الأربعاء، أغسطس 05، 2020

الرحالات الحجازية: عالم من المتعة


من يقرؤون في بلادنا قلة، وهذا أمر مؤسف.. غير أن الأشد أسفا من ذلك أن هذه القلة القارئة ينصرف معظمها نحو قراءة الروايات والقصص والمواد الخفيفة اللطيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لا.. بل الحق أنها تضر ولا تنفع، وأنها تؤذي ولا تُصلح!


والإكثار من قراءة الروايات يشبه الإكثار من الاستماع إلى المسلسلات والأفلام، وأكبر الضرر أن تكون مادّة العقل وأفكاره ورؤاه وتصوراته مبنية على قصص خيالية حبكتها عقول المؤلفين، بينما حقيقة الحياة أكثر تركيبا وتعقيدا وعمقا. إن هذا الحال يشبه كثيرا أن يكون كل غذاء الجسم من المأكولات السريعة: حلوة الطعم حافلة بالمقبلات ولكنها مضرة بالجسم.

ربما كان الكثير من الشباب معذورا، لم يجد من يوجهه إلى المعرفة الثقيلة الرصينة النافعة، وربما كان العذر في أن هذه المعرفة النافعة لم تُكتب بأساليب سهلة مبسطة مشوقة تمتع القارئين، فظلت حكرا على المتخصيين فيها وعلى من يتصبر لها ويتجلد أمامها حتى يفهمها فيذوق لذتها.

وأكثر ما أشعر بهذا المأزق حين يتكاثر في بريدي سؤال متكرر: ماذا نقرأ في التاريخ؟ وكيف نتخلص من عقدة أن ما نقرأه سرعان ما ننساه؟!

هذا مع أن التاريخ مَبْنَيٌّ على القصص والحكايات، حتى لقد أوصى بعض العلماء طالبَ العلم أن يتعلم التاريخ "خاصةً وقت راحته وسآمته من تعلم غيره من العلوم، فإن هذا العلم سهل جداً، ومَنْشَط ومُنْتَزَه ولذة، لا ينبغي لأحد أن يخلو منه"[1]، فيجتمع في مطالعة كتب التاريخ "ترويح للخواطر وعِبَرٌ لأولى البصائر"[2]. وقد تكرر في كلامهم أن علم التاريخ "يستمتع بسماعه العالم والجاهل، ويستعذب موقعه الحمق والعاقل، ويأنس بمكانه وينزع إليه الخاصىِ والعامي، ويميل إلى رواياته العربي والعجمي"[3].

لقد جُبِل الإنسان على حب القصة، وعلى الشغف بالسرد، حتى لو أنه يعرف نهاية القصة فإنه لا يزال يستمع إليها معجبا بها، وبهذه الفطرة سمعنا قصص الطفولة من آبائنا وأمهاتنا عشرات المرات ولم نكن نشعر بالملل.

فلماذا إذن يستثقل الشباب في زماننا قراءة التاريخ ويستخفون قراءة القصة؟!

لهذا أسباب عديدة بعضها يتصل بمناهج التاريخ المعاصرة التي اهتمت بالتحليل والتعليل والتفسير واتخذت لنفسها من المناهج والأساليب الأكاديمية ما أبعدها عن الجمهور، وبعضها يتصل بأساليب تدريس التاريخ في مدارسنا، وبعضها يتصل كذلك بالضعف العام للهمم والركون إلى السهل في عالمٍ تسيطر عليه حضارة اللذة والسرعة وسرعة تقلب المزاج وحب الراحة!

كنتُ أجيب السائلين بأن عليهم أن يتركوا الروايات ويقرؤوا كتب المذكرات الشخصية وأدب الرحلات وحتى أدب السجون، ففيها يتحقق جانب المتعة بالسرد والوصف إلى جانب كونها حقيقية وليست خيالا ابتدعه عقل مؤلف! فتكون قراءتها اطلاعا على حقيقة العالم وعلى العالم الحقيقي، ويكتسب القارئ فيها ثقافة ووعيا بما يجري في دنيا الناس وما يؤثر عليه في دنياه وفي أخراه أيضا.

وهذه السطور هي تعريف بكتاب عظيم اجتمع فيه العلم والمتعة، الدين والدنيا، النفع واللذة، ذلك هو كتاب "الرحلات الحجازية" للشيخ الدكتور محمد موسى الشريف.

مؤلف هذا الكتاب عُرِف بغزارة الإنتاج، وقائمة كتبه طويلة متعددة منها ما بلغ عددا من المجلدات ومنها الكتيبات الصغيرة.. وقد حدثني –حفظه الله- أنه صار يتعمد أن يخرج كتبا صغيرة لأن همم القراءة قد ضعفت، وهو لا يحب أن يظل العلم حكرا على المتخصيين والقلة من ذوي الهمة.

وقد دفعته هذه الرغبة فيما يبدو لتلخيص وتهذيب عدد من الموسوعات الكبرى العلمية، لتكون أيسر على القارئين، ككتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي والذي بلغت به بعض الطبعات خمسين مجلدا وهو سجل حافل للشخصيات الكبيرة في التاريخ الإسلامي لسبعة قرون، حيث اختصره د. موسى الشريف إلى أربعة مجلدات بعنوان "نزهة الفضلاء"، ومثل ذلك كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي وهو سفر ضخم في التراجم اختصره إلى مجلدين بعنوان "الأخبار العليّات"، ومثلهما كتاب "رياض النفوس" وهو تراجم لأعلام المغرب الإسلامي اختصره في مجلد واحد. ثم أتمَّ مسيرة التراجم بكتاب آخر اختصره من تسعة عشر كتابا في التراجم لأعلام الإسلام بين القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الهجري، وسماه "المختار المصون من أعلام القرون" في ثلاث مجلدات.

لكن الكتاب الذي نحن بصدده مُخْتَصَرٌ من بين نحو الثلاثين مجلدا، فقد نهضت همة الشيخ إلى جمع أربعة وعشرين كتابا كتبها أصحابها عن رحلتهم إلى الحج، ثم اختصر ذلك في كتاب واحد، فخرج الكتاب في ثلاث مجلدات كأنه خلاصة الخلاصة ورحيق الرحيق، وسمَّاه "المختار من الرحلات الحجازية إلى مكة والمدينة النبوية"!!

وقد اتسعت دائرة الجمع، فشملت القدامى كابن جبير وابن رشيد الفهري وابن بطوطة كما شملت المتأخرين كشكيب أرسلان ورشيد رضا وعلي طنطاوي ومحمد حسين هيكل. كما شملت كذلك كتب المستشرقين الغربيين الذين تنكروا كمسلمين ليشاهدوا الحج ويكتبوا عنه، مثل فارتيما وجوزيف بتس وريتشارد بيرتون.

فاجتمعت في هذا الكتاب أنواع من المعارف واللطائف وزوايا النظر لاتساع الزمان وتعدد الرجال، فلكل زمان أهله وأفكاره وقضاياه، ولكل مؤلف رؤاه وقضاياه وما يلفت نظره وما يعتمل في نفسه، حتى الأساليب اللغوية الأدبية قد تنوعت في هذا الكتاب بين القديم والحديث، المشرقي والمغربي، الأصيل والمترجم.

كأنه صورة بانورامية مصغرة وشاملة لرحلة الحج عبر عشرة قرون، تمر فيها على أحوال مكة والمدينة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وعلى طرق الحج وأحوالها وأوضاعها وما يكتنف الحاج فيها من المشاق وما وُضِع له فيها من التسهيلات، ومواقف الحكومات من الحج ما بين المنع والتضييق أو الفسح والتشويق، وطبيعة التنظيم لقافلة الحج والقائمين عليها وتدابيرهم في الحماية والحراسة ونحو ذلك، وأحوال المطوفين في مكة والمُزَوّرين (أي الذين يرشدون الزائرين) في المدينة وتعاملهم مع المسلمين ممن لا يعرفون العربية وما يقع بينهم وبين الحجاج من تراحم أو ضده، وما يقع في الحج من التعارف والتآلف واللقاء بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وما يقع للحجاج عند مغادرة بلادهم من التوديع وعند العودة إليها من الحفاوة.

وكأنه بستان متنوع من الخواطر والنظرات الإيمانية التي جالت في صدور أصحابها وهم في الديار المقدسة، وبستان متنوع من صور الشوق العظيم الذي يغمر قلوب المسلمين، فمنهم من حجَّ فارتوت أشواقه وتجددت، ومنهم من لم يدرك ولكن قَلَمًا لأحد هؤلاء الرحالة سجَّل هذه الأشواق.

وظهر في هذه الرحلات آثارٌ علميةٌ واجتماعيةٌ يصعب أن تُدرك بوضوح في مصادر التأريخ التقليدية، كذلك الذي يقع بين الحجاج وبين المدن على طريق الحج من الإقامة والزواج والتعليم والتجارة، وما يتعرض له الحجاج من المغامرات مع قطاع الطريق أحيانا ومع غيرهم من قوافل الحج أحيانا أخرى، وما شاع في بعض الأزمنة والأمكنة من العادات والتقاليد الدينية والدنيوية، وما يترنم به الحجاج من الأناشيد والأهازيج، وما أصدره بعض العلماء من فتاوى لإسقاط فرض الحج حين يبلغهم ما في الطريق من الصعوبات والمخاوف، وكيف استقبل الناس هذه الفتاوى فمنهم من غلبه الشوق ومنهم من غلبه الخوف.

ولا تخلو هذه الرحلات من فوائد قوية في الأحوال السياسية لبلاد المسلمين، لا سيما ما تعلق منها بأمراء مكة والمدينة وأعيانهما، وأوضاع الخلافة الإسلامية لا سيما في العصر المملوكي والعثماني، وما كان يلقاه الحجاج من الرعاية أو الإهمال، وكيف أدارت السلطة شأن الحجاج بداية من تمهيد السبل والحماية من قطاع الطرق وتنفيذ الحجر الصحي ومتابعة شؤونهم في التنقل والإقامة ورفع المظالم، وذلك المشروع الكبير الذي تعلقت به قلوب المسلمين في عهد السلطان عبد الحميد: سكة حديد الحجاز!

ومن عادة المؤلف حفظه الله، أنه يضع في نهاية الكتاب فهرسا للفوائد، يضع فيه ما هو جدير بالنظر والمطالعة من المعارف اللطائف والغرائب والمواعظ وما يثير التأمل، وهذا الفهرس هو من بدائع ما يفعل المؤلف، ومن يبدأ بقراءته يزداد شوقا لمطالعة الكتاب. وقد صرَّح في كتابه "رحلتي مع القراءة" بقوله:

"لما تعمقت في القراءة رأيت أن أضع علامة على المواضع المهمة في الكتاب حتى أعود إليها فيما بعد، وقد أفادتني هذه الطريقة فيما بعد، فقد كنت إذا أردت الرجوع إلى كتاب قرأته من قبل فإني أقلَّب صفحاته لأعرف المواضع المهمة فيه. وربما وضعت بعض التعليقات داخل الكتاب على ما أجده جيداً أو مستهجناً مما أقرؤه. وربما وضعت في صدر الكتاب بعد فراغي من قراءته رأيي فيه وفي مصنفه بكلمات موجزة قليلات. ثم إني انتهيت في القراءة إلى وضع فهرسة خاصة لفوائد كل كتاب أقرأه غالباً، وذلك الفهرست -فهرست الفوائد- هو العمل الأرضى عندي في باب القراءة؛ وذلك لأن الفهرست يعد خلاصة ما في الكتاب".

وللمؤلف أيضا كتابان آخران يتعلقان بأمر الحج، أولهما كتاب "المقالات النفيسة في الحج إلى الأماكن الشريفة" وهو قريبٌ من فكرة كتاب "الرحلات الحجازية" إلا أنه عن المقالات لا عن الرحلات، وفيه جمع المؤلف عشرات من عيون المقالات التي كتبها أئمة وعلماء ودعاة وأدباء في شأن الحج ومعانيه وفقهه وآثاره في النفس والمجتمع وما يوصى به للحاج في نفسه أو ما يُرفع للحكام والأمراء من النصائح في باب الحج، وقد استخرج هذه المقالات من المجلات والجرائد وكثيرٌ منها هو في حكم الضائع لأنه لم يُجمع ضمن كتب أخرى لصاحبه. فهذا الكتاب بستان آخر في عالم الحج والحجيج، وشعاع نور بديع تشاركت في نسجه ورسمه أقلامٌ أصيلة رصينة.

وثانيهما هو كتاب "الشوق والحنين إلى الحرمين"، وهو مستخلص من كتاب "الرحلات الحجازية"، إذ أفرد المؤلف أخبار الشوق والحنين لدى الحجاج وما يتصل بها في ذلك الكتاب الصغير، وحسنًا فَعَل، إذ هو أرجى أن ينتشر ويُقرأ ويتحقق منه معنى التشويق والتحفيز إلى الحرمين الشريفين.

والخلاصة المقصودة أن كتاب "الرحلات الحجازية" هو نموذج بديع وعظيم للكتب التي ننصح أن ينصرف إليها الشباب عن غيرها من الروايات الأدبية والخيالية، فلا بد للمرء أن يكون حريصا على عقله كما هو حريص على جسمه، بل غذاء العقل أهم وأولى من غذاء الجسم، لا سيما وكثيرٌ من غذاء العقل النافع هو أيضا غذاء ممتع ولذيذ.

نشر في مجلة المجتمع الكويتية، أغسطس 2020


[1] ابن حزم، رسائل ابن حزم، 4/73؛ ابن الجوزي، شذور العقود في تاريخ العهود، تحقيق: د. أحمد عبد الكريم نجيب، ط1 (د. م: مركز نجيبويه، 2007م)، ص33، 34.
[2] ابن الأكفاني، إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، نشر: طاهر بن صالح الجزائري، (بدون بيانات نشر)، ص18؛ وانظر: مسكويه، تجارب الأمم، 1/49.
[3] المسعودي، مروج الذهب، 2/53.

هناك 6 تعليقات:

  1. بارك الله فيك أستاذ محمد فعلا شوقنا لقراءة كتاب الرحلات الحجازية للدكتور محمد موسى الشريف ، اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا .

    ردحذف
  2. جزاك الله خيرا نتمنى ان نعود ويعود الشباب لقراءة الكتب كما كنا سابق

    ردحذف
  3. شئ جميل بأن يضيف المؤلف قيمة باختصار الكتب كاحترام لوقت القارئ

    ردحذف
  4. جزاك الله خيرا

    ردحذف
  5. غير معرف5:34 م

    بارك الله فيكم وجزاكم الله خير الجزاء

    ردحذف
  6. جزاك الله خيرا ونفع الله بك الإسلام والمسلمين جميعا وحفظك من كل سوء ومكروه وشر وكتب أجرك إن شاء الله

    ردحذف