الأحد، يناير 03، 2021

هل يتغير موقف الشعوب الغربية إذا عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم؟


روى فايز الكندري، الأسير الكويتي المحرر من سجن جوانتانامو، في كتابه شديد الروعة "البلاء الشديد والميلاد الجديد"، أن أحد الجنود الأمريكان في معسكر قندهار بدا أنه مثقف وذو أدب، حاول التعرف على الإسلام، فكان يستمع باهتمام بالغ إلى شرح أفكاره، ويتعامل باحترام كبير مع الأسرى، حتى أنه إذا أراد أن ينصرف ليستكمل جولته استأذن من الأسير في الانصراف! ولما رآه الرقيبُ العسكري هذا الجنديَّ واقفا مع الأسرى، استدعاه إليه، ووبَّخه على ذلك، وهدده بالعقاب إذا رآه مرة أخرى في هذا الموقف.

انقلب الجندي بعدها إلى وحش، صار نارا على الأسرى، أو بتعبير فايز الكندري "رضي أن يكون آلة في هذه المنظومة الظالمة التي لا تراعي أبسط الحقوق الإنسانية، فألغى عقله في معرفة الحق والباطل والظلم والعدل، وألغى قلبه الذي يطالبه بأن يكون إنسانا يُعامل الآخرين بإنسانية"[1].

أتّخذُ هذه القصة مدخلا للإجابة على بعض استدراكات القراء التي وصلتني على المقال الماضي ( https://bit.ly/2X9apgK )، إذ قُلْتُ بأن الشعوب الغربية ضحية للخطاب الإعلامي الكاذب عن المسلمين والذي تنتجه شبكات السلطة والنفوذ الغربية –كما عرضنا ذلك من خلال تجربة المستشرق الفرنسي المعاصر فرنسوا بورجا[2]- إلا أنه حتى إذا أتيح لبعضهم معرفة الحق فلن تكون مجرد المعرفة كافية لانتقاله من معسكر الغالبين إلى معسكر المغلوبين مُضَحِّيًا في ذلك بامتيازاته وترفه ومتحملا تكاليف معاكسة التيار.

ولهذا فإن حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية هي أقل ما يفعله المسلمون لاستعادة كرامتهم، إذ تلك هي الوسيلة التي يمكن أن تكون مؤلمة ومفيدة في تنبيه هؤلاء إلى خطورة النيل من نبينا صلى الله عليه وسلم، وبها يضع المسلمون أنفسهم ضمن شبكة القوى وشبكة المصالح التي تؤثر على اختيارات هذه الشعوب.

لكن يبرز السؤال هنا: لماذا تكون معرفة الحق غير كافية وحدها لاتباعه عند أغلب الناس؟ ولماذا يرضى أغلب الناس بمخالفة الحق –بل ومحاربته- في سبيل منفعتهم الذاتية؟!

ذلك واحدٌ من الأسئلة التي كم هلكت فيها العقول وفاضت الكتب في محاولة الإجابة عنها، ولن يمكن أن نقدم الإجابة ولا أن نختصر ما قيل في هذا المقال، وإنما نهدف من هذه السطور القادمة إلى بيان أن الشعوب الغربية تهيمن عليها مناهج فكرية ونظم سياسية وُلِدت في مسارات تاريخية بعينها، تجعل من المستبعد أن يتغير موقف هذه الشعوب مهما اجتهدنا في إيصال الصورة الصحيحة لديننا ونبينا إليهم.

علم نفس الطاعة

من بين الفروع التي يدرسها علم النفس السياسي، فرع عن علم نفس الطاعة، وتبرز في هذا الفرع تجارب ستانلي مليجرام الشهيرة التي توصلت إلى أن 65% ينفذون ما يُطلب منهم فعله مهما كان هذا الطلب يؤذي الآخرين أو حتى يقتلهم.

تتضاعف نسبة الطاعة في حالات أخرى، من أهمها حين يكون الذي يُصدر الأمر جهة فوقية، فالاعتقاد في أن الذي يطلب أو يأمر أوسع علما أو أكثر مالا أو أرفع شأنا يجعل الطاعة تزداد، وأما إذا كان الآمر يمثل السلطة التي تملك الجزاء والعقاب، فنسبة الطاعة تزداد إلى حدودها القصوى، ولا يبقى إلا النادر الذي يفكر في التمرد أو يقوى على تنفيذه. وأسفرت التجارب أن الإنسان وهو يقوم بهذا العمل غير الإنساني يُنْتِج مبرراته لنفسه، وهذه النقطة الخطيرة أشار إليها رئيس سابق لجهاز الاستخبارات الأمريكية –كما أورد ذلك ستيفن جراي في كتاب "أسياد الجاسوسية الجدد"- في درسه للمتدربين على قيادة شبكات التجسس، فقد أخبرهم أنه ليس من المُجْدي كثيرا بحث المداخل والدوافع لتجنيد العميل، بل يجب إيقاعه في الخيانة فعلا، ثم سيتولى هو بنفسه إيجاد المبرر لنفسه[3].

كذلك تتضاعف نسبة الطاعة حين تكون المسافة بعيدة، فالذي يمارس القصف بالطائرة أو بالصاروخ لا يشاهد نتيجة عمله على الضحية، ومن ثَمَّ فلا يفكر في الرفض أو التمرد، بينما تزيد احتمالية التمرد لو أنه سيقتل بالسكِّين. وتكمن الفائدة العملية من هذه النتيجة في أن تقسيم الجريمة إلى مجموعة من الأعمال تجعلها أسهل عليهم جميعا، فالذي يأمر بقصف المدنيين –مثلا- لن يتألم لأنه لا يفعل أكثر من كتابة قرار، والذي يوصل القرار إلى الهيئة التنفيذية لن يشعر بأي ألم جراء مشاركته في هذه المذبحة، ومثله الذي يرتب خطة القصف، وكذلك الذي يشحن الطائرة بالصواريخ، وكذلك الطيار الذي يلقي القنبلة، وبطبيعة الحال لن يشعر بالألم كل الفريق العلمي والصناعي الذي أنتج القنبلة.

وتتضاعف نسبة الطاعة أيضا حين تكون الضحية قد جرى تشويهها أو نزع الإنسانية عنها، مثلما يحدث في السجون –مثلا- من إلغاء اسم السجين واستبدال رقمٍ به، أو الحديث المتكرر عن غبائه أو عن خبثه وخطورته.. إلخ! إن هذا يجعل عملية الإيذاء مبررة بل وضرورية، إن لم تكن شيئا مطلوبا ومرغوبا فيه لتخليص البشرية أو الوطن من عنصر الشرّ هذا أو على الأقل: لتجنب خطورته وخبثه!

إذا جمعنا بين هذه الأمور الثلاثة: تأثير الجهة الفوقية والسلطة، وتأثير تقسيم العمل إلى أجزاء صغيرة، والتشويه المتكرر للعدو، وطبقناها على حالتنا هذه، فسنجد أنه من الصعوبة جدا أن يتغير موقف الشعوب الغربية من النبي ومن المسلمين:

فنحن إزاء شبكة سلطوية قوية مُنْتِجة لصورة المسلمين في الغرب، تتمثل في نخبة متميزة من السياسيين والوزراء والمثقفين والأكاديميين والصحافيين وحتى الممثلين، والكلمة من هؤلاء تجد طريقها بغير صعوبة إلى عقول عموم الناس هناك وقلوبهم، فليس من طبائع البشر أن يناقضوا قولا يتفق عليه ويردده زعماؤهم وأعيانهم وكبارُهم.

ثم إنه ليس مطلوبا من عموم الناس هناك ارتكاب جرائم مباشرة ضد المسلمين، بل على العكس، ليس مطلوبا إلا الإبلاغ عمن يعتقدون أنه يمثل خطورة وتطرفا، مع تقديم الدعم الاجتماعي لإجراءات الحكومة، وهو ما يكفي فيه مجرد السكوت والوقوف في مكان المتفرج الذي لن يرتكب شيئا بيده. وأما الأجهزة الحكومية التي ستنفذ قرارات السلطة فإن العمل مقسَّم فيما بينها بحيث لن يشعر أحدٌّ ما بنوع من ألم الضمير، لأنه مجرد منفذ لجزء صغير من سياسات كبرى هو لا يستوعبها ولا يعرف نتائجها على الضحية.

وحتى إذا شعر البعض بتأنيب الضمير، فإن الميراث الطويل من خطاب الكراهية الذي يتحدث عن الخطر الإسلامي قد صنع فعلا حالة من الخوف المرضي من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، وهذا الأمر يعمل كمُخَدِّرٍ ومُنَوِّمٍ للمشاعر المتعاطفة مع الضحايا، كما يعمل كحافز ومثير للمشاعر المتضامنة مع الدولة والسلطة والأجهزة التي تنفذ واجبها في حماية المجتمع من الأخطار المحتملة!

وإذا افترضنا أن مواطنا صالحا في فرنسا أو في غيرها من بلاد أوروبا كان يكتفي بموقع المتفرج، أو حتى تسيطر عليه عاطفة التضامن مع الضحايا، فإن هذا المواطن بمجرد أن يتولى وظيفة في الشرطة أو الجيش أو نحوها من الأجهزة التي تتولى هذه الحرب ضد المسلمين، الأغلب أن هذا المواطن يتحول تحولا مفاجئا إلى جندي مخلص في هذه الحرب، على ذات النحو الذي فعله الجندي الأمريكي الذي ذكرناه في بداية المقال. فتلك هي نتيجة التجارب النفسية العديدة التي أجراها العديد من خبراء علم النفس الاجتماعي، وتناولها كثيرون مثل سولومون آش وستانلي مليجرام وفيليب زمباردو وديفيد باتريك هوتون وباتريك بوكانان وحنة أرندت وزيجمونت باومان وغيرهم[4].

إن نسبة نادرة يمكنها أن تقاوم الحالة الاجتماعية السائدة، لا سيما في مجتمعات تهيمن عليها العلمانية والإلحاد، وتضمر فيها الهيمنة الأخلاقية، بحيث يمكن لأي عمل مهما كان وضيعا أن يوجد له المبرر الذي يجعله ضرورة أو حتى يجعله مرغوبا فيه.

وأندر منها نسبة الذين يقاومون السلطة أو يتمردون عليها، وهذا أمرٌ نلمحه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن لهم عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا"[5]. فمما نتبنه من هذا الحديث أن مقاومة عنصر الجهاز الأمني أو العسكري أو المالي لأوامر السلطة الظالمة أمرٌ لا يكاد يُستطاع، فجاء النهي النبوي عن الدخول فيه من الأصل.

كان هذا كله عاملا واحدا، وهو "علم نفس الطاعة" الذي يحمل الشعوب على أن تظل في مواقعها العدائية حتى وإن وصلت إليهم الصورة الصحيحة عن النبي وعن المسلمين، مع أن هذا افتراضٌ جدلي على سبيل التنزل، إذ كيف يمكن منافسة الشبكة السلطوية المهيمنة على شعب ما فضلا عن التغلب عليها لإعادة تشكيل وعي الشعب.

وبقي أمر آخر نؤجله إلى المقال القادم إن شاء الله، وهو أمر المنهج الوضعي الذي ساد في أوروبا منذ عصر التنوير، وكيف ساهم هذا المنهج في الانفصال بين العلم والعمل، وبين العلم والأخلاق، بمعنى: أنه صار طبيعيا ومتكررا أن يتوصل عالِمٌ ما أو مستشرق ما إلى الإعجاب القوي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالحضارة الإسلامية ثم لا يشعر أنه مُلزم باعتناق الإسلام واتباع هذا النبي. كيف نشأ هذا المنهج في التفكير وكيف ساد؟.. هذا ما يكون في المقال القادم إن شاء الله وقدَّر.

نشر في مجلة المجتمع الكويتية، يناير 2021

-----------

[1] فايز الكندري، البلاء الشديد والميلاد الجديد، ط1 (بيروت: جسور للنشر والترجمة، 2020م)، ص109، 110.
[2] محمد إلهامي، "كيف تتشكل صورة المسلمين في الغرب: خبرة مستشرق فرنسي"، مجلة المجتمع الكويتية، ديسمبر 2020م.
[3] ستيفن جراي، أسياد الجاسوسية الجدد، ترجمة: مركز التعريب والبرمجة، ط1 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2016م)، ص218.
[4] للمزيد، انظر "الإذعان للسلطة" (Obedience to Authority) لستانلي مليجرام، وعلى حد علمي فإن هذا الكتاب لم يترجم للعربية، ولكن تجربته ونتائجها تناولها العديد من الكتب والدراسات الأخرى، و"تأثير الشيطان" لفيليب زمباردو، و"علم النفس السياسي" لديفيد باتريك هوتون، و"الذرة الاجتماعية" لباتريك بوكانان، و"آيخمان في القدس" و"تفاهة الشر" كلاهما لحنة أرندت، و"الحداثة والهولوكوست" لزيجمونت باومان.
[5] رواه ابن حبان (4586) وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (360).

هناك 9 تعليقات:

  1. اللهمّ أعنا على إعادة شريعة الجهاد و تطبيقها على الوجه الصحيح

    ردحذف
  2. أحسنت. أحسن الله إليك.

    ردحذف
  3. شكرا
    نرجو ترجمة هذة المقالة و عمل فيديو للاستماع

    ردحذف
  4. علم نفس الطاعة هل له جذور قديمة
    هل كان جند فرعون يستخدم معهم هذا العلم

    ردحذف
  5. علم نفس الطاعة هل له جذور قديمة
    هل تم استخدام هذا العلم مع جند فرعون

    ردحذف
  6. غير معرف3:14 ص

    ، مع أن هذا افتراضٌ جدلي على سبيل التنزل، إذ كيف يمكن منافسة الشبكة السلطوية المهيمنة على شعب ما فضلا عن التغلب عليها لإعادة تشكيل وعي الشعب. هذه العبارة بينت لي لماذا لجأ أسلافنا للفتوحات الإسلامية ولماذا نحن أيضا لا نزال بحاجة لجهاد الطلب، ببساطة لمنافسة السلطة المهيمنة والتغلب عليها لإعادة تشكيل وعي الشعب

    ردحذف
  7. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
    الردود
    1. نحن نفهم هذا جيدا ولكنها لا نريد أن نكون رد فعل لكراهية الغرب ونفهم معظم الافكار ونوافق على الكثير منها ولكن ما السبيل إليها اذا كنا لم نحكم بشرع الله بعد، ولا نريد عنف فى آن واحد ليس مع العدو فهذا واضح ويستحق. ولا نريد أيضا أن نعود للسبعينات فما السبيل؟

      حذف