السبت، سبتمبر 03، 2022

في ذكرى تحرر أفغانستان: نظرة وعبرة

 


في الليلة الظلماء يُفتقد البدر، وفي زمن الهزيمة يُفتقد النصر..

وفي زمن هزائمنا المتتالية تألق هذا الشعب الأفغاني الباسل الصبور ألمع ما يكون التألق، فأنزل الإمبراطوريات الثلاث الكبرى من فوق عروشها: الإنجليز والروس ثم الأمريكان..

ولئن كان المسلم يفرح بالكلمة يقولها العدو المهزوم في كل وقت وعصر، فإن هذه الفرحة تتضاعف في زمن القهر والضعف، ولك أن تنظر في رئيس وزراء الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، هارولد ماكميلان، وهو يلخص تجربة بلاده فيقول: "القاعدة الأولى في السياسة: لا تغزو أفغانستان"[1].

وفي الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي هو الوحش الذي يسيطر على نصف العالم الشرقي، والذي لم يكن أحد يشك في سهولة ابتلاعه لأفغانستان، إذ بالأفغان يسحبون هذا الوحش من عليائه ليكتبوا الفصل الأهم في قصة نهايته، وحتى هذه اللحظة يرسم المُنَظِّر الروسي مصالح بلاده ومستقبلها اعتمادا على درس الهزيمة الروسية على يد الأفغان، يقول: "المنطق الجيوبولتيكي يُظهر أنه سيكون حتما على روسيا أن تعود إلى أفغانستان، على الرغم من أنه كان أفضل بكثير أن تعود في صورة حليف وفيّ، حامٍ وصديق، من أن تعود في صورة جلاد غليظ القلب، فوصول روسيا إلى البحار الدافئة يمكن التوصل إليه ليس فقط عن طريق الحرب الدامية، بل ومن خلال سلام عقلاني مفيد للمصالح الجيوبولتيكية لجميع الدول القارية"[2].

وهذا كيسنجر، ثعلب السياسة الأمريكية ودهقانها، يكتب في لحظة انتشاء، "تبين أن التحذيرات الأولية حول تاريخ أفغانستان بوصفها "مقبرة الإمبراطوريات" بلا أساس. فبعد عمل سريع قادتْه قوات أمريكية بريطانية وأفغانية حليفة تمَّت إطاحة الطالبان وإخراجه من السلطة"[3]، ومع أنه نسي الآخرين وهم كثير فلا أدري كيف لم يشعر بالحرج وهو يفخر بانتصار كهذا شارك فيه كل هؤلاء ضد حركة صغيرة فقيرة في بلد صغير فقير؟! المهم أن الله أبقاه حيا حتى رأى بعينيه فساد نبوءته وصحة سنة التاريخ، ليخرج الأمريكان من أفغانستان!

كان كيسنجر سيئ الحظ، وكان الحظ السيئ نصيب بريجينسكي، الذي شغل أيضا منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي، لقد مات بريجينسكي قبل أن يرى الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان، وكان قد كتب قبل موته يقول: "تمثلت العواقب بتدهور درامي مثير لمكانة أمريكا العالمية، وبتبدد تدريجي لمشروعية صدقية أمريكا على الصعيد الرئاسي، وبتضاؤل ذي شأن لتماهي حلفاء أمريكا الذاتي مع أمن أمريكا"[4].

منذ زيارته الأولى لأفغانستان، أحسَّ وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس بالإخفاق، وكتب في مذكراته يقول: "كان ذلك تذكيرا قاسيا لي بقدرتنا المحدودة على التنبؤ بالمستقبل، أو استشراف التبعات غير المقصودة لأفعالنا. كان ذلك ما جعلني حذرا للغاية حيال إرسال القوات المسلحة (الأمريكية) إلى أماكن جديدة"[5]، فهذا من فضل أفغانستان على هذه الأمة، لقد صار رئيس أقوى جيوش التاريخ حذرا من حروب أخرى بفعل ما لقيه على يد أولئك الطالبان! بل إنه اعتبر أن أي وزير دفاع أمريكي سينصح في المستقبل بإرسال قوات إلى الشرق الأوسط وآسيا، مجنونا يجب إخضاعه لفحص قواه العقلية!

إذن، هكذا أخفقت الحرب التي قال عنها الرئيس الأمريكي قبل أن تنطلق: "لا يمكن أن نفشل، فهذه الحرب مختلفة عن أي حرب أخرى في التاريخ"[6]، وهي التي احتشد لها من الجيوش والقوى والعملاء المحليين ما لم يحتشد مثله في التاريخ.. تبدد هذا كله في أرض الأفغان!

نعم، الشعور بلذة الانتصار وتذوق طعم التحرر هو من حاجات البشر، وهذه الحاجة تتضاعف عند الأمة المغلوبة، ولا يمكن توجيه اللوم لرجل أطال الجلوس إلى الطعام بعد شدة الجوع، أو أخذ يعب من الماء بعد طول ظمأ.

لكننا لا نملك ترف الوقوف طويلا لنتذوق طعم النصر، فإن التحديات التي تتبعه أثقل بكثير وأطول بكثير، إن التحرر هو غاية كل شعب محتل، ولكنه أيضا هو بداية كل شعب يطلب ألا يُحْتَلَّ مرة أخرى، ومثلما بذل الأفغان ثمنا عظيما قبل التحرر، فإنه ينتظرهم ثمنٌ أعظم بعد التحرر!

إن أفغانستان، مثل أمتنا، تقع في المنطقة الوسطى بين المشاريع الكثيرة المتحاربة والمتضاربة، من مزايا أمتنا العظيمة أننا نتوسط هذا العالم، ولو أن أمتنا كانت دولة واحدة فإنها تكون أقوى دول العالم بلا شك، إنها تسيطر على الموارد الكثيرة، وتسيطر على الممرات البرية، وعلى المضايق البحرية، ولا تستطيع أمة في هذا العالم أن تتواصل أو تتاجر مع أمة أخرى دون إذن هذه الأمة الإسلامية.

وهذا الموقع الخطير في قلب العالم، مثلما يعطينا قوة هائلة في لحظة القوة، فإنها يكون تحديا عظيما في لحظة الضعف، ومن ثمَّ فلا خيار، فإما أن تكون قويا، وإما أن تكون مسرحا يتحارب عليه الأقوياء من حولك!

وأفغانستان صورة مصغرة من هذا الوضع، إنها تقع دائما في قلب الأحلام والخطط والمشروعات الأمريكية والروسية والصينية والهندية والإيرانية، وهذا يجعلها دائما في قلب الخطر، ويجعلها دائما في حاجة لكل طاقة ومجهود في أي مجال! ذلك كله يلقي عبئا كبيرا على الإمارة الإسلامية التي ستحتاج إلى إدارة الكثير من المعارك المتضاربة، وإدارة القليل من الموارد الموجودة، لتحقق أفضل النتائج!

إن الشعب الذي أسقط القوى العظمى من عروشها، ببسالة وصمود منقطع النظير، بقي أمامه أن يثبت قدرته على النمو والنهوض في السِّلم، ربما لن يتجرأ أحد في المدى القريب لتكرار تجربة الغزو، ولكن التاريخ والسياسة مليئتان بالحمقى الذين يحبون أن يكرروا التجارب! أولئك الحمقى لا تردعهم التجارب ولا يقرؤون التاريخ عادة، ولهذا فهم حاجة إلى نوع آخر من الردع: ردع القوة الحاضرة القائمة!

هذه القوة الحاضرة القائمة لا تظهر إلا ببذل المجهود الأعظم في تقوية الدين والإيمان واليقين في الإسلام، فذلك هو ما يفجّر طاقة المرء وطاقة المجتمع فيجعله يبذل غاية وسعه وهو يرجو بذلك وجه الله واليوم الآخر! لا تستطيع الرواتب المجزية والأموال الكثيرة أن تستخرج من الإنسان كل طاقته مثلما يستخرجها الإيمان العظيم.

وهذه القوة الحاضرة القائمة لا تظهر إلا ببذل المجهود الأعظم في تلاحم الشعب الأفغاني، وإزالة ما عنده من أسباب الفرقة والانقسام، لقد كانت هذه الفرقة هي الثغرة الكبرى التي ينفذ منها العدو، وقد حقق بها الإنجليز والروس والأمريكان ما لم يكونوا يستطيعون تحقيق عُشْرِه بسلاحهم وعتادهم. ثمة مجهود ضخم يجب بذله في توثيق الروابط وتمتين العرى بين الأفغان، ثم بين الأفغان وإخوانهم من الشعوب الإسلامية: الأقرب فالأقرب. والتجربة الأفغانية شاهدة على أن قوة الترابط الإيماني قد وفَّرت للأفغان من الإمكانيات والفرص ما لم يكن يمكن بلوغ عُشْره لو انفرد أهل البلد بأنفسهم في مواجهة هذه القوى الكبرى.

ثم إن هذه القوة القائمة الحاضرة ستحتاج سياسة كبيرة ودقيقة في إنشاء العلاقات والتحالفات مع الدول المحيطة ثم الأقرب فالأقرب، كما ستحتاج مجهودا ضخما في نشر التعليم وبناء الاقتصاد والاهتمام بالبحث العلمي، البحث العلمي الذي ينصبُّ أول ما ينصبُّ على تصنيع السلاح، فإنه لا شيء أنفع للمسلم ولا لمجتمع المسلمين بعد قوة إيمانهم وترابطهم من قوة سلاحهم. هذه القوة هي التي تحيل الأمة من فريسة إلى ندٍّ وشريك، كما تحولها من ندٍّ وشريك إلى قوة مُهابة يُرتجى ودّها ويُبْتَغى التحالفُ معها!

هنئيا للأفغان البواسل ذكرى تحررهم، ونسأل الله أن نراهم في العام القادم وقد صاروا خطوات كبيرة على طريق التمكين والقوة.

نشر في مجلة الصمود، العدد 199

المجلة الرسمية الناطقة باسم الإمارة الإسلامية في أفغانستان



[1] أحمد موفق زيدان، صيف أفغانستان الطويل، ص6. والترجمة الحرفية للكلمة: "بني العزيز، ما دمت لا تغزو أفغانستان، فأنت في خير حال"، وهي موجهة من هارولد ماكميلان لخلفه في رئاسة الوزراء أليك دوغلاس هوم، بتاريخ أكتوبر 1963م.

[2] ألكسندر دوغين، أسس الجيوبولتيكا، ص217، باختصار. وأعاد التأكيد على هذا في ص410.

[3] هنري كيسنجر، النظام العالمي، ص311.

[4] زبيجنيو بريجينسكي، رؤية استراتيجية، ص85، باختصار.

[5] روبرت جيتس، الواجب، ص241.

[6] كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص117.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق