الجمعة، أبريل 11، 2014

مغالطات التغريبيين في مسألة "الحرية"




يقدم الغرب نفسه على أنه أرض الحرية (في داخله) وراعيها وحامل لوائها والمدافع عنها (في كل العالم)، وكذلك يراه التغريبيون من بني قومنا، فلئن صحَّ أن الغرب يرى نفسه كذلك عن حق أو عن باطل فهل يصح أن يراه قوم مسلمون كذلك؟!

لقد اضطر التغريبيون في بلادنا إلى اعتماد مغالطات منهجية عديدة في سبيل نشر هذه الفكرة، هذه السطور عرض لأهمها:

(1) التعميم والتخصيص

إذا أُطلقت كلمة "الحرية" شملت أربع معانٍ: حرية النفس، حرية الفكر والاعتقاد، حرية الأخلاق، الحرية السياسية.

الأولى لم تعد موضع نقاش في عصرنا هذا إذ لم يعد ثمة عبيد بمعنى امتلاك بشر لبشر آخرين، الثانية ليس فيها موضع نزاع بيننا وبينهم إلا في موضوع حرية الكفر والارتداد ونشر قيم تناقض الإسلام، الثالثة موضع النزاع فيها كبير والتناقض فيها ظاهر إذ ليست تقبل مجتمعاتنا الإسلامية الانفلات الأخلاقي والإباحية التي وصل إليها الغرب ولا حتى واحدا على الألف منها، والرابعة هي التي يمثل فيها الغرب نموذجا مغريا إذ أن كل نفس شريفة تتوق إلى التخلص من الاستبداد والطغيان وتحب أن يكون لها الحق في اختيار من يحكمها ومراقبته وعزله إن لزم الأمر.

ومن هنا تأتي المغالطة الكبرى: تمييع المساحات بين هذه المعاني الأربع، وتقديم الحرية –بمعناها السياسي المضاد للاستبداد- كرأس حربة لتسويق كل المعاني الأخرى: حرية الكفر والارتداد ونشر ما يناقض الإسلام من أفكار وسلوك وانفلات أخلاقي، وكانوا من انعدام الحياء بحيث كرروا أنه لن نصل إلى التقدم الغربي في العلم وفي السياسة إلا إن اعتنقنا وأنفذنا في عالمنا حرية الكفر والارتداد والإباحية وسائر ما يناقض ديننا الذي تحول –في كلامهم- إلى "تراث ينبغي التخلص منه ونبذه"، وهذا المعنى مما يتفقون عليه في الجملة وإن صاغه كل واحد منهم بحسب جرأته والبيئة من حوله.

وأعظم دليل على هذا أن كافة النخب المتغربة في بلادنا الإسلامية إنما نشأت تحت رعاية الاستبداد في بلادنا، ولم تقف يوما مع حرية الشعوب بل كانت في ركاب المستبد على طول الخط، وقد مكَّنها المستبدون من منافذ الثقافة والتوجيه والنشر حتى صاروا مع الاستبداد كيانا واحدا أو على الأقل حلفا واحدا.

ومع ذلك فما زالوا يتغزلون في الغرب ويتحدثون عن الحرية!!

(2) اللحظة والتاريخ

فإذا قصرنا الحديث عن المعاني المحمودة التي يتفق عليها الناس من كلمة "الحرية"، فنحن بإزاء مغالطة أخرى، إذ التغريبيون في بلادنا يعتمدون مقارنة عجيبة بين اللحظة الغربية الحاضرة وبين التاريخ الإسلامي الطويل، فلا هي مقارنة اللحظة الحاضرة في الغربي وبلاد المسلمين ولا هي مقارنة التاريخ الإسلامي بالتاريخ الغربي.

وكيف يفعلون؟! ولو فعلوا لكانت فضيحة! إذ من الثابت المعروف أن تاريخ الغرب في باب الحريات من أسوأ التواريخ، في ذات اللحظة التي ضرب فيها المسلمون نموذجا فذا تعلم منه الغربيون، تقول كارين أرمسترونج: "كان المسلمون يسمحون للمسيحيين، مثلما يسمحون لليهود، بالحرية الدينية الكاملة في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وكان معظم أهل إسبانيا يعتزون بانتمائهم إلى تلك الثقافة الرفيعة، فقد كانت تسبق سائر أوربا سبقا يقاس بالسنين الضوئية"[1].

ولم يكن من ملجأ يومئذ للمضطهدين في الغرب إلا في بلاد المسلمين، لا سيما الدولة العثمانية التي احتضنت الفارين من الاضطهاد والحروب الدينية الأوروبية، بل كان التيار الجارف بين الشعوب الأوروبية هو تفضيل الحكم العثماني المسلم على الأوروبي، يقول توماس أرنولد بأن "أصحاب "كالفن  Calvin  في المجر وترانسلفانيا، وأصحاب مذهب التوحيد من المسيحيين الذين كانوا في ترانسلفانيا، طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورج المتعصبة، ونظر البروتستانت في سيليزيا إلى تركيا بعيون الرغبة، وتمنوا بسرور أن يشتروا الحرية الدينية بالخضوع للحكم الإسلامي، وحدث أن هرب اليهود الإسبانيون المضطهدون في جموع هائلة، فلم يلجئوا إلا إلى تركيا في نهاية القرن الخامس عشر، كذلك نرى القوزاق الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء -الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية- قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية"[2].

إذا قارنَّا التاريخ بالتاريخ فالنتيجة محسومة، إذ الحرية في الغرب عمرها قصير، ثم هي بعد ذلك مقصورة على مواطنيهم أو بعض مواطنيهم بينما الوجه الغربي البشع بادٍ في كل مكان احتله الغربيون أو ما زالوا يحتلونه ويهيمنون عليه.

بل إنه حتى لو قارنَّا اللحظة الحاضرة بين الغرب وبلاد الإسلام فلن يكون الغرب بريئا مما صارت إليه أحوال المسلمين، فالغرب كان وما يزال صاحب مرحلة الاحتلال البغيضة التي تخلفت فيها الأمة، ثم لم يخرج بجسده حتى كان قد مهّد ومكن في بلادنا لعملائه المستبدين الذين ما يزال يرعاهم ويحوطهم، ثم هو المتآمر على الثورات الشعبية العامل على إفسادها، فلئن كانت ثمة مقارنة ستميل إلى صالح الغرب فهي في أحد وجوهها مقارنة بين الوجهين الغربيين: الوجه البشع في بلادنا والوجه المتزين في بلادهم.

(3) النظرية والواقع

القارئ لليبراليين العرب يجد فيضا من أسماء الفلاسفة الغربيين حتى ليبدو كل منهم حريصا على استعراض مهارته في سرد أكبر عدد ممكن من الأسماء التي يوحي بأنه هضم أفكارهم وفلسفاتهم، وهذا المشهد يمثل تكرارا للشيوعين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ويتفق المشهدان في الغزل المستمر لهذه الأفكار.

لكنهم لا يخرجون من مقارنة هذه النظريات لمقارنتها بـ "النظريات" الإسلامية الواردة في نصوص الكتاب والسنة والتراث الفقهي والأصولي الإسلامي، بل يهرعون إلى مقارنة ذلك بـ "الواقع" الإسلامي، سواء من التاريخ أو الحاضر، فيتحدثون عن الخليفة الذي كان همه السيف والخليفة الذي كان همه النساء والخليفة الذي كان يعذب أعداءه ويقطعهم... إلخ، ودعك الآن من أن كثيرا من الوقائع التي يتحدثون عنها غير ثابتة تاريخيا أو يأخذونها من كتب الأدب والأقاصيص والأهازيج، إنما المهم الذي نناقشة الآن هو هذه المنهجية في مقارنة "النظريات" بـ "الوقائع"، فلا هي مقارنة نظريات بنظريات ولا مقارنة وقائع بوقائع.

ولأن الغرض مرض فهم لا يتوقفون كثيرا أمام نظريات غربية ترسخ العبودية وتجعلها حتمية إنسانية، رغم أنها نظريات قال بها "الآباء المؤسسون الكبار" للثقافة الغربية مثل أفلاطون وتوماس مور (وهما أشهر اسمين في نظريات "المدينة الفاضلة") بينما يتوقفون طويلا ويستنكرون طويلا "سماح" الإسلام بوجود عبيد، وهو فارق دقيق وضخم لم يفهمه التغريبيون في بلادنا بينما فهمه بعض الغربيين مثل الخبير والقانوني الإيطالي دافيد دي سانتيلانا الذي يقرر أن القاعدة في الشريعة هي الحرية وأنه قد ترتب على هذا أمور كثيرة منها أن اللقيط المجهول أصله ترجح حريته على عبوديته، وأن المشكوك في حريته لا يجبر على إثبات حريته حتى تنهض القرائن والدلائل القضائية على عكس ما يزعم، وأن حالة الحرية ترجح عند وجود الشك، وأنه لا يجوز لمن كان حرا أن يبيع حريته أو يساوم عليها، والحر الذي يرغب في العبودية لا يُقَرّ على هذا، ثم قال: "وقد بشر الإسلام بهذه المساواة في وقت لم يعرف عنها العالم المسيحي شيئا"، وفي نهاية بحثه شهد شهادة منصف فقال: "المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور"[3].

إنه لابد من مساحة بين النظرية والتطبيق، تلك حقيقة يفرضها مثالية التفكير وبشرية التطبيق، فالمقارنة تصح بين نظرية وأخرى أو بين تطبيق وآخر، وحتى لو شئنا أن نقارن بين "مستوى النجاح في تطبيق النظرية" فسنجد أنفسنا إزاء حقيقة صادمة لهم، ذلك أن الإسلام اشتمل على عصور ذهبية كانت فيه النظرية أقرب شيء إلى الواقع كعهد النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلافة الراشدة وعديد من الخلفاء الصالحين، بينما لم ينجح تصور واحد من تصورات المدينة الفاضلة في الغرب كما تقرر الباحثة الإيطالية ماري لويزا برنيري بعد دراسة مطولة ومهمة في كتابها "المدينة الفاضلة عبر التاريخ".

***

ما تزال ثم مغالطات أخرى غير هذه الثلاث لكن المقام ضاق عن إيرادها، فلعلنا نستكملها في حديث قادم إن شاء الله.

نشر في مجلة الوعي الإسلامي، إبريل 2014، جمادى الآخرة 1435


[1] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد، ص32.
[2] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص181، 182.
[3] دافيد دي سانتيلانا: القانون والمجتمع، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام) بإشراف توماس أرنولد، ص417، 432، 439.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق