الخميس، مارس 17، 2011

ثلاثون سببا تجعلني أقول "نعم" للتعديلات الدستوية.

بعد عشرات الحوارات، ومئات المقالات والتحليلات، وساعات من البرامج ومقاطع الفيديو، ما زادني كل هذا إلا إيمانا بأن مصلحة الوطن تقتضي أن أقول "نعم" للتعديلات الدستورية.

ليس اتباعا لأحد، وليس عنادا لأحد.. رغم حبي للكتلة الرئيسية ممن سيصوتون بنعم، وهم الإسلاميون، ورغم بغضي للكتلة الرئيسية ممن سيصوتون بلا، وهم النخبة التي لا أرضية لها، ولم تقفز على الساحة إلا بدعم ورعاية نظام مبارك المخلوع.. لا سيما هذا "الساويرس".. الشخص الذي لم يكن يوما في الثورة بل كان من محاولات إطفائها.

أقول نعم لهذه الأسباب:

أولا: مزايا التعديلات

1. تضمن انتخابات نزيهة تحت إشراف قضائي كامل وبرقابة دولية.

2. تقلص من صلاحيات رئيس الجمهورية.

3. تلغي حالة الطواريء.

4. تخفف من قيود الترشح للرئاسة.

5. توفر للشعب –لأول مرة في تاريخ مصر- انتخاب اللجنة التي تضع الدستور الدائم.

6. تُلْزم بوضع دستور دائم جديد.

7. تجعل القضاء هو الفيصل في صحة العضوية للبرلمان

ثانيا: تهافت حجج الرافضين

8. الذين سيطرت عليهم الألفاظ البلاغية والكلام المرسل (الدستور مات – الترقيع – الدواء لا نعطيه للميت – الثورة أسقطت كل شيء -...) مع إسهال في استخدام التشبيهات والكنايات والاستعارات مما يدهش المتابع من هذا تحول المحلل السياسي إلى أديب.

9. يقولون بتشكيل لجنة تأسيسية تضع الدستور: ويريدون أن يختارها المجلس العسكري بالتعيين (وهذه وصاية على الشعب أيضا) أو بالانتخاب المباشر (رغم أنهم يتكلمون في السطر التالي عن الشعب غير المستعد للاختيار).. ولست مستعدا لخوض معارك أخرى عن مائة شخصية ستضع دستورا دائما، وهذا غبار المعارك لم ينقشع، وقد كان على لجنة صغيرة تضع تعديلات محدودة لفترة مؤقتة.. ما الداعي لفتح مثل هذه المعارك؟ وما العيب في أن يختار اللجنة مجلس منتخب؟؟

10. يقترحون مجلسا رئاسيا: وما زلت أرفض أن يتم تعيين أحد يمكن أن يختاره الشعب بالانتخاب، هذا بخلاف المجاهيل الكبيرة حول عدده وشخصياته وصلاحياته وقدرته الحقيقة على تنفيذ قراراته.

11. الحياة الحزبية غير مهيأة: وأنا أرفض أن نظل في قبضة الجيش إلى أن يتهيأ الفاشلون ويستعدون، خصوصا أني لا أقتنع أساسا بأنهم سينجحون يوما، وليس من ذنبي أن حياتهم لم تكن مهيأة وأنهم كانوا يعرفون طريق التليفزيون أكثر من طريق القرى والنجوع.

12. شباب الثورة لم يصنع أحزابا تعبر عنه: ولو تجاوزنا كل الخلاف عمن هم شباب الثورة تحديدا؟ وهل كلهم يريدون تكوين أحزاب؟ وهل كلهم يريد أن يترشح بنفسه لا أن يدعم تيارا موجودا؟.. بعيدا عن كل هذه الأسئلة التي ستجعلهم يغرقون في سفسطتهم إلا أن عدم تكوين شباب الثورة لأحزاب ليس من ذنوبي، ولست مستعدا أن أنتظر في قبضة العسكر حتى يندرجون في أحزاب ثم يطالبون بفرصتهم التي لا أدري أيضا كم مدتها. ثم إني لست واثقا أن الجيش سيرعاهم ويحميهم حتى أجل نضجهم واكتمالهم ثم يسلم لهم السلطة على طبق من ذهب.

13. لا نريد ترقيعا بل نريد دستورا جديدا: حسنا.. كلنا هذا الرجل، ولكن الذي يقول نعم يريد دستورا جديدا عبر لجنة يختارها مجلس منتخب، لا بتعيين من أحد. وإذا لم تكن مقتنعا بإلزامية التعديلات المؤقتة لصناعة دستور جديد فيمكنك أن تقرأ المادة 89 مكرر.

14. التعديلات تبقي على صلاحيات رئيس الجمهورية كما هي: حسنا.. وأين هو رئيس الجمهورية الآن؟ هل ثمة أحد يمكنه استخدام هذه الصلاحيات؟

15. التعديلات تخالف نصوصا أخرى في دستور 71: دعني أبشرك بأن المجلس العسكري صرح بأن الدستور القديم معطل، وأن التعديلات تعتبر ناسخة لما يخالفها من النصوص القديمة.

16. الوطني سيعود إلى البرلمان: ولم لا؟ ربما كنا نظن أن الحزب الوطني حزب فاسد لكن طالما اتضح لنا أغلبية الشعب تعشقه وتريده، حسنا.. لتكن الثورة هي الخطيئة الكبرى التي قمنا بها وظننا أنها طوق النجاة للشعب، ما دام الشعب يريد الوطني فعلينا أن نعتذر وننسحب، فلقد أخبرنا الناس –عبر انتخابات نزيهة- أنهم يريدونه ولا يريدوننا.

17. الإخوان سيسيطرون على البرلمان: وعلى رغم تنازلات الإخوان التطمينية التي أثبتوا بها فعلا أنهم وطنيون أكثر من غيرهم وأنهم يفضلون مصلحة البلاد على مصلحتهم، إلا أن البعض لا يطمئن.. حسنا، فليذهب إلى الجحيم بتخوفاته، وأرض الله واسعة ويمكنه أن يهاجر حيث لا إخوان ولا إسلام بالمرة.. أما أن يظل صارخا يولول ويلطم لأن الإخوان أكثر شعبية من تياره وهواه فهذه وصاية لا نقبلها ولا نقبل من يتعالى علينا ويفرض علينا اختياراته.

18. الشعب غير مستعد للديمقراطية: والحقيقة أن الرد على هذه الشبهة يحتاج إلى ألفاظ خارجة جدا، لكن على من يرى أن الشعب غير ناضج أن يبحث له عن "مكان نظيف" بدلا من هذه "الزريبة" غير الناضجة.

19. عنادا فيمن سيقولون نعم: وهذا لا يستحق أن أرد عليه، لأنه يعترف أن لا عقل له.

ثالثا: القدرة والقوة

20. على رغم كثرة البدائل المطروحة التي تجشأها المثقفون في وجوهنا، فإن أحدا منهم لا يملك أن ينفذها أو أن يحشد الناس في ثورة تطالب بها.. وعليه فلست مستعدا للخوض في مغامرة إذا قلت: لا.

21. من فضل الله على المصريين أن الجيش انحاز لهم ولم يقصفهم كما يفعل كلاب القذافي بالجوار، فليس من المصلحة الدخول في مواجهات مع الجيش قد تكون دموية في سبيل تعديلات يراها البعض "غير مثالية".. لو كان بالتعديلات عيوبا خطيرة أساسية لا يمكن القبول بها لكنا فكرنا في إشعال مواجهة، لكن لماذا نشعل مواجهة بشأن تفاصيل؟

22. قدرتنا على التأثير على لجنة تأسيسية مدنية تضع الدستور أفضل بما لا يقارن من قدرتنا على الضغط على الجيش ليضع لنا دستورا.

23. الجيش لا يقبل بمجلس رئاسي، وقال هذا بوضوح، ولمرة أخرى لا أرى داعيا لأن نخوض مواجهة مع الجيش في سبيل شيء هامشي له الكثير من الحلول.

24. القاعدة عندي أن مواجهة الجيش هي آخر الحلول حين لا يمكن إيجاد حل آخر، والحمد لله لم نصل إلى هذه الدرجة.

رابعا: التخوفات

25. إذا قلت "لا" واضطر الجيش إلى تعيين لجنة لتضع الدستور وأخرجت دستورا جديدا، فأنا مضطر للقبول به مهما كانت عيوبه في ظل هذه التقديرات: تراجع الزخم الثوري – تفاقم الوضع غير المستقر – التخوف من مواجهة لمرة أخرى مع الجيش (كم مرة سيتحمل الجيش أن يضع لنا تعديلات أو دستور ثم يغيرها لأننا لا نراها مثالية؟؟).

26. تخوف من الجيش أن يحلو له كرسي السلطة، لا سيما مع حملات المناشدة بمد الفترة الانتقالية، وظهور حملات النفاق للمشير والمجلس العسكري.

27. تخوف من فلول الحزب الوطني الذي يعطيها طول الوقت فرصة أفضل للعب الثورة المضادة، أو لتخريب بعض مكتسبات الثورة.

28. تخوف من الخارج الذي تنزل به الصدمات تترى في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن.. وسوريا والأردن.. واليابان.. وطول الوقت يعطى فرصا أفضل لترتيب الأوراق ووضع الخطط.

29. تخوف على المادة الثانية من الدستور، لأن الكتلة الرئيسية لمن يرفض التعديلات لا يهمهم بقاء هذه المادة من عدمها على أفضل تقدير (منهم من كان ضدها بكل وضوح وشراسة)، وحيث أنهم يمتلكون الصوت العالي في الإعلام (فضائيات وصحف – كلها أخذت تراخيصها في عهد مبارك!) فإن هذا يجعل فرصتهم في الوجود في لجنة تأسيسية بالتعيين مؤكدة في حين أن فرصتهم في الوجود في لجنة مختارة عبر مجلس منتخب محل شك كبير.. وقد أثبت أسلوبهم في إدارة الخلاف أنهم ليسوا فقط أقلية متسلقة تواجدها ينحصر في الإعلام، بل أثبت كذلك أنهم أساتذة في تشويه الرأي الآخر وقمعه.. صورة أخرى من النظام الذي سمح لهم بالصحف والفضائيات.

30. تخوف أن ينشأ التطرف من جديد إذا شعر الإسلاميون أن الأقلية ذات الصوت العالي تتحكم بالفعل في مسيرة البلاد.

الأحد، مارس 13، 2011

لماذا أقول "نعم" للتعديلات الدستورية؟

لأنه على عكس فضاء التنظير دائما يضع الواقع أمامك اختيارات محدودة، على حسب قوتك تزيد الاختيارات أمامك، والآن نحن أمام قوتين: قوة الشعب وقوة الجيش.

دعونا لا نخدع أنفسنا كثيرا، إن الزخم الثوري يتراجع كل يوم، ليس لأننا مللنا أو لأن الثورة المضادة نجحت، لا.. بل لأن هذا –بكل بساطة- طبيعة كل زخم ثوري، وكل فعل بشري، وكل نشاط إنساني.. لا شيء يمكنه البقاء في الذروة.

ولقد كنا نتخوف من أن يتجمد الحال السياسي في أثناء الثورة فيتراجع الحماس الثوري المشتعل غير أن الله لطف بنا، وكان حسني مبارك يستفز الناس في كل مرة إما بخطابه أو بأفعاله فيعود النشاط الثوري من جديد.

يسعدني أن أخبركم أن مرحلة استفزاز الناس قد انتهت، وأنه لا أحد في المدى القريب سيتكلم مع الشعب بغير لسان الأدب والذوق والاحترام (هل تتذكرون أن الجيش اعتذر في أسلوب درامي جديد ومبتكر: رصيدنا لديكم يسمح؟!)، إن هذا الخطاب الناعم مما يؤدي إلى تراجع الزخم الثوري. أضف إلى هذا أن ما تم تحقيقه من أهداف الثورة يساهم في تفتيت الإجماع حول استمرار الزخم الثوري، فمنذ جمعة النصر وكل جمعة في ميدان التحرير أقل من سابقتها في الأعداد.. ينبغي ألا يغتر أحد بأنه يستطيع أن يجمع الناس ولا أن يفرقهم.

يسعدني أيضا أن أخبركم بحقيقة نحب أن نتغافل عنها: تلك هي أن الثوار لم يستطيعوا أن يتوافقوا في أي لحظة على قيادة تمثل الثورة، ولا في ذروة التوحد والحماس.. ربما نختلف حول هذه النقطة: سلبية أم إيجابية، غير أني أظن أننا سنتفق أن توافقهم الآن نوع من المستحيل!

وعلى هذا فإن قوة الشعب تتفتت وتذوب، فيما تبقى قوة الجيش كما هي لأن طبيعة المؤسسة تجعل الأمر أسهل؛ قيادة موحدة، أوامر لا تقبل النقاش، تنفيذ لا يفكر في التراجع.

إذا لم يُنجز الشعب أهم تحولاته في أثناء الزخم الثوري، فإن الزخم الثوري سيتراجع لتكون هذه التحولات بيد القوى الباقية المتماسكة.. قوة الجيش، ولا شك أيضا: قوة الخارج (ما الذي يجعل بعض الناس يتخيلون أن الخارج يقف متفرجا؟!!).

لا بأس أن يثق بعض الناس في الجيش، لكن من حق الذين لا يثقون أن يصيبهم التخوف من ألا يعود الجيش إلى ثكناته مثلما حدث في 1954 على سبيل المثال! وحينها نكون قد عدنا إلى النقطة صفر.. لكن، دعنا من الثقة لنتحدث عن الاتفاق القائم على أن الجيش يجب أن يعود إلى الثكنات لحساب سلطة مدنية منتخبة.

ربما ينبغي أن نتفق أيضا على أن الجيش لا يعمل "ديليفري" اقتراحات، فنحن الآن في عصر الاقتراحات: إعلان دستوري مؤقت، رئاسية قبل البرلمانية، مجلس رئاسي من ثلاثة أو خمسة أو أكثر من ذلك أو أقل، مد الفترة الانتقالية لتكون سنة أو اثنين أو أكثر أو أقل، وتحت كل اقتراح من هذه الاقتراحات عشرات ومئات من آليات التنفيذ المقترحة –أيضا- لضمان خروج الاقتراح بصورة أفضل.

الإدراك بأن الجيش لا يعمل في توصيل الاقتراحات، كما أنه ليس "بابا أو ماما" لكي نمارس عليه –في دلال- كل هذه الاقتراحات مفترضين أن يسعى بكل الطرق لإرضاء جميع الأبناء كما تفعل الأم الحنون.. الإدراك بهذا يجعلنا نسارع لأن ندير حياتنا المدنية بأنفسنا في أسرع وقت، وإلا فنحن أمام احتمال قائم أن يقرر الجيش البقاء في الحكم.. ولا يحسن بأحد أن يتفاجأ ولا أن ينتفض غضبا ويصرخ: بأننا سنثور مرة أخرى. ذلك أنه من دروس التاريخ أن الجيل الواحد لا يقوم بثورتين، كما أن عليه أن يتذكر مثال عمر مكرم الذي لم يستطع أن يفعل شيئا أمام استبداد محمد علي رغم أن عمر مكرم هو الذي وضع محمد علي في حكم مصر بعد ثورة على الوالي العثماني خورشيد باشا ورغما عن إرادة الباب العالي، وكذلك مثال سعد زغلول الذي لم يستطع أن يشعل ثورة بعدما فشل في مفاوضاته مع الإنجليز، ومثال مصطفى النحاس الذي لم يستطع أن يشعل ثورة أمام عبد الناصر، ولا الإخوان المسلمون أمام عبد الناصر أيضا (هل نعيد مشهد عبد القادر عودة الذي صرف المتظاهرين بإشارة من يده ثم لم يستطع أن يتظاهر واحد فقط ضد إعدامه؟!!!).. لن نكون أكثر وطنية من هؤلاء جميعا، وهم الذين تمتعوا بشعبيات هائلة وتنظيمات جيدة ثم انهزموا جميعا حين انسحب المد الثوري من حولهم فواجهوا السلطة منفردين.. فسحقتهم.

إن الدنيا حلوة خضرة، وإن كرسي السلطة ساحر جبار، وقديما قالت العرب: المُلك عقيم، يقتل الرجل ولده أو أباه أو أخاه في سبيل الملك.. والحمد لله، لست أظن أحدا من القراء يرى أن الجيش المصري مجموعة من الملائكة.

وعليه.. فيجب أن ننجز هذه التحولات المهمة في ظل المد الثوري القائم.

في كل المقالات التي قرأتها لمن يرفض التعديلات الدستورية رأيت حالة من حالات البلاغة الأدبية التي هبطت فجأة على "المحللين السياسيين" وكثرت في كتاباتهم الألفاظ العاطفية عن الدستور القديم والشرعية الدستورية والحياة الحزبية، وكلها تريد أن تقول إننا لا نريد تعديلات دستورية بل نريد دستورا جديدا..

حسنا.. لدينا أيضا اختيارات محددة في أرض الواقع: إما أن تضع هذا الدستور جمعية تأسيسية تأتي بالتعيين أو تأتي بالانتخاب. فإذا كان المستشار طارق البشري –وهو أحد العلامات المصرية- واجه اعتراضات على اختياره واختيار لجنته التي ستعدل مواد محددة لفترة مؤقتة.. فكيف إذا اختار المجلس العسكري جمعية تأسيسية تضع دستورا كاملا دائما؟؟؟ هل يمكن أن يحصل هؤلاء على التوافق فضلا عن الإجماع؟؟

الأحسن والأحسم للمشكلات والنزاعات أن تأتي هذه الجمعية عبر الانتخاب.. ولهذا فنجن –في هذه اللحظة- لا نحتاج إلا إلى ضمانات للانتخابات النزيهة.. ولقد قامت التعديلات الدستورية بهذا على خير وجه، وجعلت الإشراف القضائي كاملا.

حسنا.. فإذا تمت هذه الخطوة جاءنا مجلس منتخب يعبر بأفضل ما يمكن عن اختيار الشعب المصري، ثم لينظر هذا المجلس في تشكيل جمعية تأسيسية منتخبة منه ومن خارجه (كما تلزمه التعديلات) تضع دستورا دائما خاليا من كل العيوب التي يراها من لا يوافق على التعديلات التي تمت.. هل في هذا ما يضير؟

ثم ينبغي أن تأتي انتخابات برلمانية قبل الرئاسية، كي يكون الرئيس مستندا إلى برلمان يعبر عن قوة الشعب لا مستندا إلى قوة الجيش، ولكي يكون موضوعا تحت رقابة برلمان سابق على مجيئه ولا دخل له فيه لا مشاركا هو في صناعة برلمان بما له من صلاحيات واسعة باقية من الدستور القديم، ولكي نشعر بالاطمئنان حين تتم انتخابات البرلمان في زخم ثوري حر بلا رئيس لا أن تتم بعد ذبول هذا الزخم الثوري في ظل رئيس جلس على كرسي السلطة.

إن من يخافون أن يأتي البرلمان بالحزب الوطني من جديد (وأحسبهم مبالغون أو مغرضون) لعدم استعداد الأحزاب ولقلة الوعي الشعبي ولانتشار العصبيات (وهذه وصاية على الشعب واستعلاء لا أقبله).. هؤلاء الذين يدفعهم هذا الخوف للمناداة بإجراء انتخابات رئاسية أولا، يجب عليهم أن يخافوا أكثر من الانتخابات الرئاسية، لأنها قد تأتي لهم –إذا وافقناهم على كلامهم- بصفوت الشريف وفتحي سرور وجمال مبارك.. أو عمرو موسي!.. وحينها نكون قد ذبحنا الثورة من الوريد إلى الوريد.

فإذا كانوا يراهنون على تكتل كل القوى الوطنية خلف المرشح المناهض للوطني والطاهر الثياب من آثار النظام.. فلماذا لا يتكتلون في الانتخابات البرلمانية وراء مرشحي المعارضة والمستقلين؟؟ (تذكروا أن الحزب الوطني في ذروة السطوة والنفوذ لم يحصل على أغلبية في انتخابات منقوصة النزاهة.. كما تذكروا أيضا أن مرشحي العصبيات والقبليات ولاؤهم الأول لقبائلهم وعائلاتهم لا للحزب الوطني ولا لغيره).

إن إجراء انتخابات برلمانية قبل الرئاسية يحقق أفضل ما يمكن من توازن القوى، هذا إذا لم يتكتلوا أساسا في قوائم تنسيقية فيما بينهم.

إن الخوف –كل الخوف- الآن من أن يتم تأجيل موعد الاستفتاء، هنا يتبخر أول استحقاق وَعَد به الجيش، ولا ضمانة أن يكون ما بعده من الوعود خيرا منه، ولا شك أيضا أن التنصل من هذا الاستحقاق سيتم تحت عناوين الرغبة الشعبية والحالة الأمنية والحفاظ على الثورة .. وكل هذه المعاذير.. هذا هو الخوف الأعظم الذي يظهر في الأفق.

لكن، إذا تم الاستفتاء.. فلماذا يُقال: لا.

أستطيع أن أتفهم هذا الموقف لو أن صاحبه أعطاني ضمانات على قدرته على فعل الأفضل من ضمن الخيارات المتاحة، وأؤكد: قدرته على الفعل لا على الاستمرار في مناشدة الجيش، ولنكن صرحاء لنؤكد مرة أخرى على: قدرته هو، لننسى الآن أن "الشعب يريد".. لقد تفرقت الجموع.

لأنني أثق في الشعب.. لا في أحد غير الشعب.. أريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه.. في أقرب فرصة وفي أسرع وقت.. لأجل هذا سأقول "نعم" للتعديلات الدستورية.

الثلاثاء، مارس 08، 2011

للوطن لا لأحد: الانتخابات البرلمانية قبل الرئاسية

لم تغير الثورة كل الناس، ظل بعض المتجمدين على نفس حالهم..

المنافقون –وهم الحالة الأبرز والأغرب- أثبتوا أنهم أكثر قدرة على التلون مما تخيلنا حين انقلبوا في لحظات من النقيض إلى نقيضه دون شعور بالخجل، بل إنهم ادعوا أن لهم تاريخا مع الثورة!! ترى كيف يمكن لأحد من الناس أن يكذب على قوم وهو يعرف أنهم يعرفون أنه يكذب؟!!

والطائفيون لا يريدون أن يصدقوا أن أياد ما لها مصلحة في إشعال الطائفية، حتى بعد أن صارت تصريحات الإسرائيليين علنية، بل حتى بعد أن نشرت وثائق تثبت أن "أمن الدولة" كان هو الراعي الرسمي للطائفية، وهم بدلا من أن يعيدوا التفكير وتوجيه الطاقات في مسارها، يظلون على حالهم القديم.

كذلك كثير ممن اعتنقوا فكرة "الإصلاح يبدأ من داخل النفس"، وعملوا سنين كثيرة بوحي من هذه القناعة فمن ثَمَّ اكتسبوا قناعة جديدة مفادها أننا شعب "مريض، طائفي، متعصب، عدواني، فاسد... إلخ". هؤلاء بدورهم ما زالوا لا يصدقون أن الشعب استطاع صناعة ثورة راقية نظيفة ومنظمة ولو أنها بلا قيادة مادية ملموسة.. كان من المثير للاشمئزاز أن أرى بعضهم يقلب عن خبر ضد الثورة ثم يسارع بنشره ليثبت أن المجتمع ما زال مريضا وأن الثورة بدورها ثورة مريضة تمارس الفساد نفسه من الإقصاء والعدوانية واللاعقلانية و... إلخ.

كذلك فريق من السلفيين ممن ظنوا أن الثورة حرام شرعا، وأن ولي الأمر ينبغي أن يظل ولي الأمر ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك، ولو قُتلت النساء وسُبيت الذرية.. أحدهم –وهو معروف بتعامله مع أمن الدولة- اعتبر فرحة المصريين بثورتهم كفرحة الزوج العقيم بحمل امرأته من الزنا!!

***

إلا أن خطر كل هؤلاء لا يساوي خطر "النخبة المثقفة" التي ترفض أن تتغير أيضا، وهي تعاني نفس حالة الجمود التي لا تسمح لها برؤية ما هو جديد في المشهد!

بعض هذه النخبة المثقفة لم ير في الثورة إلا الخطر من الإسلاميين!! ورغم أن قداسا أقيم قبل خطبة القرضاوي بدقائق إلا أن المأتم اشتعل لأن القرضاوي خطب ولم يلفت القداس نظر أحد!! لا على سبيل الخوف من عودة الدولة الدينية (المسيحية) ولا حتى على سبيل الخوف من انهيار بناء الوحدة الوطنية بانقسام المنصة إلى قداس ثم خطبة.. إن الذين تشكلت عقولهم بالإسلاموفوبيا لم يستطيعوا إلا رؤية خطبة القرضاوي التي تطورت إلى عودة الخميني ثم تطورت إلى حرس القرضاوي الذي منع وائل غنيم.. لا حبا في وائل غنيم ولكن كرها في القرضاوي!

ثم سافر القرضاوي إلى قطر وانتهت مخاوف عودة الخميني، فبدأت المخاوف من أن الانتخابات البرلمانية قبل فترة استعداد كافية ستأتي بالإخوان إلى البرلمان، وببقايا الحزب الوطني القديم.. فمن ثم بدا وكأنها حملة (إي والله وكأنها حملة) لجعل الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية.

ليس عيبا أن نختلف في الأولويات، إنما العيب أن يقال بوضوح "لا أريد انتخابات لأنني غير مستعد، أو لأن فلانا أكثر استعدادا"، كأن العيب الآن أن الإخوان كانوا مستعدين، وأنهم عاشوا السنين ينحتون في الصخور ويعملون في المناخ الرهيب فاستطاعوا أن يكونوا أكثر جاهزية وقدرة على خوض أي انتخابات.. إن من المثير أن يقوم الكسول بفرض الشروط، فينعم بالأمن والرخاء وقت الشدة ثم يطلب فرصة للعمل وقت أن جاء الاختبار.

لكن، قد نتجاوز هذا أيضا.. إنما ما لا يمكن أن نتجاوزه هو أن يكون البديل هو استمرار المجلس العسكري في الحكم، والحكم مفسدة أي مفسدة! أو إجراء انتخابات رئاسية أولا، مع ما للرئيس من سلطات في الدستور المعطل، وهو ما يساهم في صناعة فرعون جديد.

في حديثه لمنى الشاذلي قال المستشار طارق البشري بأن (500) فرد منتخب في حالة ثورية يستلمون مهمة وضع الدستور هم أكثر ضمانا وأمانا وتعبيرا عن رغبات الشعب من أن يستلم هذه المهمة فرد واحد! كذلك فإن تأخير الانتخابات البرلمانية وتقديم الرئاسية يحمل مخاطر تدخلات الرئيس في القرارات والقوانين بما فيها المنظمة للانتخابات التي ستأتي بالمجلس الذي يستلم مهمة وضع الدستور، كما أن المجلس الذي يتحرك بلا رئيس هو أكثر تحررا وانطلاقا من المجلس الذي يتحرك في وجود رئيس يملك سلطات وصلاحيات.

المعادلة بسيطة لكنها لا تقنع أحدا من "النخبة المثقفة" التي ما زالت تتخوف من "الإخوان، وبقايا الحزب الوطني".

ووقفة مع بقايا الحزب الوطني..

فهذه الجملة لا توضع إلا لكي تعطي شكلا من الحياد للمتحدث، في حين يعرف الجميع أن الحزب الوطني ليس تنظيما شعبيا، أو هو كما يقال "ليس الحزب الحاكم، بل حزب الحاكم"، وقد تلقى الحزب ضربة قاسية بانتهاء حسني مبارك وقيادات نظامه، ثم إن هذا الحزب نفسه لم يكن يحصل على الأغلبية حتى في ظل مبارك وفي انتخابات غير متكافئة، وهو نفس الحزب الذي يحظى بكراهية واسعة من الناس مما يجعل وصوله في هذه الظروف الثورية إلى المجلس مستحيلا.. حتى القيادات القبلية والعصبيات لا خوف منها لأنها لم تكن تعبيرا عن الحزب الوطني بقدر ما هي تعبير حقيقي عن مصالح العائلة والقبيلة.. ثم لنقل –جدلا- بأن الناس يريدون الحزب الوطني وأنهم لا يقبلون ثورتنا هذه.. إن من أحكام الديمقراطية –التي يدعي الجميع الإيمان بها- أن ننزل عند رغبة الناس وأن نعتبر ثورتنا خطيئة في المسار الوطني. طالما أن الناس يرون هذا فليتحملوا نتيجة اختياراتهم!

لكن واقع الحال ليس الخوف من الحزب الوطني، بل من الإسلاميين، لا سيما وأنهم لم يعودوا الإخوان فقط بل انضافت إليهم تيارات من السلفيين (الذين لم يتجمدوا عند مواقفهم القديمة كما فعلت "النخبة المثقفة").. وتظل الحجة دائما هي الخوف على مكتسبات الثورة!!

إن "النخبة المثقفة" ما زالت تعاني من الجمود.. لم تغير الثورة من أفكارهم، وهم في الحقيقة بين احتمالين لا أكاد أرى لهما ثالثا:

1. إما أنهم يرفضون الاعتراف بأنهم يمثلون شريحة واسعة من الشعب، وبأن الغالبية الساحقة منهم كانت تعيش وتتعيش بمدد من النظام الديكتاتوري البائد، فتكتب في صحافته وتظهر على شاشاته وقد يكون لها أحزاب.. وكل هذا المشهد التجميلي للنظام القبيح. ومن ثم فهم يتخوفون من اختيار شعبي حقيقي يعرفون أنه لن يكون لصالحهم.

2. وإما أنهم ما زالوا يرون أن الشعب غير ناضج وغير مؤهل للديمقراطية وغير قادر على اختيار الأصح وحده، ومن ثم فهو ما زال يحتاج إلى الوصاية الأبوية الثقافية التي تمنعه أن يلقي بنفسه إلى التهلكة. وهم من أجل ألا تكون هذه التهلكة إسلامية فإنهم يقبلون أن تكون تهلكة عسكرية (ولطالما صدعونا بالدولة المدنية) أو تهلكة استبدادية رئاسية (ولطالما صدعونا بالنظام البرلماني).

هم في كلا الحالتين لم يستفيدوا من الدرس، وظلوا على جمودهم القديم.. حتى حين قدم الإخوان تنازلا –تحت ضغط الابتزاز- بأنهم لن يترشحوا إلا على 30% من المقاعد كضمانة يطمئنون بها الخائفين، أو غير المستعدين (!!)، ويثبتون بها –لمرة أخرى- أنهم يقدمون مصلحة الوطن في الانتقال السريع إلى سلطة مدنية منتخبة تكون نواة استقرار ديمقراطي على مصلحتهم الشخصية العاجلة في الفوز بأغلبية في المجلس الذي سيضع الدستور.

وعلى هذا، فمن الذي يُتهم بأنه يريد ديمقراطية على مقاسه؟

لسان حالهم ما قال الشاعر علي الجارم عن رجل ثقيل الظل:

لو كان من قوم نوح ... لما ركبت السفينة!

الثلاثاء، مارس 01، 2011

ربما تكون وصية مودع، الجيش يلعب بالشعب

إني أقول لنفسي وهي ضيقة ... وقد أناخ عليها الدهر بالعجب

سيفتح الله عن قرب بنافعة ... فيها لمثلك راحات من التعب

(علي بن أبي طالب)

***

لست أثق في الجيش لإدارة المرحلة الانتقالية، وفقدان الثقة هذا يزيد في كل يوم، وقد بلغ الحال أني لا أستطيع النوم هذه الأيام من شدة القلق.. ربما كنت متشائما، لكنني في هذه السطور أعدكم أني لن أذكر تخوفات وإنما الحقائق المعروفة لكم جميعا.. وهي حقائق يحب البعض أن ينساها، ويحب البعض أن يثير الغبار عليها، ولست أتذكر الآن من الذي قال "أحيانا تكون المهمة أن تعيد التذكير بأن الشمس تشرق من الشرق"!!

الجيش –في أحسن الأحوال، وبنسيان كل شيء- مؤسسة مجهولة، وهم –كما هو معروف طبعا!- مجموعة من البشر، ليسوا فوق مستوى الشبهات، وبالتالي فادعاء الملائكية ساقط، والعشق غير المبرر للجيش وكأنه "الساحرة الطيبة" يعبر عن طفولية أو سذاجة أو محاولة للهروب من الواقع إلى الخيال.

وحيث أنهم بشر، وبفرض ضمان الوطنية الكاملة في كل الأفراد، فالخطأ في التصرف قائم ومحتمل في كل البشر، ولا أحد معصوم من الخطأ، ولهذا توصل البشر إلى فكرة الشفافية والرقابة الشعبية حتى يتجنبوا الهوى الذي يسكن كل البشر، والانحراف الذي لم يُعصم منه أحد.. وألزموا الحكام بأن يعملوا في النور.. ولم يعد أحد يحترم نفسه في هذا العالم يقبل بأن يحكمه الحاكم بمنطق الأب الذي يجب على الابن أن يثق فيه ويفوض إليه كل مصالحه ولا يسأله عما يفعل!!

إن أي عمل لا يتم في النور وتحت رقابة شعبية مثير للقلق.. وهذا هو الحال الآن مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. فهو يُصَرِّف البلاد ويتعامل مع الداخل والخارج دون أن يعلم المصريون أي شيء عن هذا الذي يتم في بلادهم، وهنا.. ليس من حق أحد أن يحدثنا عن الثقة التي يجب أن تسكننا لأن البلد في "يد أمينة".. هكذا قيل لنا من قبل!

من الحقائق أيضا أن المجلس الأعلى كان جزءا من النظام البائد، هذه حقيقة واضحة لا نحتاج أن نناقشها، لكن هل كان المشير مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه؟ أم أنه كان كغيره من أبناء النظام؟ هذا ما لا نعرفه على وجه التأكيد، فلا يملك الاطلاع على الصدور إلا الله.. كما أننا لا نحكم على أحد إلا بالأفعال.. ولمرة أخرى: بعيدا عن الأفعال لا نريد من أحد أن يستخدم مفردات الثقة والتطمين.

ربما لا يعرف كثير من الناس أن سعد زغلول قبل ثورة 1919 كان محسوبا على القوى الموالية للاحتلال الإنجليزي وكانت مواقفه البرلمانية غير وطنية بالمرة، يمكن للقاريء أن يُحهد نفسه قليلا في مطالعة تاريخ الرافعي، وهذا التاريخ لسعد فيما قبل الثورة هو الدليل القوي الذي يملكه من يتحدث عن أن سعد زغلول قتل ثورة 1919 عمدا وبالتنسيق مع الإنجليز من خلال إدخالها في نفق المفاوضات.

لا أحب الآن خوض حديث في التاريخ، إنما الخلاصة المقصودة أن مطالعة تاريخ الشخص قبل اللحظات الفاصلة مهم في تفسير مواقفه فيها وبعدها.. وما نملكه من حقائق يشير إلى أن المشير ومجلسه العسكري لم يحاولوا التمرد على حسني مبارك، ولم يظهر منهم انحياز للشعب طوال الثلاثين عاما الماضية التي أفرزت هذه "المطالب المشروعة" باعترافهم أنفسهم، ولا حتى في أمر المحاكمات العسكرية للمدنيين.. ومن غير الطبيعي، أو دعنا نتهذب ونستخدم لفظا أكثر أدبا فنقول: ليس من الحكمة وضع مصير الثورة في أيديهم وحدهم!

لكن.. هل حقا إن الجيش مؤسسة مجهولة بالنسبة للمصريين؟

الحقيقة –أيضا، ولمرة أخرى، ولن أسأم من تكرار هذه اللفظة- أنه لا يكاد يوجد بيت في مصر إلا وخدم بعض أفراده في الجيش، فالجيش هو المعروف المسكوت عنه، الذي يعرفه المصريون لكنهم لا يناقشونه لا في صحافة ولا في إعلام.

فلماذا يحاول البعض الآن تسويق الصورة الملائكية للجيش وكأنه نزل من السماء على براق؟؟

إن لدى كل بيت قصة أو قصص عن الفساد وإهدار المال والتسلط غير الإنساني الذي يمارسه الرئيس على المرؤوس، والرعب الذي يتضاعف كلما زادت الفجوة بين الرتب.. إذا كانت المؤسسات المدنية التي تتسلط عليها الصحف والفضائيات بهذا القدر من الفساد فكيف يكون الحال في مؤسسة يعد الحديث عنها خطا أحمر؟!!.. كارثة، أليس كذلك؟

كثيرون جدا، وإن كانوا بدأوا يتناقصون والحمد لله، يحاولون ألا يفكروا في احتمال أن يسرق الجيش ثورة الشعب، ذلك أنه احتمال مخيف وكارثي.. لكن منذ متى كان التغاضي عن الشيء ينفيه أو يعالجه؟ أحسب أنه لا يوجد عاقل –فضلا عن أصحاب ثورة- يتغافل بإراداته عن الشيء الذي لا يحب له أن يحدث، أو أن يفقد ذاكرته بنفسه.

من الحقائق أيضا أن انقلاب 23 يوليو كان انقلابا عسكريا، إنني أراه كارثة وقعت لهذه البلاد، كارثة أدخلتها تحت حكم فردي عسكري ديكتاتوري، لكن.. لئن اختلفت معي حول وطنية أو علاقات عبد الناصر، فأظنك لن تختلف معي حول أنه أدار البلد بالديكتاتورية التي أحلت قيادات عسكرية على رأس المؤسسات العلمية والتعليمية والصناعية وغيرها، كما أنه خالف وعده بتسليم السلطة إلى مدنيين.. أي أن الجيش ليس ملائكيا ولا منزها على الخطأ ولا هو فوق المساءلة والحساب.

كذلك فإن من الحقائق القريبة أن موقف الجيش من هذه الثورة لم يكن نقيا ولا خالصا، بل نستطيع أن نعدد المواقف التي كان الشعب فيها ضد الثورة:

1. معركة البلطجية: حيث التزم الجيش "الحياد السلبي"، وهو لفظ إخباري محايد، ومعناه في عالم البشر الوقوف متفرجا أمام قاتل مسلح يقتل الضحية الأعزل.. هل في هذا شك؟!

2. مصادرة الأغذية والأدوية في وقائع ثابتة حين تدفقت على ميدان التحرير بعد معارك البلطجية، أو الوقوف متفرجا على مصادرة البلطجية لهذه الأدوية والأغذية على بعد أمتار من الجيش الذي مارس لمرة أخرى "الحياد السلبي".. ياله من لفظ مهذب!!

3. اعتقال بعض النشطاء وتعذيبهم، وهو ما قالته تقارير لمنظمات حقوقية، ونفاه الجيش بإصرار.. كنا نتمنى أن نصدق الجيش لولا أن بعض النشطاء الذين نعرفهم كان من بين هؤلاء المعتقلين والمعذبين!

4. محاولة الجيش أكثر من مرة إنهاء الاعتصام، من خلال زيارتين للمشير نفسه، وبعض الكلمات لقيادة الجيش، لن أنسى أن قائد المنطقة المركزية الوسطى وقف وقال للمتظاهرين: "في ناس بتاجر بيكم" طالبا منهم الانصراف لولا هذا الإصرار من المعتصمين.

5. ثم هذا الفض الأخير لاعتصام الجمعة ليلا، وهو الذي لا تفهمه بشكل أدق إلا إذا قرأت لشهود العيان، وكلما كانت الشهادات التي قرأتها أكثر تكون الصورة لديك أوضح، إن ثمة مشاهد مما حدث خطيرة بالفعل وأخطرها ليس استخدام القوة والضرب بالعصي المكهربة بل اعتبار المعتصمين من الخونة وأعداء البلد!!!

لا أقول أن هذا هو موقف الجيش من الثورة، إنما أشدد على ضرورة ألا ننسى هذه الحقائق حين نحلل موقف الجيش، وندخل في موال عشق درامي.

شخصيا، لم أثق بالجيش أبدا، إلا أنه مرت علي فترة انخدعت فيها بحديث من التقوا بالجيش ممن يوثق فيهم مثل بلال فضل وضياء رشوان وإبراهيم عيسى، كذلك ما كانت تكتبه وتصر عليه نوارة نجم (وتحيل قناعاتها لوثائق ويكيليكس التي ترجمتها)، ثم بعض خطوات وإجراءات أهمها اختيار طارق البشري لرئاسة لجنة تعديل الدستور..

إلا أنه يجب ألا ننسى أن جمال عبد الناصر من قبل قد خدع عبد القادر عودة وحسن الهضيبي وحسن العشماوي وغيرهم من قيادات الإخوان، رغم أن هذه الأسماء الثلاثة من العقليات القانونية المرموقة والعالية.. ويجب أن لا نعتمد إلا على ما نراه بأعيننا.

دعونا لا ننسى أيضا أن النوادي العسكرية ما زالت تمنع الملتحين والمنقبات من دخولها أصلا؟

دعونا لا ننسى أيضا أن الحصار الوحشي على غزة ما زال مستمرا، وهو حصار غير مقبول لأنه ينتهك حقوق الناس في الحياة والطعام والعلاج، بعيدا عن كونهم عربا أو مسلمين أو محتلين.. إنها جريمة في حق الإنسان.

ويتعلق بهذا أيضا مسألة المعتقلين الفلسطينين في السجون المصرية، وهم الذين اعتقلوا بغير محاكمات، وقد دخلوا إضرابا عن الطعام منذ أيام، ويتحدثون عن استمرار التعذيب كما كان أو أشد.. والسؤال الواضح البسيط: لماذا نعتقل أصلا، ولماذا نعذب أصلا، وما هو المعقد في الإفراج عن هؤلاء الذين اجتمعت عليهم هموم الدنيا فلا عدوهم يرحمهم ولا شقيقهم يشفق عليهم؟!!!

وما الذي يعطل المجلس الأعلى من الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وبالضرورة عن الذين أخطأ الجيش في حقهم حين سجنهم بأحكام عسكرية.. لعله من الواضح الآن أن هؤلاء المسجونين هم الرواد الأوائل للتغيير، قبل أن يكون الإعلام والفضائيات والانترنت والفيس بوك، وهم الذين تحملوا بطش النظام أيام كانوا قلة ولا بواكي لهم.. إن هؤلاء هم جذور هذه الثورة، فما الذي يعطل الإفراج عنهم، ما هو المطلوب من المظلوم حتى يُرفع الظلم عنه، ما الذي ينتظره المجلس الأعلى أمام هذا المطلب؟

وسؤال آخر: لحساب من يعمل جهاز أمن الدولة الآن؟

إن كان يعمل لحساب النظام البائد فهو خطر على الشهب وعلى الجيش، وإن كان يعمل الآن لحساب الجيش فيجب علينا أن نخشى من الجيش نفسه.. كلا الاحتمالين مخيف، وكلاهما يستدعي الاستمرار في الثورة.

الخلاصة:

إذا كان الجيش وضع نفسه كالمتعهد والحامي لتنفيذ "مطالب الشعب المشروعة"، فإن من حقنا أن نسيئ الظن حين نراه مصرا على بقاء وجوه بعينها من النظام القديم يطالب الشعب برحيلها.. ولا حاجة للتعذر بضيق الوقت أو ضرورة التمهيد لكل قرار، إن خلع شفيق ومرعي ووجدي وأبو الغيط ليس أصعب من خلع مبارك وسليمان والشريف وسرور وعزمي (هذا إن كانوا قد خُلعوا فعلا، فكل الأمور ضبابية)..

وبمناسبة الضبابية ثمة موقفان لم أفهمهما، وإن كنت لا أعارضهما: وجود عضو إخواني في لجنة صياغة الدستور، ذلك أني أعرف أنه لا ود متبادل بين الجيش والإخوان، بل إن الشاب الإخواني يُحرم من الخدمة بالجيش أساسا، كذلك فإن السماح للشيخ محمد حسان بأن يخطب في مسجد النور القريب من الكاتدرائية غير مفهوم، ذلك أن محمد حسان نفسه ممنوع من دخول اي مكان تابع للقوات المسلحة حتى لو كان نادي لأنه "ملتح".. فلماذا؟!!! هل تخويف الأقباط أو الخارج داخل في الحسابات؟!!

الأمل..

في الحقيقة ينبغي هنا أن أسجل احتراما للمناضلين غير المتدينين، لا أدري من أين تأتيهم الطاقة النفسية التي يستمدها المؤمنون من أديانهم وثقتهم بالله، عن نفسي: ربما كنت قد انتحرت لولا أني أؤمن أن هذه الدنيا بيد الله، وتحت عين الله، ولا يحدث فيها شيء إلا بإرادة الله.. وأن الله يظل دائما الملجأ الأخير الذي نستمد منه الأمل، ويظل دائما القدرة المطلقة التي نؤمن بأنها تعلو على كل قدرة فنستمد منه الأمان.

لولا الإيمان بمثل هذه الآيات لكان بطن الأرض خيرا لنا من ظهرها (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، (ويُضِلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)، (ومكروا مكرًا، ومكرنا مكرًا، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم: أنا دمرناهم وقومهم أجمعين)، (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا)، (ألا إن نصر الله قريب)، (وما كان الله ليضيع أعمالكم)... وغيرها وغيرها.

لولا هذه الآيات التي تسكب الطمأنينة في القلب لكان الأمر كارثيا.. ومع تقديري لمن يستطيع أن يناضل دون أن يستمد طاقته من هذه الآيات إلا أنني أسأل الله أن ينعم عليهم بالإيمان، فالحياة –بعد كل شيء- إلى زوال.

ثم تظل الثقة بعد الله في هذا الشعب، وهو الشعب كسر التوقعات، فخرج فجأة، وقاوم ببسالة غير متوقعة، وظل ثابتا رغم الحرب الإعلامية والأمنية الرهيبة.. وأثبتت كثير من الوقائع أنه كان صابرا عن غير غفلة، متجاهلا عن غير جهل، منتظرا للحظة فلما جاءته لم يُفلتها.. هو إيمان بالإنسان، المخلوق الذي كرمه الله فجعله رافضا للظلم والذل والمهانة.

وأخيرا، أنصحك بقراءة هذه المدونة: ahmedsaed.blogspot.com

ولا أقول ثق بكل ما فيها، إنما فائدتها أنها تفتح الباب الذي لا يريد كثيرون فتخه، فإن أعجبك ما فيها فبها ونعمت، وإن لم يكن فلا أحسبك خسرت شيئا.