السبت، يونيو 06، 2020

وقفة مع "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض"؟


من الآيات الشديدة في القرآن الكريم قوله تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، وذلك أنه تبارك وتعالى استعمل لفظ "وتكفرون" الذي هو غاية التشنيع على فاعليه والتقبيح لعملهم، فلم يقل مثلا: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتتركون بعض، وتدعون بعض، أو حتي: وتنسون بعض، أو: تهملون بعض.. لا، إنما استعمل لفظ "الكفر".
وهذه الآية يكثر استعمالها على ألسنة الدعاء والعلماء حين يعمدون إلى الإنكار على بعض العادات أو السلوك المخالف للدين بين المسلمين، وهي لهذا آية ينفر من سماعها أولئك الذين يصدون عن سبيل الله وأولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.

لكن الغريب الذي يلفت النظر هنا أن هذه الآية نزلت تدين سلوكا كان اليهود يفعلونه، هذا السلوك إذا حُكِي اليوم في أمتنا فأغلب الناس سيرون أنه عمل عظيم يدل على التمسك بالدين وعلى تعظيم اليهود لشريعتهم!!

ومختصر الأمر أن اليهود في المدينة المنورة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كان أكبر قبائلهم ثلاث: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. ومع هذه الفرقة فيما بينهم اختلفت مصالحهم فاختلفت حساباتهم وتحالفاتهم السياسية، حتى وصل الأمر إلى أن بني قريظة كانت في حلف مع الأوس، وبني النضير كانت في حلف مع الخزرج، فإذا نشبت الحرب بين الأوس والخزرج (وهم وثنيون) تقاتلت كل قبيلة من اليهود مع حلفائهم، فإذ باليهودي يقتل اليهودي وينهب ماله ويخرب داره تقديما لحسابات السياسة والحلف على صلة الدين والعقيدة.

حتى إذا وضعت الحرب أوزارها، سعى جميع اليهود في افتداء الأسرى منهم، فيسعى بنو النضير في افتداء أسرى بني قريظة والعكس كذلك، فكانت العرب تستغرب هذا وتُعَيِّرهم به، يقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ فيقول اليهود: إنا أُمِرنا في شريعتنا أن نفديهم وحُرِّم علينا قتالهم. فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ فيقول اليهود: إنا نستحيي أن يُسْتَذَلَّ حلفاؤنا.

وروى أصحاب التفسير وقائع تدل على أن اليهود كانوا يبذلون المال وإن غلا وزاد في افتداء الأسرى منهم ولو من بلاد بعيدة، مع أنهم أبخل الناس بالإنفاق. ويرون أن التخلي عن الأسرى وقوع في الكفر[1].

وهكذا كان اليهود يقاتلون بعضهم نزولا على مقتضى السياسة وأحلافها، ويفدون بعضهم نزولا على مقتضى الدين والعقيدة.. وهنا نزل القرآن الكريم يُشَنِّع عليهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويتوعدهم بالعذاب بألفاظ قوية رهيبة:

(وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تُخْرِجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم، وهو محرم عليكم إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُرَدُّون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون).

لو غضضنا الطرف مؤقتا عن هذا التشنيع القرآني الشديد، واستعملنا ثقافتنا المعاصرة في تقييم هذا المشهد فإن أغلب المحللين سيرى أن هذا من نبل الأخلاق وشدة الإيمان، إذ كيف تسمح نفس المرء أن يدفع من أمواله ليفتدي أسيرا كان هو نفسه سببا في أسره، وربما لو اختلف الحال قليلا لكان قد قتله فعلا، ثم انظر كيف ينسى القوم ما كان بينهم من القتال ليتعاونون معا في فداء أسراهم!

لو تصورنا مثلا أن دولتين من الدول الإسلامية نشبت بينهما الحرب، أو حتى لو عدنا بالذاكرة إلى ما قبل ثلاثين سنة وتصورنا أن الحرب قد نشبت بين المعسكرين الشرقي والغربي، واضطرت دولتان مسلمتان تحت ضغط السياسة أن تتقاتلا، ثم إذا انتهت الحرب انطلقت هاتان الدولتان في مباحثات دبلوماسية محمومة وبميزانية مالية مفتوحة لاستنقاذ الأسرى المسلمين.. إذا حصل هذا فكيف كان سيكون تقييم هذا الأمر؟! سيُكتب في إنجازات هاتين الدولتين وسيُبَرَّر لهما ذنب دخول الحرب بمقتضى السياسة والحلف وتكتب فيهما عرائض التبرير بمعاذير الاضطرار والإكراه والتأويل!

لقد ابتعدنا عن المثال كثيرا، إننا الآن في زمن يستبيح فيه بعضنا بعضا بلا دين ولا حتى قانون وضعي، بل أكثر البلاد المسلمة الآن ترتكب جرائم تسليم المسلمين لعدوهم وهم يعلمون ما سيلقونه من القتل والتعذيب الشديد، والأمثلة معروفة ومريرة. فإذا كان هذا التشنيع الإلهي الشديد على من ترك شيئا من شريعته وتمسك بشيء، فكيف يجب أن يقال في مثل هؤلاء الذين تركوا الكتاب مطلقا فقتلوا وأسرا وسَلَّموا؟!

ورد عن عمر رضي الله عنه حين قرأ هذه الآية أنه قال: "إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم يا أهل الإسلام تُعنون بهذا الحديث".

لقد كانت هذه الآية واحدة من الأعمدة التي بُنِيَت عليها أحكام التحالف بين المسلمين وغير المسلمين، وأحكام القتال بين المسلمين إذا وقع بينهم، وأحكام التعامل في قتال البغاة والغلاة من المسلمين وأسراهم وجرحاهم، والاستعانة عليهم بعدو من غير المسلمين، إلى آخر هذه الأحكام المبسوطة في كتب الفقه.

ولقد كان تعبير الآية عن القضية تعبيرا لطيفا عالي المعنى، توقف عنده المفسرون طويلا، يقول تعالى (وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تُخْرِجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم).

قال أهل التفسير: "نفسك يا ابن آدم أهل ملتك"[2]، وقالوا: "جعل غيرَ الرجل نفسَه إذا اتصل به أصلا ودينا"[3]، وقالوا: "فإن قيل: وهل يسفك أحدٌ دمه، ويخرج نفسه من داره؟ قيل له: لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحدا، وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض وإخراج بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها"، وبعض القراءات جاءت بصيغة المبالغة كقراءة "تُسَفِّكون دماءكم" وهي زيادة في التقبيح والتشنيع[4].

وتوقف بعض المفسرين عند هذه الآية مع معنى عقوبة النفي، فقال: "وفيها تحريم إخراج الإنسان من دياره وأرضه وتغريبه بغير حق، والإخراج من البلد عقوبة شرعية يجب ألا تنزل إلا بسبب شرعي، قال تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) فجعل الله سبب الإخراج من البلد: محاربة الله ورسوله، وإنزال العقوبة لمجرد مخالفة المحكوم للحاكم في رأيه –الذي لا يخرج عن حد النقل والعقل- غير جائز. ولما جعل الله النفي عقوبة دلَّ هذا على أن بقاء الإنسان في بلده حق مشروع له، يجب أن يحفظ ويصان، ومن واجبات ولي الأمر حفظه، وليس نزعه... وعقوبة الإخراج من الأرض والبلد عقوبة شديدة يقر بقسوتها جميع الشرائع المؤمنة والكافرة، قال تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودون في ملتنا، فأوحي إليهم ربهم لنهلكن الظالمين)، فسمّى الله الإخراج من الأرض ظلما... وينبغي للحاكم الذي يريد إخراج أحد من بلده: أن يعرف قدر أثر الإخراج على صاحبه؛ فهو ظلم شديد، ولا ينبغي أن ينزل إلا في حال العجز عن كف الأذى والردع إلا به، ولا بدَّ من معرفة قدر الفساد اللازم من إخراجه عليه وعلى ذريته من بعده، ومقارنته بالسبب الموجب لإخراجه، والحكم في ذلك لتقدير الله في كتابة وسنة نبيه بنظر عالم عارف، لا بالهوى والتشهي"[5].

 نشر في مجلة المجتمع، يونيو 2020


[1] انظر: تفسير ابن كثير، 1/478 (ط1 مؤسسة قرطبة، 2000م)؛ موسوعة التفسير بالمأثور، 2/528 وما بعدها (ط1 دار ابن حزم، 2017م).
[2] تفسير الطبري، 2/300، (ط1 مؤسسة الرسالة، 2000م).
[3] حاشية الطيبي على الزمخشري (فتوح الغيب)، 2/559 (ط1، جائزة دبي للقرآن الكريم، 2013م)، وما في المتن عبارة الزمخشري.
[4] تفسير القرطبي، 2/236 (ط1 مؤسسة الرسالة، 2006م).
[5] الطريفي، التفسير والبيان، 1/81، 82 (ط1 دار المنهاج، 1438هـ).

هناك 4 تعليقات:

  1. جزاكم الله خيرا أستاذنا الحبيب ولكن لاحظت خطأ في كتابة الآية الكريمة فلربما كان سهوا وددت التنبيه عليه ( وإذ أخذنا ميثاقكم...) سامحونا استاذنا الفاضل فتح الله علينا وعليكم فتوح العارفين.

    ردحذف
  2. غير معرف9:55 م

    جزاكم الله خير ..
    في حسابكم في التلجرام صورة العرض صورتكم الشخصية
    هي ذات روح لا تجوز، و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا صورة".

    ردحذف
    الردود
    1. غير معرف9:14 ص

      التحريم جاء علي رسم الأرواح او تمثيلها كالتماثيل اما الصورة الإلكترونية لا حرمة فيها لأنها ليست بصورة بل هي نقل للصورة التي خلقها الله من غير تغير بخلاف الرسم والله اعلم

      حذف
  3. غير معرف9:56 م

    يتبع لردي السابق لم أكمل المقالة جزاكم الله خير.

    ردحذف