الأربعاء، أكتوبر 20، 2021

على هامش كلمة شيخ الأزهر في ذكرى المولد النبوي

وجدت أخيرا بضع دقائق استطعت فيها أن أستمع لكلمة شيخ الأزهر أحمد الطيب في احتفال المولد النبوي..

 وأحسب أن من استمع إلى الكلمة سيغلب على ظنه أنها كتبت في مكتب السيسي، لا في مكتب الطيب، فهي كلمة بائسة حتى بالنسبة لمواقف الطيب!

 أولها ثناء على النبي وصفاته، وأوسطها إدانة صريحة للحركات الإسلامية التي يسمونها "إرهابا وتطرفا"، وآخرها إدانة خجولة لصعود اليمين في أوروبا، وهي إدانة مبررة بأنهم إنما يتخذون "التطرف" ذريعة لأغراضهم!!

 ووقع في الكلمة خطأ خطير، أثير حوله غبار في أوساط المبغضين للأزهر، ذلك هو استدلال الطيب بكلمة منسوبة لجورج برنارد شو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة لا تثبت عنه، وأتذكر أني قضيت أياما طويلة قبل نحو 12 عاما لمحاولة التثبت منها فلم أجدها رغم شهرتها وانتشارها. ولا شك أن دسّ هذه الكلمة في خطاب يلقيه شيخ الأزهر هو إما غفلة وجهل واستهتار يستحق كاتب الكلمة العقوبة عليها، أو أنها محاولة لتوريط شيخ الأزهر في خطأ يُحسب عليه!

 وإذن، فعناصر الكلمة الرئيسية، ثم هذا الخطأ الفادح، هو ما يجعل الظن متجها نحو أن الذي كتبها واحد في مكتب السيسي.. فهي إلى لسان السيسي أقرب منها إلى لسان الطيب الذي لا يزال فيه بعض تعظيم للتراث!

 ثم ثارت الشجون، وما أكثر ما تثور..

 وتمدد بي الخيال نحو زمن سليمان القانوني، الذي كان أعظم ملك في عصره، ويبسط نفوذه على أوروبا وإفريقيا والجزيرة العربية، وتقاتل جيوشه وأساطيله في المحيطين والبحار الثلاثة والجهات الأربعة!!

 في ذلك الزمان.. أرسل سليمان القانوني داود باشا إلى مصر، وكان داود باشا -كما ينقل مؤرخ العصر ابن أبي السرور البكري- على هذه الصورة:

 "كان رجلا حليما، باذلا كريما، محبا للعلماء ... وكان محبا لمطالعة الكتب العربية، وجمع منها شيئا كثيرا، لأن غالب كتبة مصر كانوا يكتبون له مع كثرة شرائه لها أيضا، وكان محبا للفضلاء، الأئمة النبلاء، سوق العلم عنده رابح، وبالاشتغال إلى الترهات غير طامح. وإحسانه واصل إلى علماء مصر، والرخاء في زمنه موجود، والجور والظلم في دولته مفقود، والرعايا في دولته في الرفاهية وتسهيل الأرزاق من غير مشقة، فعليه الرحمة والرضوان مع توالي الزمان"

 تصور عزيزي القارئ التعيس الذي يعيش في زمن السيسي، الذي سرق الأحباش منه النيل، وسرق الأعراب منه الجزيرتين، ويعمل عبدا للروم وخادما.. تصور، ماذا فعل شيخ الأزهر مع داود باشا!!

 في ذلك العصر العثماني، وقف شيخ الأزهر السنباطي لينادي في داود باشا أن ولايته غير شرعية، وذلك أنه عبد، ولا يجوز أن يتولى العبد الولاية على الأحرار.. فغلى الدم في رأس داود باشا، وأراد أن يفتك بالشيخ.. فمن ذا الذي جعل نفسه سلطانا فوق السلطان؟ ومن ذا الذي يريد عزله وقد ولاه سليمان الذي هو أقوى ملك في عصره؟!!

 أراد داود أن يفتك بالشيخ السنباطي.. فماذا حصل؟!

 وقف جنود داود باشا له، مدافعين عن شيخ الأزهر، وقالوا له: هذا شيخ الإسلام الإمام!!!

 ولم يجد داود باشا إلا أن يرفع الشكوى لسليمان القانوني، لقد عجز والي مصر -ثاني أهم الديار العثمانية- أن يتصرف مع من يريد عزله من منصبه!!

 فكيف تصرف سليمان القانوني؟!!

 أرسل إلى الشيخ شكره، ومع الشكر رقعة فيها عتق داود باشا!!

 فأين السنباطي في جلالته ومهابته ومكانته، في عصر سليمان.. من أحمد الطيب في عصر السيسي؟!!

 ألم تر أن السيف يزري بقدره .. إذا قيل: السيف أمضى من العصا؟

 فإذا طاف في خيالك عزيزي القارئ التعيس الذي ابتلاه الله بالعيش في زمن السيسي أن ذلك إنما كان في زمن السلاطين الأتقياء.. فتعال أحدثك حديثا آخر عن الأزهر في زمن المماليك الأشقياء!!

 فبعد هذه الواقعة بحوالي القرن وثلث القرن، كانت قبضة العثمانيين قد ضعفت في مصر، وكان الذين يديرون الحكم عمليا هم المماليك.

 وقد وقع انقسام مملوكي شهير بين طائفتين منهم هما: القاسمية والفقارية، ووقع بينهم القتال، وحين انتصر القاسمية لم يجد فلول المماليك الفقارية إلا الجامع الأزهر يحتمون به.. فهرعوا إليه!!

 فماذا فعل العسكر المنتصرون؟

 هل أحرقوا الأزهر كما أحرق جنود السيسي مسجد رابعة؟!.. هل اقتحموه بأحذيتهم كما فعل عسكر السيسي في مسجد الفتح ومسجد النور بالعباسية؟!.. هل هدموه على رؤوس أهله كما فعل جند السيسي حين اعترض المسجد طريق كوبري أو طريق أراد إنشاءه؟!!

 لم يجرؤوا على شيء من هذا، بل خرجوا إلى الوالي العثماني -الممثل الشرعي للسلطة العثمانية الضعيفة- واستصدروا منه قرارا بمعاقبة هؤلاء الثلاثين الملتجئين للأزهر ونفيهم إلى دمياط أو قبرص

 (لا تتعجب، ففي ذلك الزمن كانت قبرص جزءا من بلاد المسلمين.. ولعلك تابعتَ القمة الثلاثية بين مصر وقبرص واليونان، عزيزي القارئ التعيس المبتلى بالعيش في عصر السيسي)

 في الأزهر وقف الشيوخ لحماية الملتجئين، وعلى رأسهم شيخ الأزهر سلطان المزاحي، هل تحدوا قرار السلطة؟!.. لا، بل أكثر.. لقد خرج شيخ الأزهر على رأس أربعة من المشايخ إلى الوالي إبراهيم باشا، وحمله على إصدار قرار العفو عن هؤلاء الملتجئين للأزهر، وأجبره على إسقاط فرمانه الذي أصدره بالأمس بنفي هؤلاء.. وقالوا له: حتى لو فُرِض أن هؤلاء وقعت منهم مخالفات فإن التوبة تمحوها؟!

 فماذا فعل الباشا العثماني؟

 مزق فرمانه القديم، وكتب فرمانا جديدا بالعفو، وكان في صدر قراره "امتثالا لما رآه السادة العلماء الفضلاء"

 فماذا فعل العسكر القاسمية المنتصرون؟!

 نزلوا كذلك على رغبة السادة العلماء الفضلاء، وامتثالا لهم.

 وبفضل هذه الهيبة التي كان يتمتع بها السادة العلماء الفضلاء عاد بعض المطاردين إلى مناصبهم بكامل رواتبهم وصلاحياتهم!!

 ذلك هو الزمن الذي قصده شوقي حين مدح شيوخ الأزهر فقال:

 كانوا أجلَّ من الملوك جلالة .. وأعز سلطانا وأفخم مظهرا

زمن المخاوف كان فيه جنابهم .. حرم الأمان وكان ظلهم الذرا

 عزيزي القارئ.. لئن كنت من جيلي، ودرست قصيدة شوقي هذه في المدرسة، فلا تستغرب أنك لم تقرأ هذيْن البيتيْن من قبل.. فلقد كانا محذوفين من القصيدة، ضمن عميلة إخصاء ذاكرتنا التاريخية وغيرتنا الدينية!!

 للمزيد:

https://t.me/melhamy/3702

 https://youtu.be/c4IRlQs9Pjw


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق