الاثنين، أكتوبر 23، 2023

معاناة تحت الحجاب

 

هذا عنوان بائس، لا أدري لماذا أعجبني فوضعته، رغم أنني كنت سأكتب عنوانا آخر يقول "المعاناة المكتومة المحجوبة"!

ولذلك، فإني أسارع بنداء القراء المتعاطفين مع النسوية أو المؤيدين لتحرر المرأة من الحجاب، أن يسارعوا بغلق هذه الصفحة، فإنها تتكلم عن موضوع آخر. لا أحب أن أكون مخادعًا ولا أن أسرق أنظار القراء!

أما الموضوع الذي أردت أن أتكلم عنه فقد احترت فيه قليلا! إن حمام الدم الذي يحدث في غزة يجعل كل كلام يبدو تافها وسخيفا، وكل صورة تنقل إلينا فنا من فنون المعاناة ونوعا من أنواع الألم.. وإذا تركت عقلك ثانية واحدة ليتخيل ماذا خلف هذه الصورة من المعاناة، فإنك تفتح على نفسك بابا من أبواب الجحيم.. ترى مقطعا فيه أمٌّ لا تتمالك أعصابها وهي ترى أولادها الثلاثة قتلى، فهي تتحير أيهم تقبِّله القبلة الأخيرة، وعلى أيهم تنادي أن يستيقظوا؟! هذا المشهد الحارق لا تشعر بلهيبه إلا بعض دقائق، فإذا تركت عقلك ليتخيل حياة هذه المرأة في كل يوم، فأنت أمام طوفان من الألم!

نشر باحث غزي -عالق خارج غزة- على قناته مراسلات بينه وبين زوجته: يدعوها فيه للبقاء في بيتهم شمال غزة، وعدم الاستجابة لمطالب النزوح! وقد وافقته زوجته على ذلك. لقد اختزت ذاكرة الفلسطيني –بما أضيف إليها من ذكريات الشام والعراق- أن التهجير نكبة أصعب، قال لها: معنى التهجير أن نتسول اللقمة، وأن يموت أولادنا من البرد في الخيام وأن نفقد بعض الأولاد في الطريق. وقد وافقته زوجته على هذا، لسبب بسيط آخر: أن جنوب غزة لم يسلم أيضا من القصف!! ثم اتفقا على البقاء

تأملت في هذا الحوار الذي يكسر قدرة أي كاتب على وصفه! وحاولت أن أعيش مشاعره ليوم واحد، أعايش كيف ينخلع قلبه مع كل قذيفة! ولما استيقظت صباح اليوم التالي وجدته ينشر على قناته أن زوجته وأبناءه الثلاثة وعائلة زوجته قد استشهدوا جميعا في قصف!!

  ماذا يمكن أن يقال في حال كهذا، وقد تبارى أصحاب الأقلام في توصيف المشهد؟! وأصلا: هل بقي للقلم منفعة في عصر الصورة والفيديو؟!!

إذن ينبغي للقلم أن يكتب في شيء لا تنقله الصورة!

وليس هذا بالشيء العسير أيضا.. فقضايانا حافلة بالمآسي المكتومة والمعاناة المحجوبة!

كنت قبل فترة قد انتهيت من قراءة مذكرات الأسير الفلسطيني القسامي حسن سلامة، ليست مذكرات بالمعنى المفهوم، فهذا الرجل قاد عمليات الثأر لاغتيال المهندس القسامي الأشهر: يحيى عياش، ثم اعتقل وهو في الخامسة والعشرين من عمره، كان ذلك في عام 1997م، ولا يزال سجينا، قضى في السجن أكثر من ربع قرن!

لكن المأساة لم تكن هنا، حتى هو لم يكتب مذكراته عن سجنه، بل كتبها عن الفترة التي قضاها في العزل الانفرادي فحسب.. ترى كم قضى؟ أكثر من ثلاثة عشر عاما!.. خمسة آلاف يوم في زنزانة انفرادية موحشة كالقبر! ولهذا جعل عنوان كتابه "خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ"!

وحيث قد اشترطت على نفسي أن أنقل معاناة مكتومة ومحجوبة، فلن أحدثكم عن حسن سلامة، وإنما سأدعوكم لقراءة كتابه، وهو متوفر على الانترنت للتحميل المجاني!

سأحدثكم هنا من مذكرات حسن سلامة عن أنواع من الناس، لن يستطيع أحد وصف معاناتهم، ولا حتى هم أنفسهم سيستطيعون، وذلك أنهم: فقدوا عقولهم!

في تلك الزنازين الانفرادية العميقة الغائرة التي لا يكاد يأبه لها أحد، ولا يكاد يسمع أحد عن معاناة الناس فيها، توجد فئة من هؤلاء..

تعرفون طبعا أننا نعيش في عصر الحضارة الغربية، والحضارة الغربية هي حضارة العلم، كل شيء فيها تحول إلى علم، حتى السجن صار علما، وحتى التعذيب صار علما.. وقد علمتنا الحضارة الغربية أن الحضارة لها ثمن ضروري، فلا بد من إزالة السكان الأصليين لإقامة المدن الحضارية الجميلة، ولا بد من قتل كثير من الناس لتوفير الحياة الرغدة للقليل منهم، وهكذا جرت فلسفة القتل والإبادة ومنحها ثوبا أخلاقيا ومنطقيا!

ما يهمنا الآن أن هذا العلم الذي بُنِيت به السجون، وأديرت به التحقيقات، وصُنِعت به وسائل التعذيب قد سحق بعض البشر حتى فقدوا عقولهم وخرجوا عن سويّتهم! وبهذا صارت حياتهم في السجون مستحيلة، لأنهم صاروا خطرا على بقية المساجين وعلى الشرطة والضباط أيضا.. فماذا نفعل؟!

يقول العلم: نبعث به إلى المستشفى أو المصحة النفسية!

ويقول السجان: بل نبعث به إلى الزنازين الانفرادية!

وهكذا سيق إلى الزنازين الانفرادية قومٌ كان ينبغي أن يكونوا تحت الرعاية الطبية والنفسية، وصار مطلوبا من هذا المريض أن يخدم نفسه، وهو أحيانا لا يقوى ولا يفهم ولا يدرك كيف يقضي حاجته وينظف نفسه!

وتلك الزنازين الانفرادية، كما وصفها الأسير حسن سلامة في مذكراته، ليست هي التي تتبادر صورتها إلى ذهنك، فتلك صورة رسمتها الأفلام والمسلسلات الأنيقة، إنها مقابر حقيقية، حافلة بالحشرات والفئران وأنواع الصراصير، مظلمة معتمة، لا خروج من الزنزانة ولا دخول إلا بتقييد اليدين والقدمين، وربما وضع قيد آخر يربط بين قيديْ اليدين والقدمين! بُنِيَت لـ "تأديب" المساجين، وعزل "الخطرين" منهم! ولذلك ينزلها عتاة المجرمين من زعماء المافيا وأصحاب الجرائم الخطيرة.

فتأمل واترك لخيالك العنان كي ينزل في هذه الزنازين من فقدوا عقولهم؟!

بعضهم لم يعد يتكلم ولا يسمع، وبعضهم لا يعرف عدوا من صديقا ولا يستطيع التفرقة بين مسجون وشرطي، وأحد هؤلاء استطاع يوما أن يتناول خشبة ففقأ –أو كاد يفقأ بها- عين سجين مثله! وبعضهم ألقى بماء ساخن على ممثل الصليب الأحمر إذ كان يزوره، فكاد يقتله!

وربما أرادت إدارة السجن أن تتلذذ، فإذا بها تضع أسيرا ممن لا زال يحتفظ بعقله، مع أسير ممن فقد عقله، للتنغيص عليهما معًا، فكان هذا الأول يجتهد لتنظيف الزنزانة وتنظيف أخيه، ومحاولة التفاهم معه، ثم هو بعد ذلك لا يأمن على نفسه منه، ولا يستطيع أن ينام لأنه لا يضمن ماذا سيُصنع به!

هذا والزنزانة ضيقة على الواحد وحده، فكيف إذا حُشِر فيها اثنان؟! ساعتها لا تصلح حتى للحركة!

فإذا سحبت خيالك من أجواء الزنزانة.. فاذهب به إلى أسرة هذا الأسير، وتخيل: كيف هي معاناة أبيه وأمه وإخوته؟! فلئن كانت أسرة المريض الذي فقد عقله تعيش عذابا وابنها تحت يدها أو هو في أحسن المستشفيات؟ فكيف تفعل أسرة هذا الذي فقد عقله، ثم هو في زنزانة العزل الانفرادي؟!!

تلك واحدة من أنواع المعاناة المحجوبة.. أو هي: معاناة تحت الحجاب!

 

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. غير معرف7:49 م

    يا الله 💔💔💔💔

    ردحذف