعاته بحيث جعل "الأمة فوق السلطة"، وأبرز هذه التشريعات ثلاثة أمور:

1. الشورى: وهو الأمر الكفيل بعدم استبداد السلطة، أو ادعاء أحد بأنه الأحق بالحكم، أو ادعاؤه أنه قادر وحده على القيادة بغير مشورة، بل كان قول عمر (رضي الله عنه) صريحا حين أعلن: "من بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فلا يُتَابع هو ولا الذي بايعه"[2]، ومثله قول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) "أيها الناس، إن هذا الأمر (الحُكْم) ليس لأحد فيه حق إلا من أمَّرْتُم"[3].

وقد اضطرد في عهد النبي وسنة الخلفاء الراشدين مشاورة الأمة والنزول على رأيها، حتى حكم العلماء بأن "من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب"[4]، ومعروف بأن الاستبداد هو أخطر ما يمزق تماسك الأمة، فالمستبد لا يحكم مجتمعا متوحدا بل يجعل (أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم)[5]، ثم يشمل الاستضعاف جميعهم حتى ما يبق إلا أهل المستبد وحاشيته وحدهم غير مستضعفين.

2. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وقد جعله الإسلام من الإيمان، وأقله تغيير المنكر بالقلب حال العجز التام وأبلغه الثورة على السلطان الجائر ولو كان الثمن هو القتل دون النجاح، بل تلك هي منزلة "سيد الشهداء"، ولكل مسلم أن يغير المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلا بشرط ألا يؤدي إلى منكر أكبر منه وأن تكون البداية بالنصح والموعظة الحسنة، وقد أبدع الإسلام نظام الحسبة والتي تجعل المجتمع مقاوما للانحراف من تلقاء نفسه[6].

وقد تطورت مؤسسة الحسبة عبر التاريخ الإسلامي حتى بلغت شأنا عظيما، ويكفي العبور على مؤلفات الحسبة -مثل "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة" لعبد الرحمن بن نصر الشيزري أو "معالم القربة في طلب الحسبة" لابن الإخوة- لندرك كيف بلغت العناية والحرص في استقامة المؤسسات والفئات والشرائح المختلفة من المهن في المجتمع الإسلامي.

3. نظام الوقف: حيث يتطوع المسلم بتخصيص جزء من ماله تحت إشراف جهة مستقلة لوجه معين من وجوه الخير، ولا يملك أحد أن يعتدي على هذه الأموال أو أن يصرفها في غير وجهها أو يصادرها.

وهو ما يوفر الاستقلال المالي للأمة بعيدا عن السلطة، بما يجعل عمل الخير ناميا ومستمرا مهما انتاب السلطة ضعفٌ سياسيٌّ أو عسكريٌّ، وهذا ما جعل الأمة تغزو أعدائها حضاريا وإن انهزمت أمامهم عسكريا، كذا فعلنا مع الصليبيين في الشام والأندلس وصقلية ومع التتار الذين صاروا مسلمين آخر الأمر، والوقف هو ما وفر استقلال العلماء في وجه السلطان ووفر استمرار الجهاد ولو ضعفت الدولة، وتفرغ طلبة العلم، وعددا لا حصر له من المشروعات الخيرية مثل المستشفيات، الجسور، القناطر، الكتاتيب، المكتبات، المدارس، الخانات، الخانقات، الحدائق والمتنزهات، أهل العشوائيات، رعاية حالات المصائب (الأيتام، زواج اليتيمات، الأسرى، المُهَجَّرون، من عجز عن الحج ...) حتى رعاية القطط والكلاب والحيوانات المريضة وغيرها كانت لها أوقاف[7].

وهذا ما جعل الثورات الاقتصادية أقل أنواع الثورات في التاريخ الإسلامي، وجعل الأمة متحررة من سيطرة الحكام على أموالها، بل ووَفَّر للحكام تمويلا دائما لمشاريع التنمية والنهضة والبحث العلمي وغيرها.

وظل الوقف يؤدي عمله حتى ظهرت "الدولة الحديثة" التي تجعل الشعوب أسرى عند الحكام والتي مثلت نكبة فاصلة في مسيرة الأمة الحضارية، لا سيما والذين تسلطوا على الأمة منذ ظهورها كانوا فاسدين مستبدين تعمدوا سجن الأمة ونزع مقومات المقاومة والاستقلال عن السلطة.

وبهذا "تمكَّن المجتمع الإسلامي -الذي قام على الدين- من الصمود في وجه التفكيك السياسي"[8].

***

إن المزية الكبرى أن بذور صناعة المجتمع كامنة في الدين نفسه، في المسجد والإخاء، في الشريعة الإسلامية وقوانينها ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يجعل هذه البذور موجودة وخالدة وغير قابلة للفناء، فكل المؤمنين يرون أنفسهم مطالبين بالجهاد في سبيل تطبيق الشريعة وتحقيق الإسلام كاملا غير منقوص.

وحيث أن المسجد جزء من سلوك المسلم اليومي، فسيظل المسجد قادرا دائما على إعادة إنتاج وصناعة المجتمع المسلم المتماسك والقائم على التعاون والتناصر والتناصح.



[1] البخاري (3895)، ومسلم (1768).
[2] البخاري (6442).
[3] الطبري: تاريخ الطبري 2/700 (ط1 دار الكتب العلمية، بيروت)
[4] ابن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز 1/534 (ط1 دار الكتب العلمية، بيروت)
[5] (القصص: 4)، وانظر: عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ص66 (المطبعة العصرية، حلب).
[6] للمستشرق الأمريكي مايكل كوك في مزايا هذا النظام كتاب كبير مهم سماه "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي".
[7] د. محمد بن أحمد الصالح: الوقف في الشريعة ص163 وما بعدها (ط1)، وانظر بحوث مؤتمر الوقف الأول (جامعة أم القرى، السعودية، 1422هـ)
[8] مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام ص73، 74 (ط دار الآداب، بيروت)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق